• English
  • 20 يناير، 2025
  • 5:20 ص

مقام الحجاز على طريق راء

مقام الحجاز على طريق راء

مشاعل عبد الله

13 August، 2024

مشاعل عبد الله

 

“هلك الظالمون، وظلَّ المظلومون أحياء بيننا، ترمَّدت عظام القتلة، ونعمت أرواح الضحايا بالوجود؛ والـمُدن كائنات تصمت، ولكنها لا تنسى، وعلى هذه الصفحات بعض ما فاض من إناء الغليان

التوقيع: جدة”.

(رواية مقام حجاز لمحمد صادق دياب).

 

الكاميرا تبتعد تدريجيًّا عن جسد نجم البحري الواقف بشموخ وسط رمال الصحراء الشاسعة في ذلك الصباح القرّ، والشمس البعيدة على يساره. كان صباحًا باردًا كبرودة الموت، وجافًّا كالهجير! هكذا اختار المخرج محمود صباغ مشهد النهاية لفيلمه الأخير “آخر سهرة في طريق ر”، هذه النهاية تستدعي في الذاكرة صورة جدة في رواية “مقام حجاز” للراحل محمد صادق دياب.

يستدعي مشهد النهاية في الفيلم الأخير للمخرج محمود صباغ “أخر سهرة في طريق ر”، صورة جدة في رواية “مقام حجاز” للراحل محمد صادق دياب.

فضاء جدة

يشترك دياب وصباغ في تقديم جدة، كفضاء سردي قادر على احتواء التاريخ والحاضر، وكأنما قدر لأبناء جدة تدوين حكاياتها من خلال الوقوف على أطلالها، كعادة العربي في رثاء المكان أو المحبوب. يقدم صباغ قصيدة بصرية في حب جدة، وعتاب للزمن الذي سرق منها حضورها البهي في ميدان الفن والثقافة. هذه التناقضات والرسائل المتعدِّدة في ذات الوقت، لا تقتصر على تيمة الفيلم العامة، فالنص المكتوب بشكل جيد، ورسم شخوص السرد الدرامي للفيلم ساهم في تعزيز هذا الشعور الضبابي، والذي اعتقد من الأنسب تسميته الزئبقي؛ لأنك لن تستطيع الإمساك بشعور واحد تجاه الشخصيات، حتى نهاية الفيلم في تلك الليلة المجنونة، والتي لا يمكن تحديد حقيقتها أو ماهيتها. هل هي ليلة واحدة طويلة كليلة الحب في أغنية الست، أم أن الفيلم عبارة عن صورة لليالٍ عديدة ينسجها المخرج مع شخصياته، ليقدم لنا معزوفة عن كيف يقضي الرجال والنساء، الأغنياء منهم ومتوسطو الدخل، ليلهم في جدة.  

ليلة صباغ ورفاقه تبدأ في جدة، وتنتهي على تخوم الرياض، حيث تشير بوصلة الأعمال والنجاح في رحلة البحث عن تحقيق الأحلام والثراء. يفتتح صباغ الفيلم بأغنية “أنعشوني لا أطيح” بصوت الفنانة مروة سالم، يرافق صوتها العذب في المشهد كرسي أحمر اعتدنا رؤيته في المناسبات. يحتل الكرسي مساحة مهمة من الكادر لتوضيح الظرف المكاني للحدث وهو العُرس، وفي المشهد التالي تقتحم العدسة أكثر الفضاءات حميمية وغرقًا، فيحتل الكرسي مركزا هاما في المجتمع السعودي، حيث قاعات الأعراس، وهو في ذات الوقت يمثل الحدث الذي يمكن من خلاله رصد التغيرات التي مرَّ بها هذا المجتمع؛ عبر التحولات التي جرت في  مكان العرس والفرقة الغنائية.

