ليل (القضعاني) وخيباته قراءة في فيلم مندوب الليل لعلي الكلثمي
محمد البشير
12 August، 2024
محمد البشير
لا يستطيع أن يتخلص مَن يشاهد فيلم لعلي الكلثمي من استحضار أرشيفه الثري في تلفاز11، وما تركه من بصمة تواصلية مع جمهوره في “خمبلة” وما بعدها، والأدوار التي قدمها (محمد الدوخي) بتنوعها وثرائها ومساحتها الكوميدية على الأغلب، وما فعله الاثنان (الكلثمي، الدوخي) من تسويق وتحضير للانطلاقة باستثمار وصولهم، وبذكاء تمكين الجمهور من المشاركة ابتداء بتصميم البوستر في مسابقة أطلقها المخرج علي الكلثمي على حسابه في منصة “X”، ومرورًا بالاستفادة من ردود الأفعال حول فيلم (ناقة) وما أثاره من جدل، فكلها ستنعكس بصورة أو أخرى على فيلم (مندوب الليل) بوصف الفيلمين يخرجان من عباءة تلفاز11، ومن صديقين مقربين، هما الكلثمي ومشعل الجاسر، وإيمان الكلثمي بما يقدمه الجاسر، ووصفه للجاسر بمستقبل السينما في المنطقة العربية لا السعودية، فحسب! في رد على تغريدة مسيئة لمشعل الجاسر، ومراهنا على ذلك بحفظ تغريدته لخمس سنوات. وبعيدًا عن ذلك، فهذا الرهان الذي يقدمه نراه واقعًا في رحلة تلفاز منذ نشأتها، ودافع الكلثمي الذي باعثه شعور الأخ الأكبر كما نقل عبدالله الخميس ذات حوار، ومن يتتبع مسيرة الكلثمي وتلفاز11 سيصل إلى هذا اليوم الذي يقدّم فيه الكلثمي فيلمه بعد قدر من التريث، فمنذ انطلاقة السينما، ودخول الأفلام السعودية إلى صالات العرض لم يتعجل الكلثمي – وهو شريك مؤسس – بالدفع بفيلمه سريعًا إلى صالات العرض، وهي – أي تلفاز11 – من قدمت أفلامًا سواء لصالات السينما، مثل “سطار” و”أغنية الغراب”، ولنتفليكس مثل “الخلاط+” و”الخطابة” و”ناقة” وغيرها، ومع ذلك لم يأتِ هذا الفيلم إلا بعد قدر من التريث والتهيئة والتسويق والتفاعل مع الجمهور (الرقم الصعب في معادلة صناعة السينما)، فبقدر الإقبال والتفاعل في الأيام الأولى لانطلاقة أي فيلم؛ سيتم جدولة الفيلم في ساعات الذروة، وزيادة حصته من ساعات العرض، واستمرار بقائه في السينما لمدة أطول، وقد كان التفاعل قائمًا بين الطرفين، فالكلثمي والدوخي يسوّقان للفيلم بحضورهما في صالات السينما، واستثمار زيارتهم لصديقهم محمد القرعاوي أحد الكتاب والممثلين أيضًا في القصيم، ما بين مدينتي عنيزة وبريدة، دون أن يُغضبا إحداهما، وحضور مباراة رياضية لكسب جمهور أكثر الأوساط جماهيرية دون ترجيح فريق على فريق، واقتناص أكثر الفريقين جماهيرية (الهلال والنصر) بميول الاثنين الرياضية، والانتقال للكويت لمشاركة عرضه خليجيًا، وتسجيل حلقة مع فيصل العقل في بودكاست (بدون ورق)، وهو من البرامج الخليجية المؤثرة، فهذا التفاعل والتواصل بين صُنّاع الفيلم والجمهور؛ يجعل اسم مندوب الليل حاضرًا، وهو يستحق هذا الحضور، ويحصد بهذا الحرص نتيجة لافتة، فالفيلم- حسب الهيئة العامة لتنظيم الإعلام- حقق ثاني أكبر افتتاح لفيلم عربي في السينما السعودية، وهي مكانة يستحقها الفيلم وتلفاز11، الأستديوهات التي أثبتت قدرتها على فهم الجمهور السعودي والوصول إليه.
من يتتبع مسيرة الكلثمي و”تلفاز11″ سيصل إلى هذا اليوم الذي يقدّم فيه الكلثمي فيلمه بعد قدر من التريث.
