حالة اللانقد في السينما السعودية
(English) خالد ربيع السيد
30 July، 2022
منذ انطلاقة الموجة السينمائية الثانية في السعودية، بدايات الألفية الثانية، ومع إنتاج عشرات الأفلام القصيرة ومشاركاتها في المهرجانات المحلية والخليجية، أو الإقليمية والدولية، والأفلام السعودية تحظى بتكثيف إعلامي إخباري ممتاز، يركن إلى الفخر ـ من قِبل الإعلام ـ بالإنتاج والمشاركة وإبراز أسماء صناع الأفلام.
هذا أمر مطلوب ومرحلي لا بأس به، ولذلك استمر هذا الحال في كافة المنابر الإعلامية، يحدوه زهو بما يحققه الشباب المستقلون بإنتاجهم الطموح. ومع ظهور الأفلام التجارية الثلاثة: “كيف الحال”، و”صباح الليل”، و”مناحي” استقبلها الكثير من الكتاب والصحفيين بعدد من الكتابات الانطباعية العابرة التي تتراوح بين الإعلام الإخباري المُحمَّل بالتبجيل والمديح، خصوصًا في الصحف الرسمية، أو بالآراء الحادة القاطعة التي كانت تُنشر في المواقع والمنتديات الإلكترونية وقتذاك.
وأيًا كان الطابع الذي أخذه كل من هذين المسارين من الكتابات والتناولات، فإنهما بعيدان عن التحليل والموضوعية الرصينة المحايدة أو حتى المنهجية النقدية المعتبرة. أستثني من ذلك ما حدث مع فيلم “ظلال الصمت” للمخرج الرائد عبدالله المحيسن، حيث تبارت الأقلام العربية في تقديم قراءات نقدية مرموقة، لفتت العامة والخاصة على مستوى العالم العربي لأهمية هذا الفيلم.
نقدٌ مشوَّش
مع دخول العقد الثاني من الألفية وتحديداً مع ظهور فيلم “وجدة”؛ كتب العديد من الكتاب غير المتخصصين ـ كتاب أعمدة الصحف ـ والأدباء والعامة مقالات انطباعية تعليقية عابرة؛ بعضها متطرف وبعضها يميل إلى منطق أدبي أو اجتماعي أو حتى ديني، وفي رأيي أنها جميعها مقبولة إلى حد ما؛ لأنها لفتت الجماهير العريضة للفيلم ولولادة سينما شبابية سعودية تحظى باحترام العالم من حولنا، سواء أكان لفتًا ايجابيًا أو سلبيًا، ولكنها في كل الأحوال ليست منهجية أو قديرة للدرجة التي تثري الجمهور بآراء تثقيفية سينمائية سليمة، بل إنها كانت في بعض طروحاتها مُربِكة للذائقة والثقافة.
هكذا استمر الحال مع ظهور الأفلام الطويلة التي برزت منذ 2016 وما بعدها. بل إن الحال تراجع إلى وضعية تناول الأفلام في قوالب إخبارية تميل إلى التضخيم والإعجاب التبجيلي فقط.
ما أود أن أصل إليه هنا هو أن النقد السينمائي المنهجي التحليلي ظلَّ في منأى عن الأفلام السعودية حتى يومنا هذا. وما نصادفه في مواقع التواصل الاجتماعي ما هو إلا انطباعات وتعليقات مبتسرة خالية من الخبرة والمعايير النقدية الفنية.
هذا يقودنا إلى أساس عملية النقد السينمائي؛ باعتباره مهنة وحرفة، فليس كل من قام بالتعليق على فيلم شاهده أصبح ناقدًا سينمائيًا. وبلا شك أن الصحفي في الشؤون السينمائية ليس بالضرورة ناقدًا. ويقودنا ذلك أيضًا إلى أهمية النقد السينمائي وما يتضمنه من التعرف على المفاهيم والرؤى والخلفيات التي يحملها الفيلم وسياق لغته الفنية، فهو إذن نقد يشمل عملية تثقيفية تنويرية تثري الجمهور والصناع على حد سواء، ونحن في مرحلة تتطلب تثقيف الجماهير وتنوير الصناع. حتى وإن كان المشاهد السعودي على درجة عالية من متابعة مختلف سينمات العالم، لكنه يحتاج الى مواءمة ذائقته ومستقبلاته الشعورية لما ينتجه أبناء جِلدته. وفي المقابل مهما كان التأهيل الأكاديمي الذي تلقاه صنَّاع الأفلام السعوديين سديدًا ومن أرقى مدارس الفن السينمائي في العالم، إلا أنهم بحاجة ماسَّة لرأي ناقد من بيئتهم يفهم ويوجههم بمنطلقات منطقية حميمة.
الحاجة مُلِحَة
والآن، بانطلاقة مهرجان البحر الأحمر السينمائي، وقبله مهرجان أفلام السعودية، ومختلف الفعاليات السينمائية في السنوات القليلة الماضية، وبمواكبة الاهتمام الكبير للشأن السينمائي السعودي الراهن، فإن الأمر يحتم نهوض حركة نقدية واسعة ومواكبة وفاحصة ومحللة وكاشفة للنقائص والأخطاء والسلبيات قبل الإيجابيات. فذلك سيصب في مصلحة الصنَّاع والحركة السينمائية برمتها.
