عبد الله المحيسن: لم أهجر السينما.. وأستعدّ لأعمال تليق برؤية المملكة ومكانتها
4 January، 2023
حاوره – إبراهيم العريس
يقترب الشاب الوسيم، ذو القامة الطويلة، والأناقة التي باتت كما يبدو علامة فارقة على “أناقة شديدة الخصوصية” لجيل بالغ الجدة من السينمائيين العرب الشبان، سواء كانوا سعوديين أو مصريين أولبنانيين أو سوريين أو غير ذلك. وهي أناقة يميزها سروال الجينز و”التي شيرت” والشعر المهمل.
لكن الشاب المقترب من محدّثي في بهو فندق “غراند حياة” في الدمام بالسعودية، يرسم وهو يقترب بخفر وقدر كبير من الاحترام، ابتسامة شديدة التواضع ليقول متمتمًا وهو ينحني أمام المكتهل الجالس قبالتي نتجاذب معًا أطراف الحديث: “كم أنا سعيد بهذا اللقاء العفوي مع أستاذنا الرائد السينمائي السعودي الكبير عبدالله المحيسن”. والحقيقة أن صوت الشاب كان من الخفوت بحيث إن سمعي الضعيف لم يسعفني على تلقّط ما يقول. كذلك لم أتمكن من التقاط ردّ الصديق السينمائي عبدالله المحيسن وهو يجيبه بأريحية وأبوة ظاهرة، بل حتى برضى لا لبس فيه، وقد اتسعت ابتسامته لتوضح بعض كلماته وهو يعرّفني بالشاب، بعدما عرفه هذا بنفسه، وأعطاه بطاقته، وكان واضحًا أنه يلتقي به للمرة الأولى. والغريب، أن المحيسن بدا أنه يعرف الشاب من خلال مشاهدته أعماله السينمائية (ولسوف يشرح لي لاحقًا أن كُثْرًا من السينمائيين الشبان غالبًا ما يطلعونه على إنتاجهم)، فقدمه لي بصفته “زميلي السينمائي فلان”.
كان التقديم في منتهى التهذيب والتواضع، وهو ما لم أستغربه من المحيسن، منذ تعرفت عليه من أكثر من ثلث قرن في بغداد ثم القاهرة، خلال مهرجانين فيهما. إن التهذيب والتواضع يبدوان مدهشين وغريبين على أية حال عن عالم السينما، وتحديدًا في العلاقات بين السينمائيين والنقاد.
لقد خيّل إليّ دائمًا أن التهذيب والهدوء صفتان خاصتان بصاحب “اغتيال مدينة” و”ظلال الصمت”، حتى رحت أتعرف أكثر وأكثر على المبدعين السعوديين، من سينمائيين وغير سينمائيين، فأدركت أن تلك الصفات إنما هي صفات عامة يرضعها هؤلاء مع الحليب، وتعطيهم خصوصية بين المبدعين العرب، يلاحظها اليوم كل الذين يحتكون بهم في المناسبات والمهرجانات، لا سيما السينمائية منها، وقد باتوا يحضرون فيها بقوة وكثافة خلال السنوات الأخيرة، أي منذ بدايات تلك الطفرة التي تكاد تحلّ الحضور السينمائي السعودي، في السويد أو كان، وفي تونس والقاهرة وغيرها، في المكان الأكثر صخبا بين كل أنواع الحضور العربي.
خلال هذه السنوات التي حدث فيها، في السعودية كما في كل ارتباط مع السعودية، تبدّل جذري، منه ما يشكل ثورة حقيقية في عالم الإبداع وانتشاره، عادت شؤون الإبداع إلى مكانة كانت تستحقها منذ زمن بعيد لكنها كانت تبدو عصية على التحقق بل مستحيلة، بحيث إننا لسنوات قليلة خلتْ، كنا نتساءل: متى تنهض هذه السينما المتسللة خفية أو بخوف في معظم الأحيان، لتسير حقًّا على خطى أولئك الرواد القلائل، الذين كان كل عمل يحققونه نوعًا من مغامرة تكاد تكون غير محسوبة؟
ريادة وجرأة
والحقيقة أن استعمالنا هنا صفة “رواد” لا يبدو في غير محله، حين نستخدمها للحديث عن عبدالله المحيسن، رغم وجود محاولات سينمائية سبقت بداياته وأخرى زامنتها بشكل أو بآخر. ففي نهاية الأمر يظل المحيسن دائمًا السينمائي السعودي الذي جرؤ أكثر من أي سينمائي سعودي آخر، حتى وإن كان يجدر بنا دائمًا أن نلاحظ أن جرأة سينماه لم توصله إلى داخل بلاده، على الأقل في الأفلام الأربعة الأساسية التي أنجزها، قبل أن يصمت سنوات طويلة، وهي: “اغتيال مدينة”، “الإسلام طريق المستقبل”، “الصدمة” وأخيرًا الروائي الطويل “ظلال الصمت”، الذي ختم به تلك الرباعية، وكنا نعتقد أنه سيفتتح مرحلة مهمة جديدة في فيلموغرافيا عبدالله المحيسن، وفي تاريخ السينما السعودية، لكن ذلك لم يحدث.
