“حب في أستوديو العمارية”: تناقض بين جيلين
13 June، 2023
عباس الحايك
يظلُّ المخرج محمود الصباغ مرتبطًا بالواقع، فأفلامه الثلاثة “بركة يقابل بركة”، و”عمرة والزواج الثاني”، و”حب في أستوديو العمارية”، كلها أفلام واقعية، أضاءت على حياة طبقة الفقراء أو متوسطي الحال، فالحكايات تدور في بيئة بسيطة، بيئة واقعية مستحضرة كلَّ التفاصيل التي تؤشِّر على بساطة الشخصيات وظروف معيشتهم. ولا أعني هنا بالواقعية في أفلام صباغ المدرسة الواقعية في السينما، وكل الجدل الذي دار لدى النقاد حول مفهومها، ولكني أعني واقعية الحكايات، ومحاكاتها للواقع المعيش.
درس محمود الصباغ السينما الوثائقية في الولايات المتحدة الأمريكية، وبداياته كانت مع السينما الوثائقية مع فيلمه “مما جرى في بطحاء مكة” قصة حمزة شحاتة، وهو فيلم وثائقي طويل يحكي قصة الأديب السعودي حمزة شحاتة (1910-1972)، الذي يعدُّ رائدًا من رواد الحركة الأدبية الحديثة في الحجاز والسعودية، مع أبناء جيله طيلة الثلاثينات الميلادية، ويركِّز الفيلم على المحاضرة الشهيرة التي ألقاها في نادي الإسعاف بمكة عام 1940، والتي كان يفترض أن يكون عنوانها “الخلق الفاضل عماد الرجولة”، ولكنه غير العنوان إلى “الرجولة عماد الخلق الفاضل”، و”المحاضرة أعطته الصيت كله والمعاناة كلها”، كما عبر وصف الفيلم على اليوتيوب، ومن يرتبط بالفيلم الوثائقي غالبًا ما يكون قريبًا من الناس، فالأفلام الوثائقية كما يعرفها كتاب “الفيلم الوثائقي مقدمة قصيرة جدًّا” لباتريشيا أوفدرهايدي، بأنها “تدور «حول» الحياة الواقعية، لكنها ليست حياة واقعية، بل إنها ليست حتى نوافذ على الحياة الواقعية، إنها لوحات للحياة الواقعية، تستخدم الواقع كمادة خام لها”، ومن منطلق هذا التعريف الذي يقارب معنى من معاني الأفلام الوثائقية، يقترب محمود صباغ من الواقع، ومن حياة الناس، وجعله ملتصقًا بالطبقة الوسطى بكل ما تحمله من هموم ومشكلات، من فرح وآمال. وفيلمه الأخير “حب في أستوديو العمارية” هو امتداد لشغفه والتصاقه، والفيلم هو واحد من مجموعة أفلام عُرضت على منصة نيتفليكس، أوكل إخراج كل فيلم من الأفلام تحت عنوان “في الحب .. والحياة” لمخرج من بلد عربي.
شخصية غريبة تعيش الماضي
الفيلم يحكي قصة أستوديو العمارية، الأستوديو الذي يقع في حي شعبي وبسيط جدًّا في جدة، والذي كان شاهدًا على الفن الغنائي في جدَّة، حيث مرَّ عليه العديد من المطربين، “كان يجينا فوزي محسون، وجا طلال، ومحمد عبده، وطارق عبد الحكيم، وحتى بليغ، وبليغ جاب معه وردة”، حسب ما ورد على لسان شخصية مهندس الصوت وصاحب الأستوديو، الشخصية الغريبة التي يبدو أنها ما زالت تعيش الماضي بكل تفاصيله، ولا تبرح ذلك الماضي أبدًا، رغم كل ما في الحياة من متغيرات، فعلًا شخصية جاءت من ذلك الزمن، فذاكرته توقَّفت عند وردة الجزائرية التي عشقها، غربة الشخصية أيضًا جعلته لا يملك هاتفًا جوالًا، كما هو الحال عند الجميع، وهو ما أثار استغراب الفنانة (ورد) التي اضطرتها الظروف إلى ألا تجد سوى استوديو العمارية لتركب صوتها على الموسيقى الخاصة بأغنيتها التي ستغنيها لشخص غني وحاشيته؛ لأنها مرتبطة بعقد مع متعهِّد هو من أوصلها للعمارية.
