• English
  • 20 يناير، 2025
  • 4:21 ص

الفيلم السعودي يعزز معنى الحرية وقيم المجتمع الجديد

الفيلم السعودي يعزز معنى الحرية وقيم المجتمع الجديد

4 January، 2023

بقلم علا الشيخ

لم تعد المخرجة هيفاء المنصور؛ صانعة أفلام “وجدة”، “ماري شيلي”، “المرشحة المثالية”،  تتصدر المشهد منفردة، وذلك في حضور كوكبة من المخرجات والمخرجين، الذين صاروا يقدمون أفلامهم الجريئة، ليس فقط على المستوى المحلي، بل يجوبون بها مهرجانات العالم، ليسردوا واقع المجتمع السعودي الحديث، الذي لم يكن يعرف عنه المتلقي سوى ما تصدره وسائل الإعلام في إطار صورة نمطية.

إن أغلبية الأفلام التي تم إنتاجها في السنوات الماضية، تتناول العائلة السعودية، التي تطل من بيوت تحمل الكثير من الغصات والضحكات أيضًا. هي أفلام اجتماعية، تحكي الشوارع، تستعرض الأحلام، تسترجع ماضي البلاد في فترة السبعينيات وتقارنه بما بعدها من حياة أكثر إنصافًا وتطورًا.

المرأة أيضًا تحضر بقوة في الحراك السينمائي الحديث، كمخرجة، ومنتجة، وكاتبة، وبطلة، وهذا من شأنه لفت الانتباه إلى التفاصيل المتعلقة بالنساء، وما يواجهنه من معاناة، كما هو الحال في فيلم “بلوغ”، الذي قدمت فيه خمس مخرجات خمس قصص قصيرة متنوعة، متصلة بأحداث الواقع. كذلك، يتجلى مفهوم العائلة على نحو ناضج في فيلم “أربعون عامًا وليلة”، الأمر الذي يثبت دور الفيلم السعودي في تفجير القضايا الملحّة، وتحطيم الصور الاجتماعية النمطية.

تسترجع السينما السعودية ماضي البلاد في السبعينيات وتقارنه بما بعدها من حياة أكثر إنصافًا وتطورًا.

لوحات نسوية

مشهد من فيلم بلوغ

من المؤكد أن صانعات فيلم “بلوغ” الخمس: هند الفهاد، جواهر العامري، نور الأمير، فاطمة البنوي، سارة مسفر، يلعبن دورًا كبيرًا في الجذب، لهؤلاء الآخرين، الذين تشكلت صورة سابقة في أذهانهم حول شكل المرأة السعودية. ومن ثم، يسهم هذا التجمع النسوي، كتابة وإخراجًا وبطولة، في تقديم الإجابات حول الأسئلة العالقة والمترسخة في أذهان المتلقين، وهذا من شأنه أن يعطي فرصة للفيلم لأن يكون له حضور كبير في المشاهدة، بخاصة أنه يحمل أسماء مخرجات استطعن في فترة قصيرة ترك بصمة في عالم صناعة الأفلام. هو فيلم يتكون من خمس لوحات قصيرة، يتعرف المشاهد من خلالها على أمور تشغل المرأة السعودية. وتبدو كل لوحة منفصلة عن الأخرى، لكنها بشكل ما مكملة لها، حيث إن العنوان الأشمل هو الواقع.

صانعات فيلم “بلوغ” الخمس، يلعبن دورًا كبيرًا في الجذب، لهؤلاء الآخرين، الذين تشكلت صورة سابقة في أذهانهم حول شكل المرأة السعودية.

مخرجات بلوغ في مهرجان القاهرة السينمائي

“كريمة سمية”، هو الفيلم الأول من اللوحات الخمس، من تأليف وإخراج نور الأمير، وهو الأقصر مقارنة ببقية الأفلام. يتحدث عن العروس سمية التي لا نراها طوال الفيلم، بل تظهر في الصورة أمها التي تتراقص فرحًا بين الأقارب والمدعوين. وثمة توتر ملحوظ، بخاصة أن العروس تأخرت في الحضور، والجميع يعتقد أنها ما زالت تتزين، أو أن الخجل يمنعها، لأنها ترفض أن تفتح الباب طوال الوقت. وينتهي الفيلم مع طرحة عرسها البيضاء المعلقة في مواجهة نافذة مفتوحة تتطاير ستائرها البيضاء أيضًا، وهنا التطاير يعني الحرية التي اختارتها سمية للهروب من الزواج رغمًا عنها. ولعل هذه القصة تم تناولها سابقَا، لكن التحدي كان في اختزالها.