حدث، في المقابل، أن المحيسن ابتعد، لكن ابتعاد المهتم، ليس فقط بالفن السينمائي، بل بالأوضاع العربية كذلك، وأزمات العالمين العربي والإسلامي، التي شغلته، بعدما كانت شغلت أفلامه، التي لابد من الاعتراف اليوم بأن كل واحد منها إنما كان يدق ناقوس الخطر، محذرًا مما كانت تنحدر إليه أوضاع ذلك العالم الذي ينتمي إليه. جاء ذلك انطلاقا من “الاغتيال”، الذي تعرضت له المدينة التي طالما أحبها وخاف عليها، بيروت. ومن خلال الحرب والظلم الأفغانيين اللذين جعلاه يرى في الإسلام المعتدل المنفتح على العصر “طريقًا إلى المستقبل”. ثم لاحقًا من خلال تلك “الصدمة” القاتلة التي مثلتها حرب الخليج.
والحقيقة أن هذه المحطات الثلاث الأساسية في التاريخ العربي والإسلامي الراهن، قادته إلى فيلمه الروائي الأول، الذي تعامل معه الكثيرون على أنه “فيلم خيال علمي أو خيال سياسي”، مع أن التبحر فيه اليوم يكشفه لنا عملًا يغوص في الاحتجاج والتنبيه السياسيين حتى الأعماق، مستبقًا الكثير من الأحداث التي كانت تبدو حينها أقرب إلى الخيال!
وطبعًا كان هذا كله في بالنا ونحن في جلستنا تلك مع عبدالله المحيسن، نتأمل السنوات التي “ضيّعها” في انتظار الطفرة التي تطاول اليوم سينما كان هو من أبرز المساهمين في بنائها، كما كان من أبرز من دفعوا الثمن سنوات طويلة من حياتهم. وكانت لنا معه تفاصيل هذا الحوار..
من جيل إلى آخر
نلتقي يا صديقي عبد الله، بعد غياب، في هذه الدورة المميزة والجديدة من مهرجان السينما السعودية. وها نحن بين جيل جديد دينامي من السينمائيين الشبان، وأفلام تنتمي إلى نهضة قد تبدو مباغتة. ما الأفكار التي تدور لديك، وأنت تراقب هذا المشهد، وترى شبانًا يتعاملون معك كرائد وأب؟
شعوري هو شعور الأب، الذي يرى أبناءه وبناته يخوضون في عالم صناعة كنت وما زلت مؤمنا بأنها المفتاح للرقي بالفن في المملكة العربية السعودية، لأنها لغة العصر، ونحن جزء منها. إن هذا التوجه الواسع نحو صناعة السينما في المملكة، هو أحد أوجه استنطاق ركائز رؤية المملكة 2030، الساعية للوصول إلى مجتمع حيوي، وما وفرته من ممكنات متعددة لتحقيق ذلك.
إن جيل مملكة الرؤية، بقيادة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، جيل متحمس. واعد فهو يتسلح بأحدث العلوم، في عالم يتسم بالإيقاع السريع، طغت عليه تقنيات الإنتاج الفني بشكل كبير. لذلك، فإن عليهم دراسة دور الآلة واستيعاب ذلك على أصوله في الإنتاج السينمائي. إن الآلة مهما تقدمت وسهل استخدامها تظل وسيطًا بين الفكر والإبداع والمنتج النهائي، هي لا تصنع رسالة. صانع الرسالة هو الشخص الذي خلقها بثقافته ورؤيته الوطنية, والأصل في أي منتج فني هو مضمون الرسالة. وما لم تكن هناك رسالة بمضون واضح، يصبح العمل عابرًا، ولن يخلده التاريخ.