رحلة التغير تبدأ من إقامة الأعراس في المنازل، وتحديدًا فوق سطوح المنازل، إلى التباهي بالقاعات وازدهار صناعة تنسيق الأعراس، حيث تشكل المطربة جزءًا مهمًّا من ميزانية العرس، ومعيارًا لقياس رضا المعازيم، وتحمل دلالات اجتماعية واستهلاكية وثقافية عدة. وتحولت منظومة “الطق” والفرق الشعبية من كيان يمثل حضورًا نسويًّا طاغيًا- حيث تدار بالكامل من قبل النساء، بينما يحتل الرجل فيها مساحة هامشية كأن يكون سائقا مثلًا-  إلى كيان يحتفي بامرأة وحيدة للغناء، ويسيطر الرجال على مهام العزف بالعود والايقاعات.

يشترك دياب وصباغ في تقديم جدة كفضاء سردي قادر على احتواء التاريخ والحاضر، وكأن قدر أبناء جدة هو تدوين حكاياتها من خلال الوقوف على أطلالها.

لمحة ذكية

هذه الافتتاحية من صباغ كانت لمحة ذكية؛ لأنها تقدم لنا “كولا” ورفاقها في فرقة نجم للصوتيات، في إطار الصورة الذهنية لمطربات الأعراس في ذاكرة المشاهد. وجود “كولا” وحيدة على المسرح، وفرقتها في مكان خاص، تنويه على أن الزمن الذي تسرد فيه الحكاية هو الزمن الحالي؛ لأن المشاهِد مع تتابع الأحداث قد يلتبس عليه الخط الزمني للحكاية، وذلك بسبب أن بعض قطع  الملابس والأثاث  تنتمي لحقبة التسعينات، ولكني أعتقد أن هذا السراب والالتباس الزمني مقصود لرفع وتيره الإحساس بالحنين والنوستالجيا، خصوصًا أن فرق الغناء الشعبية النسائية كانت في أوج ازدهارها في فترة التسعينات وبداية الألفية.

يوثق صباغ طقس “الشوط الخاص” في الأعراس، وهو المقابل الغنائي لقصيدة المديح والثناء في الإرث الثقافي للعرب، مع فارق أن العطاء والمنح المادي للمطربة يقابله إشهار وإعلان من “المطربة/ الطقاقة”، أن هذه الأغنية حكر على نساء هذه العائلة، كي يتمايلن على أنغامها ابتهاجًا وافتخارًا بمزايا العائلة/ القبيلة، وحتى هذا الطقس لم يسلم من رياح التغيير، فبدأ في الأفول في أغلب الأوساط الاجتماعية. المفارقة أن كولا صدحت “سلاطين يا عطا الله”، وبعد ذلك بدأت رحلة فوضوية مثيرة أقرب ما تكون لرحلة أصدقاء في “مدينة الملاهي”.

وكعادة مدن الملاهي في قدرتها على منحك مشاعر وانفعالات، قد تتباطأ أو تتسارع حسب اللعبة، يخوض نجم البحري “أبو معجب”، صاحب الفرقة، وابن كاكا القمر (يلعب دوره عبد الله براق)، وفرقته- مكونة من: المطربة “كولا” (تقوم بدورها مروة سالم)، ومهندس الصوتيات للفرقة “سيلفر” (يقوم بدوره الفنان الراحل سامي حنفي)، والعواد “طرفي” (يقوم بدوره رضوان جفري”- مغامرات لا تتشابه في إيقاعها وواقعيتها وتأثيرها، ورغم ذلك ستجدها منسوجة بمهارة، حتى لا يتسرب اليك الملل، وبذكاء قادر على إبقاء شعله الانجذاب للصور والكادرات والحوار المكتوب ببراعة. فكانت الشخصيات تتكلم كما تفكر، لا كما يفكر صانع الفيلم. وهذا أمر يمكن ملاحظته بوضوح حينما نقارن الحوار بين الشخصيات هنا، والشخصيات في فيلم ” عمرة والعرس الثاني” والذي أنتج في عام ٢٠١٨.

