“بلوغ”: خطوة أخرى باتجاه جماليات جديدة في السينما السعودية
13 June، 2023
طارق إبراهيم حسان
ثمة سعي مشروع لإيجاد أو بلورة شكل فني تتسم به السينما السعودية ويحدد شخصيتها بين أشكال السينمات العربية، ذلك أن هناك تنوع في القالب والمحتوى الفني الذي تقدمه، وما شهدته السينما السعودية في العشر سنين الأخيرة من تطور في مختلف النواحي الفنية من تمثيل، وإخراج، وتصوير، ومونتاج، وديكور…، إلخ. يشي بمستقبل مشرق ومتجاوز، نتيجة لجرأة الطرح ونضج الرؤية الفنية، والإيمان بما تكتنزه المملكة من خصوصية فريدة تتجلى في بيئتها الاجتماعية وتراثها العميق. فالحركة السينمائية الوليدة التي ظهرت مؤخرًا؛ يتوقع لها المهتمون بالفنون عامة والسينما خاصة، أن يزداد تطورها وتجاوزها المستمر، لاسيما بعد أن قدمت عددا من الأفلام المميزة التي تقوم على استلهام البيئة الشعبية، وتوظيف التقاليد والعادات الاجتماعية، وتضمنت التفاصيل الصغيرة لأسلوب الحياة بالسعودية، فضلًا عن انكبابها على تناول وضع المرأة في المجتمع، وهو ما جعلها تلفت الأنظار وتحقق حضورًا مدهشًا سواء بين جمهور المشاهدين، أو في المهرجانات الدولية التي منحتها العديد من الجوائز والتكريمات.
الحركة الوليدة للسينما السعودية بدأت قوية مستفيدة من ركام (السينمات) العربية التي تطورت عبر تاريخ من التجارب والتنوّع على مدى سنوات طويلة من ناحية، ومن دعم الدولة التي خصصت من أجلها مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي لرعاية التجارب البِكر والمميزة وتوجيهها بما يجعلها تُضيف إلى فضاءات السينما العربية بُعدًا آخر يتمثل في خصوصية ما تقدمه السينما السعودية من ناحية أخرى.
خصوصية المكان.. وجماليات الصورة
لم تتوقف السينما السعودية عند الاعتماد على النهل من خصوصية المكان والبيئة وطبيعة العلاقات الاجتماعية وغيرها من مقومات تصلح لتقديم سينما واقعية مختلفة، بناء على النظريات التي تقول بأن “السينما مرآة المجتمع”، أو بحسب قول روسيلليني بأن السينما هي “أن تروي ببساطة حقيقة ما رأيت”؛ بل ذهبت في العشر سنين الماضية إلى الاهتمام بالنواحي الجمالية من خلال الصورة، والتكوينات المشهدية المعبرة التي جاءت في صورة لوحات فنية، وهو ما بدا في بعض الأفلام السعودية في الآونة الأخيرة، بل هناك فيلم ذهب صنّاعه إلى التوازن بين خصوصية المرأة داخل البيئة الاجتماعية وقضاياها وهمومها داخل المجتمع من جهة، ومحاولة البحث عن جماليات الصورة وتقديم بناء فني مختلف بهدف إيجاد معمار متفرد لبنية الفيلم، وهو فيلم “بلوغ” 2021 الذي شاركت في إخراجه 5 مخرجات سعوديات.