ومن خلال تجوالي وأحاديثي الجانبية العامة والخاصة مع الشباب، فأنا مندهش في الحقيقة مما يحملونه من شغف بهوايتهم للعمل في صناعة السينما، والعمل على تحويل همومهم لرسائل تسهم في إنضاج المجتمع ورفع وعيه بقضاياه المعاصرة. ولعل من أهم ما لفت انتباهي رغبتهم في الاستماع لتجارب الجيل الذي سبقهم ومحاورته.
شخصيًّا، لدي فلسفة خاصة في التعامل مع الجيل الجديد. تركز هذه الفلسفة على محور أساسي، هو أن لكل جيل معطياته وهمومه وأدواته، ويجب أن لا نفرض عليهم ما كنا فيه من سياقات ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية، فهم جيل وقتهم. وأحرص على أن يكون حديثتي معهم في بناء الثقة في ما بيننا، لنكمل المعادلة القائمة على حكمة تجارب الكبار وعزيمة ومهارة الشباب، وحثهم على مواصلة التعلم والبحث عن الجوهر المحلي الذي ينقلهم إلى العالمية.
انطلاقا من هذا.. ماذا يعني بالنسبة إليك أن تكون رائدًا؟
أن أكون رائدًا يعني بالنسبة لي أن أكون في وضعية المسؤول ما بقيت حيًّا. فالريادة تتطلب تضحيات، خصوصًا أنني خضت غمار عالم كان التعاطي معه غير مألوف. ولقد كانت للريادة في صناعة السينما في المملكة أعباء واجهتني، إذ كنت أشبه بمن يحفر في الصخر. لكنني أحمد الله عز وجل، على أن هناك من وقف بجانبي لتجاوزها، وهو أيقونة الفكر الثقافي في المملكة، مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، عندما كان أميرًا لمنطقة الرياض. لقد آزرني، أطال الله في عمره، كما آزر ووقف مع المفكرين والمثقفين في المملكة وخارجها.
إن الريادة لها متطلبات واستحقاقات، فمن متطلباتها رغبة الشخص واستعداده دخول هذه الصناعة. فالوصول للقمة أحيانًا يكون ميسرًا، لكن البقاء في القمة يتطلب إيمانًا من الفرد بما يقوم به، وأن يبحث عن التجديد بشكل مستمر، حتى نهايته. إن تحقيق الريادة قد يكون بالصدفة، وقد يدفع الفرد للغرور، ويجعله يركن لإنجازه، لكن كما تعلمنا من دروس التاريخ، فإن البقاء في الريادة يتطلب جهدًا ومثابرة وتجددًا مستمرًّا.
أن أكون رائدًا يعني بالنسبة لي أن أكون في وضعية المسؤول ما بقيت حيًّا. فالريادة تتطلب تضحيات.
أنت بعيد عن الكاميرا منذ سنوات طويلة، فلماذا لا نراك تستعيد نشاطك، علمًا بأنني أعرف أن لديك أفكارًا لمشاريع لافتة، تناسب هذه المرحلة؟
أنا هاوٍ ودارس ومتخصص في السينما، ولم أكن في يوم الأيام بعيدًا عنها، وإن كنت بعيدًا عن الأضواء. لكن السينما بالنسبة لي رسالة تتكئ على عمق تاريخي وحراك اجتماعي وثقافي ممتد على الأرض السعودية بكافة تحولاتها، وهو طبعًا العمق الذي صاغ في المحصلة هويتنا وأفقنا ورؤيتنا للمستقبل.
إن كل ظاهرة أو حدث داخلي أو خارجي عادة ما يترك في نفسي أثرًا، وأعيش في حالة من الديناميكية الهادئة بحيث أستدعيه من أرشيف الذاكرة وأفسره لمعرفة حقيقته، وما الذي يمكن أن يفضي إليه، وكيف يمكن أن أضعه في قالب سينمائي. والحقيقة، أنه لا يوجد عندي ما يمكنك أن تسميه ابتعادًا عن الكاميرا. بل هو بالنسبة لي عملية استدعاء ونقاش وحوار ذاتي، لأن إنضاج عمل، كما تعلمون، يستغرق مني وقتًا طويلًا، لذلك يعتقد البعض أنني هجرت العمل السينمائي.
