سينما الحوش ووداي سينما نموذجان: دور العرض الفنية المستقلة.. ضرورة للمجتمع السينمائي
![سينما الحوش ووداي سينما نموذجان: دور العرض الفنية المستقلة.. ضرورة للمجتمع السينمائي](https://kurrasat.com/wp-content/uploads/2022/10/وادي-سينما-11.jpg)
4 January، 2023
بقلم رشيد الحميدي
لو كنتَ حاضرًا في أحد مقاهي باريس الشهيرة إبان الاحتلال النازي لفرنسا، فمن المحتمل كثيرًا أنك كنتَ ستشاهد رجلًا في منتصف العمر يهمس بتكتّم في آذان أصدقائه بأنه سيتمّ عرض فيلم “المدمرة بوتمكين” الليلة. هذا الرجل، يدعى هنري لانجلوا، وهو أحد أهم مؤسسي سينما العروض المستقلة والأفلام المؤرشفة في فرنسا. وقد أسس لانجلوا مكتبة الأفلام الفرنسية أو ما يعرف بالـ”سينماتك الفرنسية”، التي قامت بدورها في حفظ الكثير من الأفلام الكلاسيكية، تلك الأفلام التي كانت ستنقرض لولا حفظ السينماتك الفرنسية لها.
كان لانجلوا يهمس سرًّا لأصدقائه لإدراكه تأثير هذه الأفلام على عقل المشاهد، وأنها ستحفزه على النظر للأشياء بشكل مختلف، في ظل الاحتلال النازي الذي سيطر على مؤسسات الدولة الفنية والفكرية آنذاك. وبعد استقلال فرنسا من الاحتلال النازي، كان شائعًا بين الشباب أنه من أراد أن يصبح ناقدًا فليتوجه إلى السينماتك الفرنسية، حيث تعرض الأفلام الفنية والكلاسيكية يوميًّا مصحوبة بالنقاشات والحوارات مع أهم منظري السينما ونقادها في تلك الفترة.
ومن هنا، تأتي أهمية وجود “سينماتك” أو دور عرض أفلام مستقلة في أي بلد ومدينة ترغب في تشكيل مشهد فني سينمائي رصين، كونها تخلق بشكل مستدام، بيئة تفاعلية بين الجمهور والنقاد عبر مشاهدة أفلام كانت ولا تزال لها أهمية تاريخية، من الناحية الفنية، وحتى من الناحية الاجتماعية والسياسية.
ويذكر المخرج الفرنسي الشهير جان رينوار في إحدى مقابلاته، أن السينماتك بالنسبة للسينمائيين أشبه بدور العبادة، بحد تعبيره. ويمكن للمرء أن يقول إن غياب وجود صالات عرض للسينما الفنية ينتج عنه بالضرورة مشهد سينمائي هش ينقصه أحد أهم مصادر استفزاز العقل السينمائي للنظر إلى الأفلام من زاوية الناقد والمفكر السينمائي، ناهيك عن البيئة التفاعلية المصاحبة لتلك العروض.
سينما الحوش ووادي سينما.. ولادة دور العرض المستقلة في السعودية
بعد فترة قصيرة من السماح بوجود صالات السينما في السعودية، بدأت بالفعل جهود حثيثة لخلق بيئة سينمائية تفاعلية تتيح للمشاهد السعودي أن يشاهد أفلامًا فنية، وحتى كلاسيكية، وصاحبت بعضها حوارات ونقاشات للأفلام المعروضة مع مخرجي ومنتجي الأفلام.
في منتصف عام 2019، افتتحت “سينما الحوش” في مدينة جدة لتعلن بذلك بداية حضور صالات العروض المستقلة في المملكة. وصاحبت هذا الافتتاح عروض نوعية لأفلام عربية وأجنبية طوال صيف سنة 2019، وكذلك حوار مع منتجة فيلم “يوم الدين” دينا إمام، حتى انتهى موسم الصيف معلنًا انتهاء الجولة الأولى لسينما الحوش.
وفي مطلع العام الجاري 2022، عاودت “سينما الحوش” الظهور مجددًا في موسم العلا بشكل أكثر كثافة من ناحية الكم والنوع، لتتخذ صورة “أسبوعيات” للسينما الكلاسيكية والسينما الأفغانية والسينما السعودية، مختتمة بعروض استعادية لأفلام المخرج الهونغ كونغي الشهير وانغ كار واي، ليكون بذلك آخر أسبوع لسينما الحوش في موسم العلا.
