عن تحليل الأفلام في عصر التحوّلات الرقمية: نقّاد مَلعونون
شفيق طبارة
12 August، 2024
شفيق طبارة
في ركن منسيٍّ ربما من العالم، يقرأ أحدهم جريدته الصباحية على شاشة حاسوبه أو هاتفه، قبل أن يشارك تعليقه على أحد الأخبار مع آلاف المستخدمين، ثم يعرض على موقع فيسبوك أو إنستغرام، صورةً توثّق ما فعله للتوِّ. ثم بنقرة صغيرة بسبابته، يصنّف فيلمًا أحبّه بخمس نجوم، أو يبخل على آخر بنجمة واحدة، ويشارك رأيه بالفيلم على مواقع التواصل. تلك لمحة صغيرة عن سلوكيات يومية باتت راسخة في حياة كل فرد في الفضاء الافتراضي. خلقت المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي واقعًا موازيًا للواقع المادي، وشكّلت ملاذًا، ومكانًا لقول أي شيء خلف حاجز آمن، وأيضًا ساحة تحوّل فيها المستهلك إلى منتج في دورة لا تنتهي. أتاح توسّع شبكة الإنترنت، التدفق الحرّ للمعلومات وفتح النقاش وتبادل الأفكار في ديناميّة تشكّل جوهر الديمقراطية نفسها. إلا أنّ الخوارزميات التي توحِّد كل شيء مكتوب، أدّت إلى فوضى حقيقية في المحتوى: تعليقات المستخدمين، مقالات النقاد السينمائيين، الاخبار الواردة من وكالات الانباء العالمية، آراء المشاهدين بالأفلام، مراجعات المدونين… كل شيء مكدّس في مكان واحد يُعرض بالطريقة نفسها، ويصل لنا بالرؤية نفسها. يفرض هذا الأمر تحديًا مزدوجًا: أولًا بالنسبة إلى أولئك الذين يبحثون عن المعلومات، أو في موضوع مقالنا؛ عن مقالات نقدية عن أفلام، حيث يكمن التحدّي في معرفة كيفية الوصول إلى هذه المقالات بين أطنان المراجعات، وثانيًا بالنسبة إلى النقاد؛ يكمن التحدي في وصول مقالهم بأقصى قدر من الدقة والسرعة.
صوت غير واضح
في عصرنا الجديد يبدو دور الناقد السينمائي، باعتباره الصوت الوحيد المصرّح له بالحديث والكتابة عن السينما، غير واضح. إن الأشكال الجديدة لعرض الأفلام واستهلاكها تفتح الباب لأي شخص، لديه اتصال بالإنترنت، كي يشارك أفكاره وآراءه حول أحدث الأفلام، مثل الرواد الإلكترونيين، الذين يكتبون تحليلاتهم على منصات الوسائط المتعددة، أو شبكات التواصل الاجتماعي، دون الحاجة إلى الحصول على تدريب أكاديمي أو مهني. فمن جهة، يؤدي ذلك إلى تعميق الأزمة التي يعيشها الناقد والنقد السينمائي منذ عقود، ومن جهة أخرى، يدشِّن مرحلة جديدة في مشاهدة الصور المتحركة وتحليلها ونقدها. وهذا سيقودنا إلى التساؤل عن مكانة الناقد المحترف داخل هذه المجتمعات، وتكييف دوره وخطابه من أجل البقاء حاضرًا في وسائل الإعلام الرقمية الجديدة.
مع تطوُّر عالم السينما وتقدُّم التكنولوجيا، يتطوّر عالم النقد السينمائي أيضًا. في الماضي، كان النقد السينمائي حكرًا على مجموعة صغيرة من نخبة النقاد الذين كانت آراؤهم تترك أثرها في الجماهير، حيث لم تكن الأفلام مثل اليوم متاحة للجميع في البيت. مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، تغيرت مشهدية النقد السينمائي بشكل كبير.