تشخيص حالات سياسية
يعرف الجميع أنك في أفلامك الأربعة الأولى الأساسية، كنت من الناحية الفكرية قد شخصت الأمراض السياسية والاجتماعية، وبالتالي الإيديولوجية، التي كنّا ولا نزال نتخبط فيها. ولا يزال تشخيصك ماثلًا، بل تحقق بأكثر مما كنّا نعتقد. لماذا نرى كاميراك تصمت في زمن اكتمال الصورة السوداء، التي كنت من أوائل من رسموها على الشاشة؟ هل تعتقد مثلًا أنك قلت ما عليك، تاركًا للأجيال الجديدة استخلاص التشخيص، واقتراح الدواء؟
عندما نقارن بين السينما والرسالة، نجد أن العديد من دول العالم، تعتبر السينما رسالة وقوة ناعمة مؤثرة. لم يعد ذلك مقتصرًا على السينما الأميركية، فاليوم لدينا سينما عالمية متنوعة اللغة والأفكار والثقافات، والعالم قائم على التأثر والتأثير. ولا يمكن لنا إلا أن ندافع عن مجالنا الثقافي الحيوي، وأن نفسر ونظهر الحقائق ونشرح الأفكار وأبعادها للجميع.
السينما باعتقادي رسالة، تعيش الأعماق لترى المستقبل. وإذا نظرت إلى أعمالي وتمعنت في عناوينها وبناء السرد القصصي فيها، ستجد المقدمة لطرح الموضوع، ثم التصعيد للذروة، والجزء الأخير في تقديم الرؤى للحل المستقبلي. وبذلك لا أدعي لنفسي – كما ذكرت- التنبؤ بأي شي مستقبلي، بقدر ما أنني أقدم قراءة فاحصة لسياق الأحداث، وما يمكن أن تؤدي إليه. إنها نظرة مبنية على ما تكون في أرشيف ذاكرتي من سمع وصورة واطلاع منذ الطفولة. ولهذا فأنا مؤمن بقوة بأن رسالة السينما تخدم الرؤى والمشاريع السياسية البعيدة، سواء كان ذلك استباقا للأحداث أو التبشير برسالة جديدة، أو لبناء رسالة ونقل أصول وثقافة وحضارة للعالم، وبيان مقدرة المجتمعات الثقافية والحضارية والإنسانية، أو التأكيد أن لهذه المجتمعات أعماقًا حضارية مكنتها من أن تبني دولة ضاربة جذورها في الأعماق، وأن تؤكد من خلالها أيضًا أن فهمنا للسياسة والعلاقات الدولية، له أصول وقواعد وأسس وفهم وإدراك عميق، وليس أعمالًا طارئة تفرضها الظروف.
وما أشرتَ إليه من “تنبؤات”، إنما هو في الحقيقة، قراءة للأعماق الحضارية، وهو أيضًا معرفة عميقة بطبيعة الصراعات الدولية وأهدافها وأبعادها ومراميها، التي لم يختلف قديمها عن حديثها، بل اختلفت الأدوات والوسائل والأساليب وبقيت الأهداف، ولهذا كانت رسالتي ملتزمة بمصالح بلادنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية.
أنا مؤمن بقوة بأن رسالة السينما تخدم الرؤى والمشاريع السياسية البعيدة، سواء كان ذلك استباقا للأحداث أو التبشير برسالة جديدة.
مشاريع اكتملت وحان “قطافها”
ألم يحن الوقت لأن تنفض الغبار مثلًا عن مشروعك الذي راقني كثيرًا قبل سنوات حين أطلعتني عليه، ووجدت فيه إمكانات تعبيرية هائلة؟ وأتحدث هنا عن مشروعك السينمائي الذي ينتظر بين أوراقك، بعنوان “عربوه”..
هناك مشاريع عديدة، وصل بعضها إلى مرحلة الاكتمال والنضج، والقابلية للتنفيذ، وهي مشاريع ذات رسالة حضارية، وتلتقي في جوهرها مع رسالة المملكة ورؤية 2030. وهذه المشاريع في العادة متأنية، وغير متعجلة، وليست تجارية، لأنها مشاريع تليق بمكانة بلادنا ورؤية قيادتنا. ولذا أصدقك القول، لدي العديد من المشاريع، بعضها في طور البناء، وأحدها هذا الذي ذكرتَ، ولم أتوقف لحظة عن التفكير فيها، لكن سرعة إيقاع الأحداث المعاصرة تفرض عليّ عدم التعجل في هذه المرحلة.