البوستر
لدى الكلثمي رصيد وافر من تصاميم البوسترات لفيلم “مندوب الليل”، ولعله يستخدمها تباعًا، ولا يضير الفيلم كثرة البوسترات، بل ربما يتيح مساحة جديدة لجمهور آخر، واستنادًا إلى البوستر الذي اعتمده الفيلم، حيث تحتل صورة فهد القضعاني قلب البوستر بعينين حمراوين، وخلفية لشوارع الرياض في الزاوية الغائبة والرامزة كما هي في اللوحات العالمية المعبرة، وخاصة حين يكون الاسم مركبًا مثل (مندوب الليل)، ويسعى الفيلم إلى تفسير الكلمة المضافة (مندوب) لُغويًّا بكل ما تعنيه في افتتاحية الفيلم وقفلته، دون الالتفات إلى أن المضاف يكتسب التعريف بالإضافة في قواعد اللغة، وهنا (مندوب) مُضاف إلى (الليل) الذي أهمل تفسير معناه لغة، لأنه معرفة، والمعرفة لا تُعرّف، والأجدى أنه يقدّم ليلًا جديدًا ربما لا يعرفه الجمهور، ولا تسعه قواميس اللغة، أليس الليل (أبو الأسرار) كما سمعناها من عبدالله رشاد، وهذا القدر من الأسرار لا يُستهان به، فمهما حاول المشاهد من الاستهانة بقصة لمندوب مبيعات في مساء الرياض، ووهمه بمعرفة كل شيء كما يظن؛ سيفاجأ بما لا يعرفه، فالسينما لها مساحة المخيال ، وعالم المخيال في صناعة السينما – كما يصفه صباح ياسين- “غير محدود الأفق ولا نهائي إطلاقا، عبر الصورة والحركة والإيماءة وغيرها، بينما الكلمة أسيرة أفق قاموسها اللفظي واشتقاقاتها البلاغية، ويشكل هذا الامتياز عامل قوة تأثيرية على المتلقي يصعب منافستها”، وهذا ما يرجح الساعة وخمسين دقيقة من المتعة البصرية أمام ثوانٍ من التفسير اللغوي.
لدى الكلثمي رصيد وافر من تصاميم البوسترات لفيلم “مندوب الليل”، ولا يضير الفيلم كثرة البوسترات، بل ربما يتيح مساحة جديدة لجمهور آخر.
تالي الليل
اجتهد المخرج لتعريف الليل بالصورة لا اللغة، فالسينما صورة لا تعريفات لُغوية، والليل في العنوان يحيلنا إلى التوقيت الزمني الأكثر حُلكة، وما أشدَّ حلكة مساء القضعاني بعد فصله! وكأنه يعيدنا إلى ليل امرئ القيس الذي نحفظ أبياته جميعًا، ونستحضرها في فيلم ابتدأ باللغة في ذاكرتنا، فهل هناك ليل يفوق ليل الملك الضليل؟ وهو من هو حين قال:
وليل كموج البحر أرخى سدولهُ
عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
فَقُلْتُ لَهُ لما تَمَطّى بصُلبه
وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلي
بصُبْحٍ وما الإصْباحَ منك بأمثَلِ
فلون الأخضر الفسفوري بكتابة اسم الفيلم (مندوب الليل) يعيدنا إلى منطقة حائرة ما بين الليل والنهار، ويعلّقنا في حلم العبور إلى البياض/النهار، بينما عينا القضعاني الحمراوان تؤكدان العلوق في السواد/ الليل دون جدوى، فنومه أثناء الخطبة نهارًا يجعلنا على يقين بأن ما يقاسيه ويعانيه من سهر لا يمكن أن يدركه والده ولا خطيب المسجد! وأن اللون البرتقالي الغائب هنا في معادلة الإشارة المرورية، وحده الحاضر في لحظات الشروق التي تأتي ولا تأتي، والغروب الذي يسمح للّون بتكرار ذاتها في يوميات (فهد) وخيباته المتوالية، واستنساخ العودة لليل دون نهار ينبي بانفراج، فالليل يزداد حلكته، ولا تسمح الرياض برقتها (تالي الليل) كما يقول بدر بن عبد المحسن أن تحتوي فهد القضعاني وتعامله بلطف، فنصيبه من الليل مختلف عن نصيب الآخرين.
عينا القضعاني الحمراوان تؤكدان العلوق في السواد/ الليل دون جدوى، فنومه أثناء الخطبة نهارًا يجعلنا على يقين بأن ما يعانيه من سهر لا يمكن أن يدركه والده ولا خطيب المسجد!.
لحظات الإدراك
لا يمتلك فهد أي لحظة إدراك، وإنما يتركها المخرج للمشاهد في اللحظة الحاسمة التي طلب المدير فيها من فهد أن يوقع على استقالته، ويخرج سالمًا لا له ولا عليه، وانتقل بالمونتاج إلى وجوه لجنة المقابلة، وهي لحظة حاسمة لفهم شخصية فهد المرتابة، فهل هذه الصورة حقيقية؟ أم أنها من عقل فهد الذي منتجها وأحسن مونتاجها، للصعود بها إلى لحظة من التسرع والقسم بأن لا يوّقع، والاشتباك بالأيدي، والوصول إلى طفاية الحريق التي أشعلت الموقف ولم تخمده؛ لتلتهم النيران بعدها حياة فهد دون الوصول إلى أن تمن عليه بمرحلة الرماد، فحتى لحظة الختام على وجوه المسحوقين، ما هي إلا لحظة من الانتقال من جحيم في حياة تحترق إلى محطة أخرى لا منتهى لها.