ويخلق تراكم المشاهد الحدث في الفيلم الثاني “الصباح”، الذي كتبته وأخرجته سارة مسفر، بالرغم من الارتباك الواضح في طريقة الحبكة. وهو يحكي قصة أم لبنتين، هي المعيلة لهما بسبب عمل الأب في البحر، ولديها صالون نسائي. هذا الفيلم، يريد أن يلقي ظلاله على الحياة المبتغاة في ظل واقع الرفض، لذلك تحضر مفاهيم الحريات بصور لفنانين من الزمن الجميل، ومشاهد جريئة خاصة بالأم مثل التدخين، بالإضافة إلى أن الأرنب الخاص بابنتها اسمه أسد. وهو فيلم قائم على إرسال إشارات عديدة ضمن حبكة مفككة، ومن الممكن أن يكون هذا التفكك جزءًا من الحكاية المراد إيصالها، والتي كانت القوة فيها بالتمثيل، فثمة تخبط في السيناريو وحبكته، ومع هذا فالفيلم يبشر  بمخرجة متمكنة من أدواتها في إدارة عناصر الفيلم كافة.

لقطة من فيلم بلوغوفي الفيلم الثالث “حتى نرى النور”، الذي كتبته وأخرجته فاطمة البنوي، هناك إنصاف مباشر للمرأة، وانتصار لها، تحديدًا المرأة المطلقة، ضمن مكان واحد في الشارع، مع صوت المذياع الذي من خلاله نعرف أنه اليوم الأول لعودة الطلاب إلى المدارس. نحن أمام امرأة تقود سيارتها، وهذا التفصيل أصبح لابد منه في إعطاء لمحة للمتلقي عن الواقع الجديد المتمثل بقدرة النساء في السعودية على قيادة السيارات. وهي أم لطفل، ومن خلال أوراق تظهر، يتم التعرف على حالتها الاجتماعية والوظيفية، فنعرف لمحة عن امرأة أم ومطلقة وعاملة ومستقلة ماديًّا، كل هذا يأتي ضمن تجسيد حالة ثورية جديدة على الحياة في السعودية الآن.

وفي الفيلم تظهر العلاقة الحضارية  بين الأم وابنها، ويتبين أي نوع من الأمهات أو النساء هي، حيث تبدو مستقلة، جميلة،  قادرة على تحمل مسؤولية حياتها وطفلها دون الحاجة لأحد، وتطلب من ابنها إيجاد حل لمشكلة السيارة، فيقول لها “تحركي حتى نرى النور”. وتدور أحداث الفيلم في مكان واحد، وهذا كفيل بمراقبة كل حركة فيه من قبل الأم وابنها، وما يصدح به الراديو من عبارات تتسق والمشاهد والمبتغى.

“المرخ الأخير” هو رابع الأفلام، وهو من تأليف منال العويبيل وإخراج هند الفهاد، ويكاد يكون من أكثر الأفلام تماسكًا، بحيث يعطي مقارنة ذكية بين التمسك بالتراث المتمثل بالماضي والتوجه نحو العلم المتمثل بالحاضر، عبر الشخصية الرئيسية في الفيلم “أم إبراهيم”، المعروفة بمداواتها من خلال الطب العربي الذي يعتمد على الأعشاب. وتحدث بينها مواجهة، وبين الصيدلانية “مها” الحاصلة على الماجستير في علم الأعشاب، فحين يتأخر حمل “مها” تلجأ للتعامل مع “أم إبراهيم”، بدافع من زوجها، وكأنه لقاء بين الحاضر والماضي. ويبدو التحيز واضحًا لجهة العلم الحديث، بشكل يبتعد عن إنصاف “أم إبراهيم”، وكأن الحالة تستدعي مواجهة الماضي ومعاتبته، ومع هذا يظل من أكثر الأفلام تماسكًا، وبه لقطات مصنوعة بشكل لافت، وأداء يستحق التقدير للممثلات.

مجالسة الكون - من فيلم بلوغ

والفيلم الخامس، الأخير، ضمن مجموعة “بلوغ” بعنوان “مجالسة الكون”، من تأليف نورة المولد وإخراج جواهر العامري، وهو حول فتاة صغيرة في سن البلوغ، تعيش أحلامها أمام المرآة، وترتطم بواقع يضعها بين أمها التقليدية وخالتها المتمردة. وتتلقى الفتاة الكثير من الكلام الذي يتعلق بفترة البلوغ، ويحمل النقد والتخويف، مع لمحات مطمئنة من جانب الخالة، في ظل صمت الصغيرة، التي تكاد تتحطم أحلامها، فشدة التزمت لدى الأم مخيف، لذلك تقرر الفتاة الصمت، وكأنها تصم أذنيها لتعيش عالمها الخاص وخيالاتها الوردية.

وهذا الفيلم هو الأضعف، مقارنة ببقية المجموعة، حتى في عنصر الإضاءة، الذي كان يمكن أن يشرح المشاعر المتخبطة في الشخصيات الثلاث، إلا أنه بات عبئًا على المشاهد، ولم يتم توظيفه بشكل مستحق. ومع أن حكاية هذه اللوحة هي الوصف الأدق للعنوان الشامل “بلوغ”، فإن البلوغ اتضح بشكل أكبر في اللوحات السابقة بمفهومها الشامل المتعلق بالمرأة.

