13 June، 2023

للصحراء فتنتها وجمالياتها التي جذبت السينما السعودية والعربية والعالمية للتعامل معها. فهي ليست مجرَّد خلفية تمثل السكون والهدوء والتأمُّل في المشهد. لكنها عالم حقيقي له حضوره وأثره على طبيعة ساكنيه. وله مشكلاته وأساطيره وتاريخه الخاص. ومن ثم لم تتوقَّف السينما وحدها أمام الصحراء وعالمها، فكثير من الشعراء والروائيين والمفكرين قد توقفوا أمامها. فرصدوا في أعمالهم عوالمها وطبائع شخصياتها وتنوعها المدهش. ونظرًا لحداثة عهد السينما السعودية؛ فقد استفادت من الإرث الكبير الذي قدمته السينما العالمية والعربية في تعاملها مع الصحراء، ساعية إلى أنسنت هذه الصحراء. وليس التعامل معها بوصفها هضابًا وجبالًا ورمالًا فقط، هذا ما أكدته في نتائجها الدراسة المهمة التي نشرتها مبادرة “المنور” الثقافية، وحملت عنوان “حضور الصحراء في السينما السعودية”.

قامت الدراسة على رصد فكرة الصحراء في الإبداع بشكل عام. سواءً في السينما أو الرواية أو الفن التشكيلي. وسواءً على المستوى المحلي أو الإقليمي أو العالمي. وذلك للوصول إلى الهدف الأساس، وهو الإجابة عن سؤال: كيف تعاملت السينما السعودية مع الصحراء؟. وقد أكدت الدراسة أنه رغم قصر العمر الفني للسينما السعودية، فإنها استفادت من الإرث العالمي والمحلي عن الصحراء في الفنون والآداب والثقافة بشكل عام، وذلك من خلال تحليل خمسة أعمال سينمائية. رأت الدراسة أنها مكتملة فنيًّا، وتستحق الوقوف أمامها بشكل نقدي، خاصة أنها أفردت نفسها للتعامل مع الصحراء، وبناء حبكتها الدرامية من خلال أجواء البيئة الصحراوية ومفرداتها.

أكدت الدراسة أنه رغم قصر العمر الفني للسينما السعودية، فإنها استفادت من الإرث العالمي والمحلي عن الصحراء في الفنون والآداب والثقافة بشكل عامٍّ.

أهمية المكان

جاءت الدراسة على هيئة مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، حملت المقدمة عنوان “الدلالات المكانية- سر اتساع المعني”، وأسست مبدأ أهمية المكان في العالم السينمائي. ففضلًا عن أنه يضع إطارًا للجماليات البصرية، ويحدد الفضاء الزمني الذي تدور فيه الأحداث، فإنه يلعب دورًا أساسيًّا في تهيئة الجو النفسي العام للفيلم. ويرسم المكان خلفية الظرف الفكري والنفسي والاجتماعي الذي تتحرك فيه الشخصيات. أما ما يمكن تسميته بالفصل الأول من الدراسة، فقد تم تخصيصه لرصد حضور الصحراء في السينما العربية. حيث حللت الدراسة أربعة أفلام عربية قامت على عالم الصحراء. هي فيلم “تمبكتو” الذي أخرجه المورييتاني عبد الرحمن سيساكو عام 2014، ويدور عن جماعة إرهابية سيطرت على المدينة التي في شمال مالي. وفيلم “ذيب” 2014، للمخرج الأردني ناجي أبو نوار، وتدور أحداثه في صحراء الجزيرة العربية إبان الحرب العالمية الأولى. وفيلم “المومياء” للمصري شادي عبد السلام، الذي تم إنتاجه عام 1969، ويدور عن سرقة الآثار من قبل رجال القبائل العالمين بأماكن المقابر الأثرية. وثلاثية الصحراء للمخرج التونسي ناصر خمير. كان آخرها فيلم “بابا عزيز” إنتاج عام 2005، بالإضافة إلى فيلمي “الهائمون في الصحراء” 1984، و”طوق الحمامة المفقود” 1991. وقد سيطرت على هذه الثلاثية الأجواء الصوفية والعجائبية.