وفي الرياض، يمكن للمتابع أن يلاحظ منذ الوهلة الأولى التي تم الإعلان فيها عن تأسيس “وادي سينما” في موسم بينالي الدرعية في نهاية عام 2021 أن من أهم أهدافها خلق مجتمع تفاعلي محفز على الحوار والنقاش وطرح الأسئلة المتعلقة بالأفلام المعروضة. وانعكس ذلك في أن الكثير من عروض وادي سينما صاحبتها نقاشات وحوارات مع مخرجي بعض الأفلام والنقاد والكتاب السعوديين.
الجدير بالذكر أن مقاربة وادي سينما في الاختيارات قد اختلفت عن سينما الحوش، وذلك من خلال تركيزها على أفلام عربية وأفلام قصيرة وبعض الأفلام الأجنبية الشهيرة والحائزة على الكثير من الجوائز العالمية. واستمرت عروض وادي سينما لمدة ثلاثة أشهر حتى اختتم الموسم الأول بلفتة احتفائية جميلة بالمسلسل السعودي “عودة عصويد” وتكريم الممثل والكاتب محمد الطويان.
في منتصف عام 2019.. افتتحت “سينما الحوش” في مدينة جدة لتعلن بداية حضور صالات العروض المستقلة في المملكة.
من أهداف تأسيس “وادي سينما” في الرياض خلق مجتمع تفاعلي محفز على الحوار والنقاش حول الأفلام المعروضة.
صعوبات وتحديات عالمية ومحلية
يمكن لمتابع المشهد العالمي لسينمات العروض المستقلة أن يلاحظ أن ثمة تحديات كبيرة تواجهها هذه الصالات. ويبدو ذلك من خلال عزوف المتابعين، وانخفاض معدل بيع التذاكر، وعجز هذه الصالات على تحمل تكاليف التشغيل، ما نتج عنه إغلاق الكثير من دور العرض المستقلة حول العالم.
وتشكلت هذه التحديات والصعوبات لأسباب كثيرة، منها تفاقم الأزمة الاقتصادية التي خلفتها جائحة كورونا، وتوّفر بدائل سهلت الوصول إلى الكثير من الأفلام الفنية والكلاسيكية من خلال الإنترنت ومنصات العرض المدفوعة. وبالطبع، فإن دور عرض السينما الفنية والمستقلة في السعودية ليست استثناء من هذه التحديات.
ونلاحظ في نموذجي سينما الحوش ووادي سينما أن الصالتين قد تبنتا التشغيل الموسمي وعروض الأمكنة المفتوحة، ما يقلل من دور هذه السينمات في خلق المجتمع السينمائي التفاعلي المطلوب.
فالتشغيل الموسمي يجعل ثقافة الفُرجة السينمائية التفاعلية جزءًا من حدث أكبر، لا ثقافة مستقلة في مكانها أو زمانها. وعرض الصالات المفتوحة يجعلها عُرضة لمشاكل الأجواء والبيئة المحيطة، ناهيك عن الخروج عن مفهوم السينما للصالة المغلقة والمظلمة.
وهناك تحدّ كبير يواجهه مُشغلّو هذه الصالات في أن تصبح مستقلة تشغيليًّا، مبتعدة عن نموذج المواسم، وأن تصنع شريحة زوار قادرة على دعم هذه الصالات بزياراتها الدورية.
وعلى الرغم من هذه التحديات كلها، فإنه في مقدورنا القول إن هناك شريحة كبيرة من الشباب السعودي المتعطشين إلى مثل هذه المجتمعات السينمائية والفنية، والحريصين على تشكيل مشهد سينمائي رصين، يجعلنا جزءًا من الحوار السينمائي الفني العالمي، وأن تكون دور العرض المستقلة مساحة لتداول الأفكار والنقاشات السينمائية الجادة، وفرصة لعرض الأفلام السعودية الطويلة والقصيرة، والتعرف عن قرب على صناع الأفلام السعوديين.
سينما الحوش ووادي سينما تبنتا التشغيل الموسمي ما يقلل من دورهما في خلق مجتمع سينمائي تفاعلي. فالتشغيل الموسمي يجعل ثقافة الفُرجة السينمائية جزءًا من حدث أكبر، لا ثقافة مستقلة.