ينقسم النقد السينمائي إلى نوعين بخصائص مختلفة. من ناحية، لدينا النقد الأكاديمي، الذي يستهدف قارئًا خبيرًا أو أكاديميًّا، ويقوم على تحليل منهجي يتضمّن نظرية الفيلم وجمالياته وما إلى ذلك. هذا النوع من النقد حاضر في المنشورات الأكاديمية والمتخصصة، ولا يهدف إلى خلق حافز لدى القارئ لمشاهدة الفيلم، ولا تحكمه الأحداث الآنية. من ناحية أخرى، فالنقد الصحافي الذي ينشر في الصحف والمجلات والمدونات، يستهدف غالبًا القارئ الذي يريد التعرف إلى الإنتاجات الجديدة، ويبحث عن المعلومة والرأي. من بين هذين النوعين من النقد، كان النقد الصحافي الأكثر عرضةً للأزمة الناتجة عن وسائل التواصل الاجتماعي، ولو أنّ إضفاء الطابع الديمقراطي على النقد السينمائي له آثار إيجابية وسلبية.
كان النقد السينمائي حكرًا على النقاد الذين كانت آراؤهم تترك أثرها في الجماهير، لكن مع وسائل التواصل الاجتماعي تغيَّرت مشهدية النقد بشكل كبير.
تحت المقصلة
لقد وضعت وسائل التواصل الاجتماعي النشاط الدؤوب للنقاد السينمائيين المتخصصين تحت الرقابة والمقصلة. إن الجملة الشهيرة الذي قالها الأب الروحي للفن المعاصر والمفهومي الفرنسي مارسيل دوشان (1887 – 1968): «ليس الجميع فنانين، لكنّ الجميع نقاد لعينون»، تبدو راهنة اليوم أكثر من أي وقت مضى. إن الحرية التي يتمتع بها كل مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي في إبداء رأيه في فيلم معين، تؤدي إلى اتساع المسؤولية التي تقع على عاتق الناقد، في التحدي المتمثل في التدريب والإنتاج والمشاهدة، والسرعة في كتابة نصوص عالية الجودة، بحيث يجد القارئ رؤيةً وحجة وتحليلًا غنيًّا وعميقًا.
أدى المشهد المتغير للنقد السينمائي إلى فرض تحديات جديدة للنقاد أنفسهم. بينما تكافح وسائل الاعلام المطبوعة من أجل البقاء في العصر الرقمي، اضطر العديد من النقاد إلى التكيف مع أشكال جديدة من وسائل الإعلام والمنصات للبقاء في عصر التغييرات السريعة. وقد أدى ذلك، إلى زيادة التركيز على محتوى الوسائط المتعددة، مثل مقالات الفيديو والبودكاست، بالإضافة إلى حاجة النقاد إلى بناء سمعة خاصة بهم من أجل متابعيهم الشخصيين. بالإضافة إلى ذلك، فإن ظهور وسائل التواصل الاجتماعي قد سهّل على النقّاد التفاعل مباشرة مع قرائهم، لكنّه جعلهم أيضًا عرضة للمضايقات والإساءات. إن تضخُّم كمية المراجعات، أدى بمكان ما، إلى زيادة الوعي والمسؤولية تجاه الافتقار إلى التنوع في الصناعة السينمائية. كما أدى النقد السينمائي «المعاصر» إلى نظرة جديدة إلى مفهوم «التقاطعية»، حيث يمكن للنقد أن يوفر تمثيلًا أكثر دقة للأصوات المتنوعة، مثل العِرق والجنس والطبقة الاجتماعية والأيديلوجية الدينية والسياسية. إن انتشار المراجعات على وسائل التواصل الاجتماعي، يسمح بسماع تنوع أكبر في الأصوات ووجهات النظر، ويمكن أن يؤدي إلى تقدير أكبر للأفلام التي ربما تجاهلها النقاد المحترفون.