(وبمناسبة الحديث عن مشاريع المحيسن التي تنتظر، قد يكون من المفيد هنا أن نتوقف قليلًا عند جزء من الكتاب الذي وضعته عنه قبل سنوات قليلة، وحالت جائحة كورونا وما رافقها من إجراءات دون متابعة الاهتمام به على شكل ندوات ومراجعات. قلت في فقرة من ذلك الجزء: “لا شك في أن من حق عبدالله المحيسن أن يشعر بالرضى، بل بالسرور في أيامنا هذه. فهو كرائد لما يمكن أن نطلق عليه اسم البدايات الممكنة للصناعة السينمائية في المملكة العربية السعودية، يحس أنه قد وصل إلى واحدة من الغايات الأساسية التي توخى الوصول إليها حين شرع في التفكير بفيلمه السينمائي الأول وتصويره.
ففي ذلك الحين، أدهش المحيسن العالم السينمائي حين وضع السعودية، وإن بشكل بالغ التواضع، على خارطة السينما انطلاقًا من بلد لم يكن له أي وجود على تلك الخارطة. ولقد كانت الدهشة أكثر من مزدوجة: فمن ناحية منطقية كان من شأن رائد سينمائي في بلاده أن ينجز فيلمه الأول من موضوع يرتبط بذلك البلد، ومن ناحية ثانية كان من المنطقي أيضًا لمخرج شاب في ذلك الحين “في ثلاثينياته”، أن يحقق فيلمًا ذاتيًّا. فتلك السنوات كانت، في الأحوال كافة، سنوات انطلاق الذاتية، إن لم نقل الفردية، في الإبداع الشبابي الجاد.
بل حتى في السينمات العربية نفسها، كان ينطلق تيار ذاتي في السينما، من علاماته أفلام يوسف شاهين وفريد بوغدير وبرهان علوية ومحمد ملص ونوريب بوزيد… الخ. وكان من المنطقي والطبيعي لمبدع من طينة عبدالله المحيسن أن يسلك ذلك السبيل. لكنه لم يفعل. وهو لم يفعل، على أية حال، في أي من أفلامه التالية، ناهيك بأن أيًّا من تلك الأفلام لم يحقق في داخل السعودية، ولا عن مواضيع تخصّها بصورة مباشرة، ولئن كان هذا الواقع واحدًا من مآخذ أخذت على المحيسن، فإنه كان بالنسبة إليه أمرًا طبيعيًّا. فهو، ومنذ صباه، كان يتطلع إلى الهموم العربية والإسلامية انطلاقًا من نظرة شمولية مسؤولة، تكاد تترجم، ولو من طرق خفية، ذلك الموقع المسؤول الذي تستغله بلاده في الواقع العربي-الإسلامي. هذا الأمر قاله عبدالله المحيسن وكرره مرات ومرات، بل في كل مرة سئل فيها عما يشكل همه السينمائي. وهو قاله حتى دون أن يرى أن على هذا القول أن يشكل ردًّا على الذين لاموه في هذا المجال وكانوا كثرًا، من سعوديين وغير سعوديين، بل أجانب حتى، من الذين دائمًا ما تساءلوا حول السبب الذي يجعله يبتعد عن السعودية، زمانًا ومكانًا، في كل واحد من أعماله. والحقيقة أن المحيسن، في الوقت الذي يعرض فيه أسبابه ودوافعه ومبرراته، كان يبدو وكأنه يقول، من طرف خفي متسائلًا: هل يعتقدون حقًّا أن أفلامي بعيدة عن بلادي؟!
بالنسبة إلى المحيسن، في الحقيقة، أن تتحدث عن همومك العامة، هو أن تعبر عن نظرتك إلى موقع بلدك من هذا الهجوم. ومع هذا نعرف أن ثمة ما لا يقل عن ثلاثة هموم، أو بالأحرى، ثلاثة مواضيع، لا تفتأ تشغل بال عبدالله المحيسن، وفي عزمه أن يجعل منها، بشكل أو بآخر، مواضيع السينما التي قد يود أن يحققها: القدس، والماضي القريب التأسيسي للمملكة العربية السعودية، وحرية الأوطان والمواطنين في البلدان العربية والأسلامية”).