ملامح وتناقضات

صباغ في فيلمه الأخير يبرز ملامح الشخصية وتناقضاتها، من خلال تفاصيل صغيرة، حيث نجد نجم ولد كاكا يفخر بمجد أمه وتاريخها في ليالي جدة، وفي ذات الوقت يردد خلال مواضع عدة جملة “اذكروا محاسن موتاكم”، وذلك في محاولة للتملص من تاريخها. ارتبط اسم كاكا بــ (القمر)، حيث يتم الحديث عنها بشاعرية بين أعضاء فرقة نجم وغيرهم ممن يعرفون ليالي جدة الطربية وتاريخها. ؛ لأنها الأم والمعلمة ومبتدأ التجربة. وقد تبدو كاكا رمزية  لـــ “جدة” في هذا السرد. وكأن المخرج حريص على رثاء مدينة جدة ظاهريًا وضمنيًا؛ لارتباطها بأم البشر “حواء” وقبرها كما وثقه القاسم بن يوسف السبتي في القرن السابع الهجري.

يحتفي الفيلم بالتراث الشعبي للجزيرة العربية وتنوعه، ووظف حضور الأغاني بشكل مناسب للسياق والحدث. فمثلًا أغنية “شفته يلوحي فوق السطوحي” غنتها مروة في مشهد تجريبها غناء فواصل للإذاعة، وهي أغنية حاضرة في وجدان عشاق الطرب، وقد ترنم بها طلال مداح، وشاركه الأداء موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. أما اغنية “سليم يا سليم”، وهي من عيون أغاني الحجاز، فكان حضورها في كوبليه “واللي سقاني ما يخاف الله” في سهرة مليئة بالكؤوس الفارغة بعد حفلة صاخبة. أما حفلة الطلاق فقد اختار لها صباغ أغنية “يا معوض من صبر”. وفي حضرة أشهر تجار جدة “أبي سراقة”، وضمن محاولات “كولا” لإغوائه، غنت: “قال المعنى علينا للهوى ألف طاعة”. وضمن محاولات كولا في البحث عن الشهرة وفرص العمل مع الشيخ حسني، متعهد النجوم والحفلات، كانت الأغنية في ذلك الفضاء “يا أهل الهوى اسمعوا شكوتي أنا، شوفوا لي قلبي وانظروا حالتي”. وحينما كان أعضاء الفرقة نيامًا في السيارة، ونجم يطوي الطرقات في رحلته نحو بيت البحر، لسيدة طالما أحيت والدته كاكا لها الليالي، كان المشهد يترافق مع آغنية أبو بكر سالم “يا سهران اهدأ ونم”، وحينما رحل نجم وفرقته إلى الرياض كان صوت السهر سامري وشعبيات.

خيري بشارة

يحلُّ المخرج المصري الكبير خيري بشارة، والذي تدور معظم أعماله عن قضايا المهمشين والبسطاء، كضيف شرف في فيلم “آخر سهرة في طريق ر”، من خلال دور خواجة إيطالي يدير ملهى للجالية الآسيوية في باب شريف. مسيرة خيري بشارة في التمثيل تتجاوز العشرين فيلمًا، تحتل فيها أفلام محمد خان المساحة الأكبر، ويعود ذلك للصداقة التي تجمع بين محمد خان وخيري بشارة. حضور بشارة في الفيلم يحمل معاني الدعم والامتنان لصديقه محمود صباغ، المدير السابق لمهرجان البحر، حيث قام المهرجان بترميم بعض أعمال لبشارة مثل أفلام “العوامة ٧٠”، “الطوق والأسورة”، “يوم مر ويوم حلو”، “إشارة مرور”، “أيس كريم في جليم”، وفيلم “كابوريا”. تأثر صباغ بسينما خيري بشارة واضح وجلي من ناحية المواضيع المرتبطة بالشباب، وأسلوب المدرسة الواقعية مع لمحات من الفانتازيا. وخلال مسيرة صباغ السينمائية كان للسينما المصرية حضور في القضايا التي يناقشها، مثل وجود مشهد عابر من فيلم “باب الحديد” (من إخراج يوسف شاهين وإنتاج عام ١٩٥٨) في فيلم “بركة يقابل بركة”. أما فيلم “عمرة والعرس الثاني” فقد كان المشهد الذي يناسب سياق الحكاية من فيلم “الزوجة الثانية” (لرائد الواقعية في مصر المخرج صلاح أبو سيف).   