من ناحية أخرى، هذا يعني أيضًا أنه يمكن لأي شخص مشاركة آرائه، بغض النظر عن مؤهلاته أو خبراته. فهذا يؤدي إلى فائض من المراجعات والمقالات المكتوبة بشكل سيء أو غير مطلعة. نصوص يصعب الهروب منها بالنسبة إلى أولئك الذين يسعون إلى قراءة نقد مدروس ومبرّر علميًّا. كما أن انتشار المراجعات غير الإنترنت قد أدى إلى انخفاض جودة نقد الأفلام، بحيث تم تجاوز الخبرة المطلوبة للنقاد، وانخفاض قيمة الأجور، وأصبحت المعرفة بتاريخ الفيلم والسينما ومهارات الكتابة أقل أهمية، وذلك يشمل الأخطاء اللغوية والتركيبية، والفهم الضعيف للمضمون. من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، يمكن إجراء المناقشات والمناظرات في الوقت الحقيقي، ومع ذلك، فهذا يعني أيضًا أن المحادثة حول الفيلم يمكن أن تكون أكثر تجزؤًا وتفككًا؛ نظرًا إلى أنّ المجتمعات والثقافات الموجودة على الإنترنت لها وجهات نظرها وآراؤها الخاصة، التي يمكن أن تعبّر عنها بطريقة متطرفة بعض الشيء، مما يخلق ديكتاتوريات صغيرة ضمن هذه الديمقراطية الكبيرة. لقد تطورت ثقافة السينما على الإنترنت إلى الحدِّ الذي أصبح فيه النقاد والسياسيون والهواة والأميون يتقاسمون الأرضية نفسها. بات الكلّ يكتب المراجعات التي تكون إما عبارة بسيطة غير مضحكة ولا تعني شيئًا، أو دعاية مكتوبة بشكل متعمد، ناهيك بثقافة الإلغاء، التي يمكن أن تكون حكمها على مخرج أو ممثل أشدَّ من أي محكمة ثانية.
بينما تكافح وسائل الإعلام المطبوعة من أجل البقاء في العصر الرقمي، فقد اضطر العديد من النقاد إلى التكيف للبقاء في عصر التغييرات السريعة.
المصدر المستقل
إن حماية النقد السينمائي يقع على عاتق النقاد والمنتجين والمخرجين ومحبِّي السينما. الفن يبدأ وينتهي بالنقد. لدى دعوة المؤثرين والمؤثرات على وسائل التواصل الاجتماعي إلى العروض الأولى للأفلام، والطلب منهم مشاركة آرائهم «الإيجابية» على وسائل التواصل، هذا يضعف النقد، وبطريقة ما يحقِّر المهنة، كما قالت الناقدة السينمائية بولين كايل (1919 – 2001): «في الفنون، الناقد هو المصدر المستقلّ الوحيد للمعلومات، والباقي هو إعلانات». إن الحفاظ على النقد هو من الحفاظ على السينما. في مقابلة حديثة مع مجلة Sight and Sound، أشار المخرج السينمائي بول شريدر، الذي كان ناقدًا سينمائيًا سابقًا، إلى فترة ازدهار النقد السينمائي، وربطها برغبة الجمهور في أفلام أفضل. النقد السينمائي ضروري لصناعة السينما، من دون النقد ستكون صناعة السينما أقل ثراءً.
على الرغم من أن المراجعات عبر الإنترنت لها مكانتها اليوم، وقد أثّرت في نجاح العديد من الأفلام، فمن المهم أن نتذكّر قيمة نقاد الأفلام المحترفين والدور الذي يلعبونه في تشكيل الصناعة. مع استمرار الصناعة السينمائية في التطور، سيستمر النقد السينمائي في التكيف مع المشهد المتغير، وسيكون من المثير للاهتمام أن نرى إلى أين سيذهب في المستقبل. والواضح أن المراجعات على الإنترنت موجودة لتبقى. بشكل عام، يوجد لدى بعض النقاد تشاؤم حول مستقبل النقد، ولكن من الواضح أنه سيستمر في التطور، ومع ظهور تقنيات ومنصات جديدة، ستظهر أيضًا أشكال جديدة من النقد والتحليل. ويبقى أن نرى ما إذا كان هذا سيؤدي إلى مناقشات أكثر تنوعًا وشمولًا حول السينما، أو مجرد محادثات أكثر فوضوية وتشرذمًا.