• English
  • 14 يناير، 2025
  • 10:34 م

ناقة ومندوب الليل.. عن العوالم السفلية في المجتمع

ناقة ومندوب الليل.. عن العوالم السفلية في المجتمع

عبدالله الدحيلان

12 August، 2024

عبدالله الدحيلان

في الحالة الاعتيادية، لا بدَّ وأن يواجه المبدع الحقيقي عقبات متنوعة عند البدء بخلق عوالمه؛ نظرًا لأهمية ذلك في بناء العمل وتكامله، حيث لا تتطور الشخصيات دون أن تعيش في مكان وزمان تجري فيه الأحداث بكل سلاسة؛ فمما هو معلوم لا يوجد حدث يقع دون بيئة تعبر عنه وتعكس ما يجري فيه، كما يستحيل استمرار الزمن دون انقطاع أو انفصال أو نهاية مرتقبة. هذه هي الحياة في صورتها التي نعيش، وهي كذلك في ذهنية خالق العمل.  لذلك عندما نقف أمام أعمال نجحت في خلق عوالمها من المجتمع الذي تتفاعل معه بشكل يومي، وذلك دون الاتكاء المبالغ فيه على الرموز، يجدر بنا الإشادة بها، وتسليط الضوء على المضامين الموضوعية والفنية في العمل، تمامًا كما حدث في فلمَي “ناقة” و “مندوب الليل” السعوديَّين.

ندور حول ذات الرحى!

نجح الفيلمان في إيجاد رابط عاطفي بينهما وبين المشاهد المحلي، عبر تحويل الأماكن التي يعيش تفاصيلها بشكل يومي محورًا للأحداث، حيث ستشاهد أمامك على الشاشة الكبيرة: شارع الملك فهد ومشروع “كافد” وشارع الوشم وأسواق العويس والدخل المحدود وضاحية لبن.. وغيرها من المعالم، ما يعزز تماهيك مع الشخصيات، فهي تشبهنا ونابعة من خضم المجتمع الذي نتشاركه سويًّا، بل عند انتصاف أحداث الفيلم سنكتشف أنها تدور حول ذات الرحى/ الصراع الذي يفرز ردود أفعال ليست ببعيدة عنا؛ خاصة أننا غالبًا نعيش ذات الظروف والسياقات والعوامل المشتركة.

لقد كان توظيف هذه الأماكن في العمل سيذهب مع الريح، كما يقال، لو لم تكن الحكاية التي يصورها كلا الفيلمين نابعة من واقع المجتمع. والواقعية هنا تعني أن ما جرى في الفيلم من أحداث سبق وأن وقعت كما أنها ستقع مستقبلًا، وأن انتشارها من عدمه ليس ذا قيمة عالية في الجانب الفني، فالأعمال الإبداعية، كما هو معروف، تختلف عن علم الاجتماع المهتم برصد الظواهر وأثرها، والعمل على فهم الدوافع والسعي إلى معالجتها، بل إن وظيفة الفن أن يضعك أمام المرآة كي تشاهد فيها ما يمكن لك قبوله والاعتراف بوجوده، سواءً كنت تتفق معه أو تختلف حوله، إلا أنك تدرك أنك أمام حقيقة واحدة: “ما يعرض الآن على الشاشة من وحي هذا في المجتمع”.

نجح فيلما “ناقة” و”مندوب الليل” في إيجاد رابط عاطفي بينهما وبين المشاهد، عبر تحويل الأماكن التي يعيش تفاصيلها بشكل يومي محورًا للأحداث.

وأسفلُ منها طبقات!

(1)

ظلَّ الحديث عن المجتمع السعودي بوصفه مجتمعًا حيًّا يتمتع بتنوع واختلاف ثقافي واجتماعي وسلوكي، وأن أفراده ليسوا على مسطرة واحدة من ذات القيم والأخلاق السائدة في العرف العام، حديثًا مستهجنًا ومرفوض، ولم يكن ذلك بالزمن البعيد، حتى جاء التوجه الرسمي، مؤخرًا، وأظهره بوصفه مجتمعًا طبيعيًّا يقع فيما تقع به غيره من المجتمعات، ما سهل تجسيد ذلك في الكتاب واللوحة والمسرح والشاشة.. أي بات من الممكن طرق تلك العوالم السفلية التي تجري فيها كل تلك السلوكيات المُجرمة قانونيًّا في مجالات الآداب والفنون.