يمثل فيلم “بلوغ” قفزة جديدة للسينما السعودية على مستوى معمار الفيلم والتعبير عن المرأة، إذ لم يركن إلى تناول هموم واقعية تمرّ بها المرأة فحسب، أو أن يرتكز على الرؤية البصرية من خلال التكوينات والصور المعبرة؛ بل سعى الفيلم إلى بناء فني قلما ارتكزت عليه السينما العربية في تعبيرها عن الواقع، لذلك فإن الفيلم يعتبر بمثابة مرحلة خاصة في السينما السعودية، حيث شهد تطورا ملحوظا على مستوى الرؤى الإخراجية وتوظيف العناصر الفنية من تصوير، وإضاءة، ومونتاج، وأداء الممثلين، واستطاعت المخرجات اللاتي شاركن في إخراج الفيلم وهن سارة مسفر، وفاطمة البنوي، وجواهر العامري، وهند الفهاد، ونور الأمير في إخراج فيلم روائي طويل يعدّ من الأفلام المغايرة للسينما السائدة، لاسيما في بنائه الذي اعتمد على معمار فني مختلف غير مطروق بنفس الكيفية، فقد تضمن 5 أفلام قصيرة مختلفة السياقات لكنها تتمحور حول المرأة وتلقي الضوء على حياتها واهتماماتها في مراحل عمرية متفاوتة وفي عالم جديد يسوده التسارع في نمط حياتي متغير حيث الوحدة والترقب والبحث.
لم تتوقف السينما السعودية عند النهل من خصوصية المكان والبيئة بل ذهبت إلى النواحي الجمالية من خلال التكوينات المشهدية التي جاءت في صورة لوحات فنية معبرة.
ميلاد جديد للسينما السعودية
ويأتي الفيلم معبرا عن مرحلة أخرى معبّرة عن ميلادٍ جديد للسينما السعودية في القرن الحادي والعشرين، حيث يقوم على التجريب والمغامرة ويضيف بعدًا جديدًا في بنية الفيلم الروائي قادرًا على تجاوز كافة البنى التقليدية التي عهدتها السينما العربية. ومن ناحية أخرى استطاعت المخرجات الخمس اللائي شاركن في الإخراج أن يغوصن في عالم المرأة ويطرحن عوالمها وتفاصيل حياتها داخل المجتمع، خاصة أن لكل منهن رؤيتها الفنية الخاصة، وبالتالي قدمت المرأة من خلال وجهات نظر مختلفة للمخرجات.
يقوم الفيلم على 5 قصص منفصلة يربط بينها عالم المرأة من خلال عدة خيوط درامية تقتفى علاقتها بالواقع وبتفاصيل الحياة اليومية التي تعيشها أمًا، وزوجة، وطفلة، وموظفة، وربة منزل…، إلخ. ويرصد الفيلم تفاصيل عادية في حياة المرأة تصادفها في حياتها اليومية، إلى جانب قضايا وتفاصيل أخرى بها عمق إنساني، ليتوقف خلال ذلك عند التحولات التي تمرّ بها الشخصيات المحورية وتؤثر بها. وقد جاءت أحداث الفيلم منسابة في سرد تصويري مشوّق وكأن قصص النساء الخمس نسيج واحد، فلا يتولد عند المشاهد إحساس بأن ثمة تقطيع أو اجتزاء للأحداث، وذلك على الرغم من أن الأفلام الخمسة منفصلة عن بعضها البعض بأحداثها وتفاصيلها وشخصياتها، بل هي أقرب لمجموعة القصص القصيرة التي يربط بينها راو واحد.
ليس بالفيلم راويا يتداخل مع السرد الفيلمي، لكن الأحداث كلها تتمحور حول المرأة في مراحل مختلفة من العمر والمسؤولية، فيتناول الفيلم قضايا نسوية عن المرأة السعودية، وتتوقف الأحداث في الأجزاء الخمسة عند مراحل مختلفة من عمر المرأة في مراحل الطفولة، والمراهقة، والشباب، والكِبر. وقامت كل مخرجة بإخراج الجزء الخاص بها دون تعاون بين الجميع في إخراج أجزاء الفيلم.
استطاعت المخرجات الخمس أن يغوصن في عالم المرأة ويطرحن عوالمها وتفاصيل حياتها، من خلال الرؤية الفنية الخاصة لكل منهن.