تكرر وصف فهد بالإنسان الذي نعرفه، في مناقشة للفيلم في نادي السينما بجمعية الثقافة والفنون بالأحساء، وهذه لحظة إدراك لدى المشاهد حين يتواصل مع أبطاله، ويعرفهم، ويشعر بعدم القطيعة مع ما يشاهده، ففهد المسحوق والمنكسر والمتورط مع صديقته على طاولة في مطعم فاخر، والترقب بعينين خائبتين بمرافقة صديق/دخيل على الطاولة، والورطة التي تنتظره بالحساب، هو ذاته المكابر أمام مديره في دورة المياه لحظة الهروب، ودعوته على العشاء ومشاركتهم، والإباء الذي ينزل فجأة، والتمنع عن قبول تنازله، والادعاء بامتلاك مبلغ لا يستطيعه؛ بينما من اليسير عليه لو تأمل شكره على كرمه، وتنازله، وإثبات تلك اللحظة التي يجب على المشاهد إدراكها أثناء تغامزهم، بأنها ما هي إلا من مونتاج القضعاني.
الشوارع الخلفية
يُصدم المشاهد بهذا الليل الذي لا يعرفه، والشوارع الخلفية التي لا يصل إليها؛ بينما لا تتورع الكاميرا عن الغوص أكثر، وملاحقة من يقبض بالظرف لا بالتحويل المالي، والسهرات التي تصلها السينما بقدرتها على الوصول، والاستفادة من قصص لا يسمع بها الشارع، وإنما يتم توظيفها لصناعة فيلم جاذب، وإثارة تصنع الدهشة، فدور السينما ليس حكاية ما يجري بقدر ما هو صناعة واقع موازٍ، والاستفادة من أماكن الإثارة، ولا أكثر من تصوير فهد القضعاني ما بين الحالتين من التناقض، الاتجار بالخمور للوصول إلى المبلغ المطلوب، والمضمضة من شربة خاطئة، والصلاة في المسجد، فكل إنسان له لحظة إدراك لا يمكن أن يتجاهلها ما بين الخطيئة والاستقامة، والتأرجح ما بينهما للوصول إلى بر والده، والحفاظ على أخته، والحلم بالزواج والاستقرار، وإبهاج بنت أخته، ولكن حظ القضعاني (.. كـدقيق فوق شوك نثروه، ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه) فأينما يدقها؛ عوجاء، ولا يستقيم من اعوج حظه، فالسعادة كالظل، ولا يستقيم الظل والحظ أعوج.
يُصدم المشاهد بهذا الليل الذي لا يعرفه، والشوارع الخلفية التي لا يصل إليها؛ بينما لا تتورع الكاميرا عن الغوص أكثر، وملاحقة من يقبض بالظرف لا بالتحويل المالي.
ساعة وساعة
نتائج شُباك التذاكر ترجّح كفة الكوميديا، فنتائج الأفلام الكوميدية هي الأكثر مبيعًا، وهذا ما يترجم الاستثمار في الكوميديا المصرية، ونجاحها في السوق السعودي، ويعود الأمر ربما إلى فهم الطرفة العربية عند مقارنتها بالكوميديا الأجنبية، وعرقلة الترجمة عند وصولها إلى المشاهد العربي، فميزة الكوميديا وصولها السريع؛ لأن كل ثانية تؤخرها تعمل على إفسادها، ولذلك تفوز الكوميديا العربية (والمصرية تحديدًا) في هذه المنافسة، وهذا تفسيرٌ لما حققه فيلم “سطار” أيضًا من نتائج لم يصلها أي فيلم سعودي بعد، والمفارقة أن “مندوب الليل” الذي لم يغفل اللحظات الكوميدية المعتمدة على الموقف؛ إلا أنه فيلم درامي ما لم يصل إلى التراجيدي بخاتمته، ومع ذلك حقق -وما زال يحقق- نتائج جيدة، وهذا ما يعيدنا إلى مجاورة القناع الحزين للمبتسم عبر مرادفة الكوميديا للتراجيديا، وحضورهما متجاورتين، ولعله جوار فأل، فربما يصل دائرة المنافسة إلى الخمسة أفلام الأكثر مبيعًا، والأمنيات أن يصل المليون تذكرة، ويكسر ما حققه فيلم “سطار” مع أن التحدي أشد صعوبة بفيلم درامي، ولكن ما تحقق يثبت أن الأمر لا يستحيل بالاستثمار في مآسي الآخرين وخيباتهم، وصناعة مُشاهد جديد لا تقتصر مشاهداته على الكوميديا، فالجرأة التي تخوضها الأفلام السعودية؛ تثبت أن مساحة التجريب كبيرة وواسعة لاكتشاف قدرات الصُناع، وتقبل المشاهدين وإقبالهم، وأن الأبطال الشباب قادرون على التهيؤ لمرحلة نجوم شباك التذاكر بتكرار التجارب الناجحة.
نتائج الأفلام الكوميدية هي الأكثر مبيعًا، وهذا ما يترجم الاستثمار في الكوميديا المصرية، ونجاحها في السوق السعودي.