رموز ومعاني

الفيلم ملء بالرموز والمعاني المبطنة، فاختيار اسم مهندس الصوتيات جون سيلفر لا يمكن أن يكون من قبيل المصادفة، أو دون أن يحمل دلالة. سيلفر “جزيرة الكنز” يشترك مع سيلفر “آخر سهرة في طريق ر”، في قدرتهما علـى حصد تعاطف المشاهدين، رغم سلوكياتهم الخارجة عن القانون، وضياع أعمارهم في البحث عن شيء ما، وقدرتهم على حل الأمور المستعصية، يستحضر صباغ العمى وغياب البصر في جميع أعماله، لكن عمى طرفي العواد يحمل دلالات مختلفة هنا مقارنة بأفلام صباغ السابقة. فالعمى هنا  أكثر شاعرية، وهو قادر على منح  “طرفي” امتياز القرب من “كولا”، وبالتالي التمتع بكل ما ستحظى به. “طرفي” يملك ذات البصيرة التي حظي بها أبو العلاء المعري وطه حسين وخورخي لويس بورخيس. حيث يؤدي غياب البصر إلى رهافة الحواس الأخرى وحدتها. أما في فيلمي “بركة يقابل بركة” و”عمرة والعرس الثاني”، فقد كان العمى ملازمًا لإمام المسجد والشيخ؛ لتأصيل وتعميق شعور الانغلاق الفكري وضيق الأفق، وكأن هذه الشخصيات خارجة من قصة “بلد العميان” للكاتب “هربرت جورج ويلز”.

منح صباغ مشاهديه البهجة والدهشة، من خلال حركة الكاميرا وكادرات التصوير والإضاءة، واختيارات الأغاني والجمل العميقة في الحوار. لكن تمكُّن صباغ من أدواته تجلى في مباراة الأداء الرائع بين عبد الله براق “نجم” و مروة سالم “كولا”. إذ تمتلك مروة حضورًا محببًا على الشاشة، وتلقائية في الأداء، وتمكنا من أدوات التعبير من ناحية الصوت، ونظرات العيون، وحركات الجسد. وحضورها في هذا الفيلم يبشِّر بمولد نجمة سينمائية، قادرة على خلق حضور مختلف في خارطة الأفلام السينمائية في السنوات القادمة.

لم يتجاهل صباغ رمزية فوزي محسون في ذاكرة الغناء الشعبي في الحجاز، ولعلنا نستذكر هنا أغنيته “سبحانه وقدروا عليك وخلوك تنسى احبابك”، هذا العتاب الشجي الذي بقى حاضرًا في ليالي الأعراس السعودية، كغيمة صيف عابرة في مساء يحتفي باللقاء. ففيلم صباغ رسالة لكل طيور جدة المهاجرة، وتحديدًا كوبليه “نسيتنا واحنا في جدة، ونسيت أيامنا الحلوة”، حتى وإن غابت الأغنية فالمعنى حاضر.

منح صباغ مشاهديه البهجة والدهشة، من خلال حركة الكاميرا، وكادرات التصوير والإضاءة، واختيارات الأغاني والجمل العميقة في الحوار.

يحلُّ المخرج المصري الكبير خيري بشارة، كضيف شرف في فيلم “آخر سهرة في طريق ر”، من خلال تقديمه دور خواجة إيطالي يدير ملهى للجالية الآسيوية في باب شريف.

فاصل اعلاني