تنوع كبير في قصص المرأة
تنوعت الحكايات الخمس التي تضمنها الفيلم بين الصمت والصخب، الحزن والفرح، وحالات الفقر والحياة المتوسطة، وجاءت رؤية المخرجة نور الأمير في الحكاية الأولى من الفيلم المعنونة بـ “كريمة سمية”معبّرة عن حالة ارتباك الأم في حفل زواج ابنتها التي اختفت فجأة، واستطاعت المخرجة أن تكثف الحدث من خلال الاقتصاد في الديكور والشخصيات، وأن تعبر عن الأزمة التي تمر بها الأم، واستطاع مدير التصوير أن ينقل تعبير وجه الأم ومتابعة الكاميرا لها من خلال “كلوز أب” على وجهها باستمرار، وقد ساد الصمت والحزن حياة المرأة التي تعول ابنتين في القصة الثانية التي أخرجتها سارة مسفر واتسمت بالعمق والخصوصية الفنية، إذ جاء توظيف الكادر بشكل جيد وتغيير زوايا التصوير بحسب دلالات المشهد، والتنقل داخل أماكن مختلفة من البيت لتوصيل حالة البؤس التي تعيشها الأسرة، وكان المشهد الأخير الذي تم تصويره من أعلى بمثابة لوحة فنية معبرة عن حياة الأم وابنتيها، مما يكشف عن خبرة وحرفية المخرجة التي استطاعت في بعض المشاهد أن تقسم الكادر إلى نصفين في مشهد واحد كما كان يفعل يوسف شاهين في بعض أفلامه.
استطاعت فاطمة البنوي أن تقدم في الجزء الخاص بها والذي حمل عنوان “حتى نرى النور” صباحا مائزا في حياة المرأة السعودية لأول يوم من أيام الدراسة من خلال شخصية الأم الموظفة التي ترغب في توصيل ابنها للمدرسة والذهاب إلى العمل إلا أنها في مأزق بسبب وضع السيارة بين سيارات أخرى في المرأب، ولا تدرك كيف تتخلص من هذا المأزق. اتسم هذا الجزء بتداخل الأصوات حيث المذياع ونشرة أخبار الصباح، وصوت المرأة نفسها تنادي على العامل ليساعدها، كما تضمن تصوير المشهد الخارجي حيث الشارع، والإشراق، والنباتات الخضراء، والمياه، وغيرها من صور الحياة ومفرداتها، ساهم هذا التداخل مع وضع السيارة في صنع حالة خاصة أكد عليها ضيق الكادر وهو ما يمثل تحديا لدى المخرجة، حيث تم التصوير بالكامل داخل السيارة.
براعة السيدة العجوز
برعت الفنانة القديرة سناء بكر يونس في أداء شخصية المرأة العجوز أم إبراهيم التي تعالج النساء بالطب الشعبي في الحكاية الرابعة “المرخ الأخير” التي أخرجتها هند الفهاد، فقد جاء أداء الفنانة مقنعا إلى حد كبير، ساعدها الماكيير والملابس على تقمص الشخصية، وجاء ديكور البيت على درجة كبيرة من التواؤم مع باقي مكونات العمل، وبرعت المخرجة في تناول قصة سيدة عجوز تداوي النساء بالطب الشعبي، بينما تعيش مأساة حقيقية بسبب فقدان ابنتها. فيما جاءت الحكاية الأخيرة “مجالسة الكون” للمخرجة جواهر العامري، معبرة عن حلم فتاة صغيرة في مرحلة المراهقة تقف على أبواب الأنوثة، ويتطرق الفيلم إلى زواج القاصرات، وهي واحدة من القضايا التي تناولها الفيلم وتعاني منها بعض المجتمعات العربية.
يؤخذ على الفيلم، أن القصص اتسمت بتهميش دور الرجل والاستغناء عن وجوده، إذ تصبح الحياة كلها للمرأة، بتفاصيلها وأفراحها ومآزقها. ففي الفيلم القصير الأول غاب الرجل أبًا وأخّا على الرغم من حفل الزواج، ولا يبدو الرجل إلا في مكالمة هاتفية للأم سمية تحثه على البحث عن أخته العروس. وتسير باقي الحكايات على نفس المنوال، وكأن الفيلم يتناول جزرا منعزلة تقيم بها النساء دون الرجال.
يؤخذ على الفيلم، أن القصص اتسمت بتهميش دور الرجل والاستغناء عن وجوده، إذ تصبح الحياة كلها للمرأة، بتفاصيلها وأفراحها ومآزقها.