لفت الانتباه في “مهرجان أفلام السعودية” بتقنياته العالية “ديار حسمى”.. دراما وصراعات أخلاقية في حقبة مضطربة

4 January، 2023
حظي الفيلم القصير “ديار حسمى”، الذي عُرض في “مهرجان أفلام السعودية” في دورته الثامنة، بإشادة المهتمين بالتقنيات العالية التي ظهر بها العمل. وتدور أحداثه حول شابين يوجهان معًا قُطّاع طرقٍ في قلب الصحراء. وبسبب هذه المواجهة، يدب الخلاف بين رفاق الدرب، ويدور حوار حول أخلاقيات القتال، وأسبابه.
المكان يبتلع الحكاية
على وقع رقصة الدحة الشهيرة، يصافح فيلم “ديار حسمى” في أول مشاهده الحضور برقصة فلكلورية، ارتبطت تاريخيًّا بشحذ همم المقاتلين قبل المنازلة. وهي عتبة أولى لتصنيف الفيلم كعمل ملحمي، تختلط فيه العادات بالقتال والفروسية. وبعدها يأتي المشهد الثاني، والبطل يرتحل بين كثبان الرمال وحيدًا، ومعه يتجول المخرج في أرجاء مدينة “نيوم” بلقطات بانورامية تظهر المكان بجباله وسفوحه بصفته الحدث. وهذا تحدّ بالغ الصعوبة يواجه صنّاع الفيلم، بالوقوع في فخ جمالية المكان على حساب الحكاية. أي أن المكان يبتلع العمل، فيتحول العمل من كونه عملًا إبداعيًّا، إلى فيلم وثائقي يرصد الفلكلور ويبرز جماليات المكان وتاريخيته.
وبسبب ذلك، خَلَقَ سيناريست العمل شخصية التائه لترسيخ ثلاث قواعد مهمة لضمان السلاسة والتشويق، وهي: تباين الصراع، وكسر توقع المشاهد، وتواري الإبهار البصري.
أما عن تباين الصراع، فنجد ذلك ضمن مسارين، الأول: مع طرف خارجي، وهم قطاع الطرق، والصراع معهم ضمن معيار الحياة أو الموت. والثاني مع طرف داخلي، وهما رفيقا الدرب، وخلافهما حول القيم الأخلاقية التي تحكم علاقتهما. وهدف سيناريست العمل من خلال الاشتغال على هذين المسارين الوصول إلى منطقة كسر توقع المشاهد وما ستؤول إليه الأمور، فهل يغلب الخطر الخارجي على قرارهما بالمحافظة على هذا التوافق، أم أن الأخلاق تقول كلمتها وتضع نهاية لكل شيء؟ وأمام هذا الصراع والتصاعد في الأحداث، يتوارى الإبهار البصري، ويقبع خلف الحكاية، كنتيجة طبيعية، بدلًا من أن يكون الحدث المحوري.
يتسم الفيلم بطبيعة وثائقية وملحمية.. حيث تتوازى فيه الجماليات الفنية وسطوة المكان وحضور الأمور الاجتماعية كعادات القتال وشمائل الفروسية.
المبرر الأخلاقي
لم تأت الأخلاق يومًا بصفتها قيمًا منفردة تعيش وتنمو في جزر منفصلة، بل هي منظومة متكاملة، ما يعطيها القدرة على تفسير نفسها وتقديم المبررات والتصورات. وفي حال استعصى أمر ما في هذه المنظومة على التفسير الذاتي، يتم اللجوء إلى ما وراء الطبيعية كحل للتصالح مع الذات، وقبول تلك القيم بكل إرهاصاتها وسياقاتها.
وفي الزمن الذي جرت فيه أحداث “ديار حسمى” (1902م)، حرص الفيلم على التأكيد أن القيم هي ما يسيطر على علاقة الأفراد ببعضهم البعض، فضلًا عن علاقتهم بالمجموعات البشرية المقابلة لهم. وتلك الأخلاق لا تزول رغم النزاع والاضطراب السائد في تلك الحقبة.
وتبدأ سلسلة التمسك بالأخلاق منذ اللقاء الأول بين البطل والرجل التائه. فرغم تفوق البطل عليه، عدة وعتادًا، فإنه قبل به كرفيق درب وشريك في مواجهة التحديات. وهذا الموقف يثبت أن القوي لا يأكل الضعيف دائمًا؛ بخاصة إذا قدم الضعيف نفسه كطالب مساعدة وذي حاجة. إذ إن الغدر به حينها، بحسب ما جرى عليه العرف، أمر معيب. ورغم الوفاق القيمي الظاهر بين الطرفين، فإن الاختلاف يدب بينهما عندما يقرر البطل قتل أحد قطاع الطرق، وهو مجرد من سلاحه، وفي حالة ضعف واستجداء.
بعد هذه الحادثة مباشرة، تتغير طبيعة العلاقة بين الطرفين، ويبدأ اللوم المباشر على ما وقع، باعتباره أمرًا معيبًا، ولا يليق بأن يخرج من البطل الشهم. فكيف لمن ينقذ الملهوف أن يصفي ملهوفًا آخر لا يحمل السلاح، وهو على مشارف الموت أساسًا؟
إن تفكيك التقييم الأخلاقي يطرح السؤال على مصراعيه: هل من ينتهك الأخلاق النابعة من العادات والتقاليد البدوية المتجذرة في الوجدان والمخيلة العربية من المبرر إيقاع العقوبة عليه بدافع يتم تبريره أخلاقيًّا أيضًا؟ وعلى الرغم من الشرخ العميق الذي وقع بين الطرفين، تستمر العلاقة وصولًا إلى إنقاذ أحدهما للآخر، مثلما حدث عندما حاول ذئب افتراس البطل والفتك به، إلا أن رفيقه أنقذه وقضى على الذئب بنفسه.
ورغم هذا الوضوح البادي في العلاقة، والنهاية الباردة التي أخذت تقود المشاهد؛ بخاصة بعدما أرشد البطل رفيق دربه إلى الغاية التي التقيا من أجلها، وهي القرية التي كان سيقصدها، فإنهما ما أن يفترقا حتى تستقر رصاصة في رأس البطل، ويسقط جثة هامدة، دون أن يحدد المخرج هوية القاتل، سواء كان رفيقه أو أحد قطاع الطرق المنتشرين في الصحراء. وفي حال افترضنا أن القاتل هو رفيق دربه، فهل المنطلقات الأخلاقية ذاتها تبرر فعل الخيانة، فضلًا عن اعتبار قتل البطل الذي قتل هو من قبل رجلًا ضعيفًا وأعزل كان يستجديه بأنه خيانة أيضًا، بعد أن برهن بأنه وهو قوي لا تضبطه أخلاقه، ما استلزم وقوع فعل حاسم ضده تمامًا كاسم الديار التي تدور فيها أحداث الفيلم؟
يعتمد الفيلم على ثلاثة عناصر للتشويق.. هي: تباين الصراع وكسر توقع المشاهد وتواري الإبهار البصري.