اللامرئي في الصورة: الشعرية في أفلام سعودية
30 July، 2022
زينب الشيخ علي
ضَوء
بدأ الإنسان بعفويته البدائية في رسم مشهدية الحياة ومخاوفها حين خربش على جُدران كهوفه الأولى صورةً لما يفعل، صورة لما يخاف أو يرغب أو يفكر. قدَّم تلك الصورة بكل ما فيها من تلقائية، ثم أصَّلَها تتابع الزمن، وألبسها كلَّ شكل ممكن للفن في صياغاته الزمنية المتعددة.
وفي التشكيل، ابتكر الإنسان اللون، اختباراته، وتراكماته تجريبًا تعبيريًّا أخذ اللونَ إلى أقصى دلالاته، وعبّر فيه عن المعنى الذي يمكن أن يصل إليه. وفي حين يقول بطل رواية أحلام مستغانمي للفتاة التي تزور مرسمه: “الفن هو كل ما يهزُّنا وليس بالضرورة هو كل ما نفهمه”، فإنه كان يحاكي معنى الشعر في لوحته تلك. الشعر هو الوقفة التي أخذت الفتاة الشابة، لتبقى وتسأل وتغادر بتلك الفكرة في رأسها الصغير.
الشعر هو ما يعلقُ في رأس طفل لا يعرف شيئًا عن السينما، عن التصنيف أو الأدوات، أو الطريقة التي يرسمُ بها صُنّاع الأفلام أشكال حكاياتهم. الشِعر هو المشهد الذي يغرس إشاراته وتذكُرُ فيه ما يحدث، لا من خلال الطريقة التي رُسمَتْ بها تلك الصورة، لكنْ عبْرَ ما يحدث في داخلها تمامًا.
في تعريف الشعر يقول أمين صالح مؤلف كتاب شعرية السينما: “لا يمكنك تعريف الشعر على الإطلاق، يمكنك تعريف القصيدة بأنَّ لها وزنًا وقافية، لكنّ الشعر شيءٌ عام، تحسُّ به من ثقافتك وحساسيتك تجاه الصورة والحوار والموسيقى”.
لغة: من يملك الشعر؟
ثمة صورة مألوفة للشعر داخل اللغة، داخل الكلمات. ثمة اعتقاد سائد أن القصائد قالت كلَّ شيء، على الأقل في عالم كان المكتوب والمنطوق له معجزةً وهوسًا. لكنّ الشعر في حقيقته يجيء بمعنى أكثر عمومية وشمولًا، يجيء الشعر في اليومي والمألوف، في التفاصيل الحساسة التي ليست إلا طريقًا نحو داخل الإنسان وشعوره، كما يخبرنا أرسون ويلز: “إن الفيلم لن يكون جيّدًا ما لم تكن الكاميرا عينًا في رأس شاعر”.
لكنّ المفارقة تكمن في سؤال ما إذا كنا سنقرأ شعرًا لنقول شيئًا في تلك الصورة. فذلك لن يبدو إلا عبثًا؛ لأنَّ اللغة تملك أدواتها، والمشهد أيضًا. عليك أن تُوظف ما لديك من أدوات في الصورة نفسها من ضوء وحركة وصمت وحوار وموسيقى، لتأخذها لأقصاها قبل أن تصل.
يقول حكيم بلعباس: “ما نسميه السينما الشعرية هو ما ينقلنا من منظومة السينما الكلاسيكية، إلى ما يسمى “الصورة الديمومة” أو “الصورة الزمن”، أو ما يسميه تاركوفسكي “النحت في الزمن”، وهي صورة نفهمها تلقائيًّا لأنها تتعدَّى كل شيء فينا وتلمس شرط الإنسانية، هي سينما تصلُ بنا إلى أن نجعل من الشيء غير المرئي شيئًا مصوَّرًا، شيئًا مرئيًّا”.
ما زلنا في بدايات المسافة التي يقطعها الكلام قبل أن يصير شعرًا داخل الصورة، إذ يستمرُّ صُنّاع الأفلام السعوديون في محاكاة وتطوير الصورة، والإمساك بتلك اللحظة المضيئة لما هُو بسيط وشاعريٌ في آن.