كما أنه بالإطلاع، بشكل مسْحي، على ما كُتِب وما قيل وما يقال عن الأفلام السعودية نجده محتوى نقديًا فقيرًا إلى أبعد حد، والمرحلة تتطلب وجودًا مكثفاً للنقد والتحليل الفني الحقيقي، بل إن الوسط الفني السينمائي (إذا صحَّ لنا وصفه بالوسط) يحتاج إلى مَن يرصد تحركاته وكشفها في قالب نقدي توجيهي. هناك مخرجون ومخرجات مبتدئون أنتج الواحد منهم فيلمًا أو فيلمين؛ نجدهم يتحدثون وكأنهم فنانون عالميون لديهم خبرات فاقَت الربع قرن. وبالمثل هناك ممثلون وممثلات يقدمون أنفسهم على أنهم نجومٌ كبار غطَّت أعمالهم الآفاق. هذه التصرفات لا يدرك مقترفوها أنهم يقدمون فنًا للعالم أجمع، وخطابهم الفني والسلوكي هو محلُ رصد من كل العالم، فكيف سنعكس صورة شبابنا وهم في هذه الحالة الاستعراضية المختالة والتي ستفضي إلى نظرة غير حميدة من العالم؟
نعم، لا يخلو عمل من الأعمال السعودية التي ذاعت مؤخرًا وحققت حضورًا طيبًا وجوائز مهمة، مِن هفوات وأحيانًا أخطاء، ولا أحد يحلل أو يتداخل نقديًا مع هذه الأعمال، فكيف سيستقيم الأمر؟ ومن جهة ثانية كيف سيستفيد الصنَّاع من أخطائهم والأقلام “المشتراة” تكيل لهم المديح؟ بل إن بعض الأقلام العربية راحت تضخم وتطبل وتطبطب، فما مردود ذلك التضليل؟
معايير مطلوبة
علينا أن ننتبه إلى مسألة مهمة، فكثيرًا ما يختلط في عملية النقد، المحرك الذاتي والموضوعي، التحليل المنهجي مع التحليل الانطباعي، وكثيرًا ما تلعب الذائقة الخاصة بالناقد دورها في حكمِه على العمل الذي يوجه إليه نقده، أو يتحكم بهذا النقد انحياز الناقد لمنهج نقدي معين ينظر إلى العمل الفني من زاوية معينة ويتجاهل الزوايا الأخرى التي قد تكون ذات أهمية، ولها دور كبير في إضاءة جوانب إبداعية في العمل المنقود.
الخاصية التركيبية للفن السينمائي تجعله يجمع بين المسرح والأدب السردي والأداء التمثيلي، والموسيقى والفن التشكيلي والضوئي والديكوري… إلخ، بما يجعل عملية استقبال الفيلم تتوزَّع بين هذه الفنون المختلفة حسب تفاوت تركيز كلٍ منها داخل الفيلم الواحد، وحسب درجة اهتمام الناقد بكل واحدٍ على حده من هذه الفنون التي يتضمنها الفيلم، وإدراك الناقد لتوليفة هذه الفنون في حبكة “ممنتجة” بشكل ممتع وشيق، ليبينها لقرائه ومتابعيه.
ما العمل؟
الرأي المنطقي يفضي إلى أنه وضمن عجلة الاهتمام من هيئة الأفلام وهيئة الإعلام المرئي والمسموع، وغيرها من المؤسسات المضطلعة بالنهوض بالسينما، أن تخصص معاهد أو حتى برامج لتأهيل الناقد السينمائي، ويقدَّم فيها منهج نظري وعملي وورش عمل لإعداد الناقد. ثم على المهرجانات السعودية أن تستعين بالنقاد العرب والخليجيين، وأن يكون أساس أجندة “المناقدة” هو مبدأ الموضوعية وعدم المحاباة المجانية. كما أن الأمر جدير بالعمل على إصدار مطبوعات إلكتروـ ورقية، مثل هذه المطبوعة (كراسات سينمائية)، تتيح للأقلام طرح مرئياتها.
وكذلك العمل على التنسيق لاستكتاب النقاد العرب بتكليفات من هيئة الأفلام أو هيئة الإعلام المرئي والمسموع، بحيث يشاهدون الأفلام السعودية ويكتبون عنها، وكذلك ينبغي التنسيق لتخصيص حلقات نقدية رفيعة المستوى مع العروض الأولى للأفلام السعودية المهمة في المهرجانات العربية والدولية. وأخيرًا، ينبغي العمل على إنشاء جمعية سعودية للنقاد السينمائيين.
النقد السينمائي المنهجي لا يزال بعيدًا عن الأفلام السعودية، والمرحلة تتطلب وجودًا مكثفًا للنقد والتحليل الفني.