وفي الفصل الثاني فقد رصد الدراسة جماليات الصحراء في السينما العالمية، من خلال أفلام الغرب الأمريكي “الويسترن”، وهو المصطلح الذي يطلق على الأفلام التي تتناول حياة الغرب الأمريكي وبطولات رعاة البقر . وأفلام “الطرق” وهو حسبما ذكرت الدراسة مصطلح مرن يطلق على الأفلام التي تجري أحداثها خلال رحلات برية، مثل الفيلم الياباني Woman in the dunes، والأمريكي Nomadland. وأفلام “المغامرة” التي تحمل سمات مشتركة مع أفلام الطرق؛ بسبب طابعها الحركي الذي قد يحتلُّ مساحة برية واسعة خارج المدن. وأفلام “النجاة والحياة البرية” التي غالبًا ما تضل الشخصيات فيها الطريق في الصحراء، وتظلُّ تعاني حتى تخرج من متاهتها. كما في الفيلم المكسيكي Desierto، والأمريكي 127 Hours. وأفلام “الحروب” مثل Black Hawk Down الذي يدور عن حرب الصومال، وأفلام “الديستوبيا” التي تجري أحداثها في المستقبل.

وقبل أن ترصد الدراسة الأفلام السعودية التي تعاملت مع الصحراء، فإنها رصدت المصادر المحلية في الثقافة السعودية، والتي كان لها التأثير الأهم في تشكيل هذا الخيال. خاصة أن السعودية تقع في واحدة من أكبر المناطق الصحراوية في العالم، وهي صحراء الجزيرة العربية، لكن هذه الصحراء ليست ربعًا خاليًا كما يوحي بذلك اسمها، ففيها العديد من الأماكن المأهولة. فضلًا عن انتشار شركات التنقيب والتعدين بها، بالإضافة إلى عالم القبائل وتاريخها. كل هذا ألقى بظلاله على خصوصية الصحراء في السينما السعودية، وقد اعتمدت الدراسة في رصدها لعوالم الصحراء وثقافتها على مجموعة من المراجع العلمية، من بينها كتاب “الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور” للدكتور سعد الصويان.

قبل أن ترصد الدراسة الأفلام السعودية التي تعاملت مع الصحراء رصدت المصادر المحلية التي كان لها التأثير الأهمُّ في تشكيل هذا الخيال.

خمسة أفلام

وفي تحليلها لكيفية توظيف الصحراء في السينما السعودية، توقفت الدراسة أمام خمسة أفلام. تباين كل منها عن الآخر في رؤيته للصحراء وكيفية التعامل معها. ففي فيلم “السينما 500 كم” للمخرج عبد الله آل عياف، والذي تم إنتاجه عام 2006، نجد رحلة لمجموعة من الشباب تمتد من الرياض إلى البحرين. وهذا الفيلم أحد أبكر الأمثلة لأفلام الطريق في السعودية، لكنه فيلم وثائقي وليس روائي. أما فيلم “عطوي” 2015، للمخرج عبد العزيز الشلاحي، فهو فيلم غموض وإثارة قصير، يدور عن شابٍّ في رحلة عمل خلال الصحراء، يمرُّ بقرية “عطوي” التي يستوقفه فيها مسنٌّ ليأخذه معه، لكن الشاب حين يستيقظ يجد المسنَّ قد اختفي تاركًا حقيبة مليئة بالأسلحة، فيعيش كابوس المخالفة الأمنية والذهاب إلى مخفر الشرطة. لكنه في النهاية يستيقظ من حلمه أو كابوسه. وقد التقطت الكاميرا في هذا الفيلم مساحات بانورامية من الطبيعة الصحراوية على الطريق. بما رسَّخ شعور العزلة التي يُحيط بالبطل، ورمزية الحرية اللامحدودة التي يمتلكها.