أربعون عامًا وليلة

ثمة عناصر يتم البحث عنها عندما يشاهد المتلقي فيلمًا مرت قصته على ذهنه من قبل، فتكرار الحكايات لا ضرر فيه إذا تم تدعيم هذا التكرار بعناصر أخرى تعمل على تقوية العمل وتميزه. وهذا ينطبق على فيلم “أربعون عامًا وليلة” من إخراج محمد الهليل، وتأليف بشاير الصومالي، وتظهر فيه أسماء مجموعة من الممثلات والممثلين السعوديين من أمثال: مشعل المطيري، سناء بكر يونس، خالد صقر، رهف إبراهيم، زارا البلوشي، أسامة صالح، منصور آش، وغيرهم.

الفيلم ببساطة يحكي قصة عائلة مكونة من أب وأم وخمسة أبناء وبنات يتجمعون ليلة العيد في منزل العائلة، وتنقلب حياتهم رأسًا على عقب عندما يصلهم خبر إصابة الأب في حادث سيارة، ونقله إلى المستشفى. وينكشف السر الأول لهذه العائلة، بأن والدهم متزوج من امرأة أخرى، وبعدها تنكشف الأسرار واحدًا تلو الآخر. فتجمع العائلة في مكان واحد في ظرف مثل هذا، يجعل المشاعر مختلطة، وقابلة للبوح والانفجار أيضًا، فلكل فرد في العائلة سره الخاص: طلاق، خيانة، سلوكيات لا أخلاقية، وغيرها من القصص المعتادة.

لكن ما يجعل عنصر التشويق يحضر في هذا الفيلم، هو فكرة الأب، أو السلطة الأبوية بشكل أدق، فعندما تفقد الأسرة الثقة برأس الهرم، تصبح الأمور التي جرت تخبئتها من قبل كل فرد في العائلة لا قيمة لها. وهنا نتحدث عن مشاعر الأبناء، وطريقة تجسيدهم لهذا الأب في حياتهم، ولذلك كان انكشاف سر زواجه  على والدتهم التي تشكل حالة جامعة للعائلة، هو خيانة برأي البعض، والبعض قرر ضرورة كشف هذا السر لها، والبعض الآخر رفض احترامًا لمشاعرها، بعد علاقة زوجية امتدت إلى أربعين عامًا.

وهذه القدرة على الإخفاء من شخص موثوق به بالإجماع “الأب”، هي التي تسببت في هذا التهاوي القاسي في المشاعر لكل شخصية في الفيلم، وظهور تأزم العلاقات بين الأخوة، الذي بدوره سيهدد شكلٍ العائلة المتماسكة. ليس هذا فحسب، بل سيتعداها إلى المشاكل الخاصة والسر الخاص الذي يخبئه كل فرد في العائلة، مثل الأخ الأكبر الذي اتضح أنه يعلم بزواج والده السري، وهو أيضًا منفصل عن زوجته، ولا أحد يعلم. وكحال إحدى الشقيقتين، التي تعاني من زواج مليء بالخيانات، بعد سنوات من الزواج أثمرت طفلة بحاجة إلى رعايتها، والتي تضعها الأم حجة لتحمّلها كل هذا الألم من زوج يتلذذ بإيذائها.

إن المفهوم الشامل للفيلم يدور حول: مَنْ يتحكم بِمَنْ؟ لذلك كان لابد من الإشارة إلى فكرة الأب التي تعني السلطة. وفي مجتمعات عربية عديدة، فالسلطة دائمًا بيد الرجل، ولذلك رأينا النساء مستسلمات لقدرهن، لأن الرجال في حياتهن، سواء الزوج، والأب، والأخ، يدعمهم المجتمع. أما المرأة: الأم، والزوجة، والشقيقة، فهي تبحث دائمًا عن مخرج كي تتعايش مع واقع لا مناص منه.

لقد وضع المخرج محمد الهليل الجميع في مواجهة مع نفسه قبل مواجهة الآخر. ولا شك في أن ثمة تذبذبًا في البناء الدرامي في الأحداث وفي الشخصيات أيضًا، إلا أن هذا لم يمنع تحقيق النوع في الصناعة، التي جرى بناء حكاية الفيلم عليها، والتي تنتمي لعنصري التشويق والإثارة. وصحيح أن هذه القصص مكررة، سواء في الأعمال الدرامية وحتى في السينما، لذلك بدأ الحديث عن الفيلم  بضرورة توفر عناصر تقوي هذا التكرار، والتي تمثلت هنا في حبكة متوازنة، وأداء تمثيلي جيد، وإدارة مهمة للإضاءة، مع تقطيعات وصناعة المشاهد، إلى جانب الموسيقى التصويرة اللافتة من تأليف غيا رشيدات.

وضع المخرج محمد الهليل الجميع في مواجهة مع نفسه قبل مواجهة الآخر.

وكل هذا التكامل في العناصر، كان لابد من تعزيزه، بخاصة أن مسرح الأحداث في  بيت العائلة على الأغلب، وهذا النوع من الصناعة يحتاج إلى التركيز في كل شيء يتحرك أمام الكاميرا، وهذا ما أعطى قيمة للمخرج ومنحه ثقة بقدراته.

فاصل اعلاني