وفي فيلميّ “ناقة” و”مندوب الليل” نجد أن أحداثهما يدوران هناك، فنحن أمام “ناقة” مشعل الجاسر نرصد بداية فتاة تشبه أغلب الفتيات السعوديات في مظهرها المحافظ، ما يؤكد بأن ارتكاب السلوكيات ليس أمرًا جوهريًّا في الفرد، بل لها نزعات ودوافع يجب أخذها بعين الاعتبار في السياق الاجتماعي. إن البطلة ابنة رجل له تاريخ في العنف الأسري، عبر جدها الذي قام بقتل جدتها والطاقم الطبي الذي قام بتوليدها لكونهم رجالًا، ما جعلها مؤهلة للقفز بكل رشاقة ودهاء ما بين المسموح والممنوع، فهي ملتزمة بنقابها ومواعيد رجوعها للمنزل وحريصة على التفاعل الاجتماعي التقليدي، وبذات الوقت هي ترافق شاب غير محرم لها في رحلة مجهولة لتعاطي حبوب هلوسة، أي هي فتاة لها عوالمها السفلية التي تلبي سلوكياتها المنحرفة، وبذات الوقت هي بين عموم النساء فتاة عادية لا تختلف عنهن كثيرًا.

كما أن الفيلم غاص بشكل أعمق في تفاصيل ذلك العالم السفلي المتواري في أقاصي المدينة، حيث هناك يقع مخيم كبير يضم تجمعًا من الشباب والبنات، وفيه يشربون الخمر ويتعاطون المخدرات ويرقصون، ويسعون فيما بينهم لبناء علاقات عاطفية. والأمر لا يتوقف عند هذه المرحلة من الكشف، بل يتم الذهاب لما هو أبعد من ذلك. كما أمعن الفيلم في توصيف ظاهرة بيع الشعر والتكسب منه، وعلى الرغم من تسليط الضوء على هذه الظاهرة غير مرة في الدراما المحلية، إلا أن المميز هنا أن كشف هذا الزيف في التعامل مع الشعر والشعراء تم عبر وسائل التقنية، حيث تم تصوير الشاعر المزيف الحاصل على جائزة وطنية عند تلقينه أبيات القصيدة من شاعرها الأصلي بالهاتف المحمول، ولاحقًا بثها في شبكة التواصل (X) – تويتر سابقًا – في تأكيد أن هذه المنصة وغيرها من منصات التواصل الأخرى، تقتات بشكل يومي ودائم على الفضائح والزلات وما يجري خلف الجدران.

غاص فيلم “ناقة” بشكل أعمق في تفاصيل ذلك العالم السفلي المتواري في أقاصي المدينة.

(2)

أما مع “مندوب الليل” للمخرج علي الكلثمي فحكايته تستهدف في المقام الأول الطبقية في المجتمع، واعتبار أن كل سلوك منحرف هو نتيجة التفاوت بين طبقة وأخرى، إلا أن القاسم المشترك بينهما هو وجود علاقة تبادلية لتعزيز السلوكيات المنحرفة، فالطبقة الفقيرة التي ينتمي إليها بطل العمل، هي من تقوم بإنتاج وتوزيع السلع المستهلكة في هذه العملية، حيث يوجد في مناطقها مصانع الخمور والقائمين عليها، وفي المقابل الطبقة المتمكنة ماليًّا هي المستهلك المباشر لهذه المنتجات المحظور تعاطيها قانونيًا.

وقدم الفيلم صورتين متناقضتين عن كل فئة، ففي الوقت الذي تصارع الفئة الفقيرة ذاتها؛ من أجل الحصول على لقمة العيش، وذلك عبر اللجوء إلى العنف عبر الترصد والخطف والاعتداء التي تمارسه العصابة التي تدير هذه التجارة باتجاه كل من يحاول اقتطاع جزء من سوقهم، فيما نجد في المقابل لدى الطبقة الأخرى أن المتعة والرقص في الأقبية والمباني الشاهقة والسهر مع الفتيات قاسم مشترك قادر على توحيد جهودهم، حيث يتم مداولة رقم بطل العمل الفقير بين أفراد تلك الطبقة، المنتشر في أرجاء المدينة الواسعة، بهدف جلب الممنوعات لهم أينما كانوا وبأي وقت يرغبون. أي أن الصراع لدى الطبقات الفقيرة هو صراع وجود، بينما الطبقة المقابلة تتكاتف وتتعاضد في الاستهلاك؛ لكون أن للصراع بين أرباب الطبقة الواحدة مواطن أخرى ليس من بينها مصادر امتاعهم وسعادتهم.

أما “مندوب الليل” فحكايته تستهدف في المقام الأول الطبقية في المجتمع، واعتبار أن كل سلوك منحرف هو نتيجة التفاوت بين طبقة وأخرى.

(3)

إن إحدى وظائف السينما هي تسليط الضوء على القصص المتوارية عن الأنظار والهامشية ضمن السياق العام، فهي وحدها تكشف المتن على حقيقته، وتعطي للمجتمع بعدًا أخر للنظر إلى ذاته وإعادة تعريف نفسه أمام الآخرين. لا شك أن فيلمَي “ناقة” و”مندوب الليل” فيهما بعض الهفوات في المنظور السردي والبناء العام، إلا أنهما بالإضافة إلى تفوقهما تقنيًّا، فإنهما استطاعا تقديم عملين قادرين على العيش لفترة طويلة، ليس بسبب الدعم المنصب على السينما حاليًّا، ولكن لجدارتهما في اختيار الموضوع ومعالجته فنيًّا بكل اقتدار.

فاصل اعلاني