لأنه بسيط؟
اكتسب الشاعر “السيّاب” جمهورًا واسعًا يردّد قصيدته: “مطر.. مطر.. مطر، أتعلمين أيَّ حزن يبعث المطر؟”؛ لأنه استطاع أن يكتب بلغة الإنسان اليومي البسيط همومًا كثيرة، ويعبّرَ من ذاته فردًا ليحكي عن عذاب الوجود، ويشتغل صورة لفظية لشعور داخلي وأسئلة كثيرة.
بينما جاء تاركوفسكي للسينما الروسية وللعالم بأفلام شعرية أصيلة، عدَّها البعض صعبة أو بطيئة أو مملة، لكنها قائمة على المشهد القريب والحميمي من روح الإنسان. يقول تاركوفسكي: ذات مرة كتبَتْ إليَّ امرأة من جوركي: “أشكرك على (المرآة)؛ طفولتي كانت كذلك. تلك الريح والعاصفة، الغرفة كانت معتمة وأنا أنتظر عودة أمي. إحساس مدهش، لكن كيف عرفتَ ذلك؟ كم هو صادق! كم هو بسيط فيلمك! أتعلم وأنا أنظر للشاشة، شعرت للمرة الأولى في حياتي بأنني لست وحيدة”.
تجارب سعودية
ولكن ماذا عن شعرية السينما في السعودية؟ هُنا نأتي إلى هذا السؤال، وإذا ما كُنّا قد حاولنا أن نصل إلى السينما الشعرية من خلال التجارب السعودية. ويَحضُرُ الفيلم الروائي القصير “قاري” للمخرج محمد سلمان، الذي يتناول في صورة حميمية عائلة من القرية تعيش تفاصيل يومها بشكل محوري مُتصل بعربة حديدية، وعلاقتها بتفاصيل الحياة في تلك العائلة.
أيضًا يمكن العثور على الشعرية في تجربة الفيلم الروائي “الظلام هو لون أيضًا” للمخرج السعودي مجتبى سعيد، الذي تم تنفيذه في إحدى غابات ألمانيا، وتدور قصته حول صيّاد يمرُّ بأزمة البحث عن هوية ويتساءل عن معنى الحياة. ويؤدي اختفاء كلبه “بيركو” إلى انطلاقه في رحلة جديدة وحقيقية للعالم الذي طالما أحبَّه وتعلَّق به.
تأخذ الأفلام أحيانًا اتجاهًا جديدًا صامتًا يعتمد بشكل أساسي على تتابع الصورة والحركة وكل الأدوات الممكنة للضوء والحركة؛ لتستغني عن الكلام، ربما كانت هذه صورة بصرية شعرية للسينما.
الجدير بالذكر هو التجارب الأخيرة التي تم عرضها في مهرجان أفلام السعودية للدورة السادسة عبر الإنترنت، ومنها فيلم “ثاد” للمخرج معاذ العوفي؛ وهو فيلم وثائقي يُعرَض لأول مرة في السعودية، وبدا أرشيفًا مصوَّرًا؛ إذ يوثق في سبع دقائق رحلة اكتشافٍ جديدة للصحراء. وكذلك الفيلم الوثائقي القصير “رقص شجرة الزيتون” للمخرج محمد الفرج، وهو يختبر فيه تجربة جديدة مع الفنانة سارة إبراهيم، مستلهمَيْن من شجرة الزيتون ومصانع القرميد الحالة التي يرقص فيها الجسد كشجرة تهزُّها الريح.
ما زلنا في بدايات المسافة التي يقطعها الكلام قبل أن يصير شعرًا داخل الصورة، لكننا من خلال تجارب ومحاولات عديدة -لا يسعها المقام للذكر- قطعنا خطوة دائمةً في ذلك الطريق؛ إذ يستمرُّ صُنّاع الأفلام السعوديون في محاكاة وتطوير الصورة، والإمساك بتلك اللحظة المضيئة لما هُو بسيط وشاعريٌ في آن.