أما فيلم “ومن كآبة المنظر” 2017، للمخرج فارس قدس، فهو أحد ستة أفلام سعودية قصيرة، عرضتها منصة نتفليكس تحت عنوان “ستة شبابيك في الصحراء”، إلا أنه الفيلم الوحيد الذي حملت تفاصيله أجواء الصحراء وليس المدينة. وتدور قصته حول افتراض وقوع طائرة ركَّاب مدنية قادمة من مصر في الصحراء السعودية إبان فترة السبعينيات، يضطر ركابها أن يعيشوا في أجواء الصحراء منعزلين عن العالم، حتى يصل إليهم في نهاية الفيلم شابٌّ بجواله الذكي عارضًا عليهم المساعدة، لكنهم يخافون من هيئته وجواله فيدونه قتيلًا.

بينما يدور فيلم “مدينة الملاهي” 2020، للمخرج وائل أبو منصور عن مسعود وسلمي، الزوجين الذين في رحلة بالصحراء، لكن سيارتهما تتعطل، وفي الصباح لا يحدانها. وحين يذهب الزوج للبحث عنها يجد نفسه في نزل أشبه بمدينة الملاهي. ويدخل الفيلم في أجواء أفلام الإثارة والغموض ورجال العصابات. ورغم أهمية هذه الخطوة في السينما السعودية إلا أن فكرة العصابات تعدُّ مغايرة لتقاليد السرقة الفردية وليس الجماعية في الصحراء. أما فيلم “ديار حسمي” 2021، فهو الفيلم القصير الأول للمخرج فهد فايز، وتدور أحداثه حول حياة بعض أفراد القبائل في شمال شبه الجزيرة العربية بمنطقة تدعى “حسمى” عام 1902، وعلى نقيض الأفلام الحديثة التي تدور حول حالة الاغتراب التي يعيشها الناس في الصحراء، فإن الفيلم يبرز مدى التآلف بين رجال القبائل وعالم الصحراء، ورغم أن مدته 24 دقيقة. إلا أنه استطاع أن يكشف عن جماليات المكان وقيمة وتوافق أهله معها.

لكن هذه الأفلام الخمسة ليست كلَّ الأعمال التي تعاملت مع الصحراء في السينما السعودية، فثمة أعمال أخرى تقاطعت مع عالمها، من بينها فيلم “سيدة البحر” 2019، للمخرجة شهد أمين، والذي يدور عن قرية في الصحراء لها عاداتها وتقاليدها الخاصة، حيث لا بدَّ من التضحية بفتاة كلَّ عام؛ من أجل أن يجري ماء النهار، وحين يرفض أحد أبطال الفيلم التضحية بابنته يجفُّ النهر ويعمُّ الجفاف. فكرة الفيلم تتقاطع مع الحديث النبوي القائل بأن الساعة لن تقوم حتى تعود شبه الجزيرة العربية خضراء كما كانت، ومن ثم فالنهر والخضرة بمثابة هذه العودة، وانحسار النهر وسيادة الجفاف بمثابة قيام الساعة. كذلك هناك عددٌ من المسلسلات التي تعاملت مع الصحراء، مثل مسلسل الرسوم المتحركة “بلال”، ومسلسل “رشاش” الذي يدور في ثماني حلقات بأسلوب هوليودي يمزج بين أفلام الجريمة وأفلام الطريق.

يمكن القول إن هذه الدراسة واحدة من أبرز- وربما أول- الأعمال النقدية المهمة التي درست كيفية تعامل السينما السعودية مع الصحراء، خاصة أن الصحراء تعدُّ المكان البطل في الثقافة السعودية، وكان لا بدَّ من التوقف، ليس فقط لدراسة نماذج من السينما السعودية في علاقتها مع الصحراء، ولكن أيضًا في علاقة هذه السينما بالسينما العالمية والعربية في تناولها لهذا العالم، ورغم أن الدراسة انتهت في نتائجها إلى أن السينما السعودية أنسنت الصحراء، إلا أنها انتقدت عدم اهتمام معظم الأعمال السينمائية بمدى ثراء الصحراء السعودية، وما تتمتَّع به من تنوع في المعالم والتضاريس.  

“ومن كآبة المنظر” أحد ستة أفلام سعودية قصيرة عرضتها نتفليكس تحت عنوان “ستة شبابيك في الصحراء”، وهو الوحيد الذي حملت تفاصيله أجواء الصحراء.