غرابة الرجل أيضًا تجعله مثار تندُّر من أهل الحارة الذين يجدونه فعلًا رجلًا قادمًا من القديم، ولم يستطع معايشة الواقع، حيث يسخر منه أحدهم، ويطلق عليه “ملك الكاسيت”، ويكمل تندره عليه في مطعم “التقاطيع”، أو مطعم الكبدة الشعبي الذي يتجمع فيه رجال الحارة لشرب الشاي ولعب الدومينو، حيث يخبره بسخرية بأن “الست أم كلثوم تعيش انتَ”.
يضيء الفيلم على حجم التناقضات بين جيل يتعامل مع الغناء والتسجيل بفنٍّ، بحبٍّ، بشغف، بعمق أكثر، وجيل صوره الفيلم، بأنه لا يهمه أكثر مما يجني من مال، من أغانٍ سطحية بلا معنى؛ فورد المغنية، تكتشف لاحقًا أنها ليست أكثر من سلعة في يد المتعهد، وليس فنانة حقيقية كما هو الحال مع (وردة) التي طلب مهندس الصوت من (مهدي) عامل اللوحات الضوئية أن يطبع “بوستر” لها، ولكن يبدو أنه لا يعرف من تكون وردة، وأكيد ما تشكل لمهندس الصوت، فطبع له مجسمًا لورد، فهي تقول إنها تغني “بإحساس مدفوع”، تناقض غريب لعب عليه المخرج طوال فيلمه، وأكيد أنه ينتصر للماضي بجماله وبساطته، وقيمه، هكذا نفهم من فلمه، ومن خطابه الذي أراده، وحقَّقه.
الفيلم يحكي قصة أستوديو العمارية الذي يقع في حي شعبي كان شاهدًا على الفن الغنائي في جدة، حيث مرَّ عليه العديد من المطربين.
الأداء التمثيلي
ليس المضمون وحده، ولا الحكاية هي التي أبدع فيها محمود صبَّاغ، بل حتى على مستوى الصورة، فصورة الفيلم دافئة، صورة تعتني بأدقِّ التفاصيل الصغيرة، التركيز على الوجوه، على عفوية الضحكة، عفوية الكلام، على أزقَّة الحارة، بيوتها، وجدرانها، على دفء العلاقات البسيطة، على حارة خارج دائرة الحداثة، فحتى التليفزيون ما زال يعمل بالهوائي، ملابس الناس توقَّف بها الزمن، وربما حتى حكاياتهم التي يتداولونها في المقهى.
يضاف إلى كل ذلك، الأداء التمثيلي الذي كان ميزة من ميزات الفيلم، أداء دون مبالغات ولا نمطية، أداء يصل للقلب ببساطته وعفويته، حيث جسَّد شخصية مهندس الصوت الفنان سامي حنفي، الذي شارك سابقًا مع محمود صباغ في فيلمه “بركة يقابل بركة”، وجسَّدت شخصية ورد الفنانة ضي الهلالي، حيث يبدو جليًّا اهتمام المخرج بأداء ممثليه، وكيف يمكنهم أيصال خطاب الفيلم، حيث حملهم هذا الخطاب أكثر مما حمل الصورة، واختيار زوايا التصوير، وكفلميه السابقين، تجد أن الممثل حاضر بقوة، ومدرَّب بشكل جيد، ولم يُترك كيفما اتفق.
العناية بكلِّ عناصر فيلمه، جعلت من “حب في أستوديو العمارية” فيلمًا واقعيًّا، يملك قيمة فنية عالية، وتنمُّ عن تطور في مستوى اشتغال صباغ السينمائي، فكل عمل له يترك أثرًا، وتتنامى لديه قدراته وموهبته التي أثبت من خلالها وعيه.
بالتأكيد ينتظر من محمود صباغ أعمالًا قادمة تؤكد انشغاله بالواقع، وبالاقتراب من الناس وحكاياتهم، فهو قادر على نبش هذه الحكايات، ليخرج لنا أفلامًا مبدعة، فهو حكَّاءً سينمائي بامتياز.
العناية بكل عناصر “حب في أستوديو العمارية” جعلت منه عملًا واقعياً، يمتلك قيمة فنية عالية، وينم عن تطوُّر في مستوى اشتغال الصباغ سينمائيًّا.