نهاية الانتظار الطويل
في كتابي عنك، وعن سينماك، كما عن السينما السعودية قبل الطفرة الأخيرة، من مكة إلى كان، طالبتُ سينماك في آخر الكتاب بالمزيد، وحددت ما أنتظره منك. وأعتقد أن هذه المرحلة الراهنة تشاركني توقعاتي. فإلى متى الانتظار؟
كما تعلم، فإن هذه المرحلة الحية والحيوية في بلادنا، أهدتنا فرصة كبيرة للحركة والفعل والإنجاز، ومنحتنا دعمًا استثنائيًّا. هناك تطور كبير في منظومة التشريعات، واهتمام استثنائي بهذا القطاع. هناك رؤية وهدف استراتيجي نتحرك ضمن إطاره. هناك جيل سعودي منخرط بقوة، ولديه العديد من الإمكانات والخبرات والمواهب. هناك تقنية معلوماتية / اتصالية تتجدد كل يوم. ذلك كله يؤهلني وغيري للعمل والإنتاج، فلا توجد أي معوقات. فالأمر ببساطة متعلق بالقناعات بأسلوب المعالجة، التي تدفعي للوقوف خلف الكاميرا. وأنت تعرف أن أعمالي خارجة عن متطلبات السوق، فهي قراءة متأنية لشكل المتغيرات والتحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي يمر بها عالمنا، ونحن جزء رئيس منه.
أعمالي خارجة عن متطلبات السوق، فهي قراءة متأنية لشكل المتغيرات والتحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي يمر بها عالمنا، ونحن جزء رئيس منه.
العودة إلى داخل البلاد
انطلاقا من هذا، ألا ترى معي أخيرًا أنه قد حان أوان توجّه سينماك ومواضيعك إلى الداخل السعودي.. بعدما حلقت في سينماك السابقة بعيدًا عنه؟
في الرؤى البعيدة، هناك تكاملية في العناصر، هناك تشابك، لا يمكن عزل الخارج عن الداخل فهما متداخلان، وكل عامل منها مؤثر في العامل الآخر بزوايا معينة. لكن تختلف الظروف والاحتياجات وتتطور الوسائل والرسائل. وعليه، لم تكن رسالتي السينمائية موجهة (لخارج أو داخل)، كانت تتعلق بسينما تعالج الواقع والسياقات المعرفية والفكرية والثقافية التي تعيشها الأمتان العربية والإسلامية وعلاقاتها بدول العالم، والمملكة هي جزء من هذه السياقات. وسياقات اليوم مختلفة عن الماضي، فاليوم المملكة تعيش في ورشة عمل كبيرة متعددة الأشكال، ثقافيًّا وفنيًّا واقتصاديًّا، وأصبحت نقطة جذب جديدة، وظلت وستبقى نقطة تأثير محورية ومركزية في المنطقة والعالم. ولكنني أحترم رأي النقاد في تقييمهم لأعمالي، وهذا من حقهم، فالسينما بالنسبة لي منتج فكري ينتهي فيه دور المخرج من لحظة عرضه للعامة، ويدخل التاريخ، ولن يستطيع مخرجه ولا غيرة تغييره.
إنك وأنت تتابع الحراك المجتمعي العريض تنبهر بحضوره في جميع المجالات العلمية، والتقنية والفنية، إنه حضور ليس سلبيًّا على الإطلاق، بل هو حضور منافس لحضور من سبقونا في مسيرتهم التنموية من دول العالم الأول والثاني. لذلك، فإنني أتطلع لرؤية شبابنا يتوجون بالجوائز العالمية السينمائية في المستقبل القريب.
وأنا شخصيًّا أشعر بتحدّ غير مسبوق للطريقة التي يجب أن أسهم بها سينمائيًّا في تقديم تجربة المملكة للعالم، وتقديم هذا الجيل ورؤيته المستقبلية. إن المملكة بتنوعها الثقافي، والجغرافي، وتراثها الحضاري، بيئة خصبة لم تنل حظها في الأعمال الفنية والروايات السينمائية العالمية، فهي تحتاج إلى تفكير إبداعي عميق.
أشعر بتحدّ غير مسبوق للطريقة التي يجب أن أسهم بها سينمائيًّا في تقديم تجربة المملكة للعالم.