هل يمكن الحديث الآن عن نظرية نقدية للفيلم السعودي؟
13 June، 2023
عبدالله العقيبي
ليس بالمستغرب أن نسأل باهتمام، وقبل كل شيء عن نظريةٍ للفيلم السعودي، خاصة إذا كنا ندرك أن نظريات السينما وُجدت قبل أن تمرَّ عشرون سنة على بدء العمل السينماتوغارفي، فتاريخ الفن السابع يخبرنا بأن الأمر فيما يخصُّ السينما مغاير تمامًا، فلم يحدث من قبل أن تعرَّض فنٌّ من الفنون بهذه السرعة، لمحاولات المثقفين أن يفهموه أو يوجِّهوه الوجهة السليمة، أو أن يُعملوا فيه فكرهم على أقلَّ تقدير.
فضمن تصورات كثيرة لفنون أخرى يأتي سؤال النظرية بشكل طبيعي، ربما لمجرَّد المتعة المعرفية، وقد يرى بعض المهتمين بأن الاهتمام بالنظرية فيه انتقاص للمتعة الأصيلة، وهنا يجب أن ننبِّه لمسألة في غاية الأهمية، وهي أن البحث في النظرية لا يجب أن يكون بديلًا لمشاهدتنا للفيلم، فهذا قد يوقعنا في مأساة الاستغراق في التنظير، من هنا فالحديث عن النظرية يكون قبل أو بعد المشاهدة.
إذن، في ماذا يمكن أن يعنينا هذا السؤال القبْلي عن نظرية للفيلم السعودي؟ أعتقد أن أهمية هذا السؤال يترتب عليها أهمية لسؤال آخر، ملحٍّ بشدة، هو سؤال النقد، وهو سؤال مهم للصناع، إذا ما كانوا يريدون أن يتعرفوا على الرأي الفني في أعمالهم، إلا إذا ما كانوا ينتجون للعميان، أو للمديح المجاني، فهذه مسألة أخرى!
النظرية والنقد
قلنا إن سؤال النظرية يترتب عليه سؤال النقد، وهذا دقيق للغاية، فالنظرية هي صيغة السؤال النقدي، فمن خلال فهم النظرية والتحرُّك ضمن دائرتها، يمكن للنقد أن يقيم تصوُّرات واضحة للأعمال السينمائية، وكأن النظرية تمثِّل المرجعية للنقد، أو الأساس الفكري له؛ لأن النقد ينطلق من منطلقات جمالية لها تقاطعات مع الذوق والمزاج الفني، أما النظرية فهي رؤى فكرية قبلية، يحيل النقد إليها ليكتسب شيئًا من القيمة المعرفية أو العلمية.
يقول سقراط: “إن الحياة التي لا نُخضعها للفكر لا تستحقُّ أن نحياها”، من هنا ومن خلال هذا الفهم، تعدُّ نظرية الفيلم الأسلوب الذي يُخرج السينما من اعتباطية المجال الفني، إلى رصانة المجال العلمي، ويمكننا القول أيضًا إن النظرية تختصُّ بالعموميات أكثر من الخصوصيات، أما النقد فهو الذي يضطلع بالخصوصيات الفنية الدقيقة، معتمدًا في إحالاته المعرفية إلى النظرية.
ولكي نقرِّب الصورة من خلال المثال؛ يمكننا النظر إلى سينما المؤلف، أو السينما التعبيرية، أو سينما الموجة الفرنسية الجديدة، على أنها نظريات فيلمية كبرى، تمت دراستها معرفيًّا، ووضعت لها السياقات الفكرية، والمبررات الثقافية والتاريخية التي أسهمت في نشوئها وتشكُّلها، أما التناول الذي يخصُّ أفلامًا معينة، منضوية تحت لواء هذه النظريات الكبرى، فإن النقد هو المسؤول عن توضيح مدى اقترابها من جوهر النظرية، أو ابتعاده عنها، وبالتالي النقد هو الذي يقول لنا عن فيلم ما بأنه حقيق بالمتابعة والاهتمام، أو إنه ليس كذلك؛ استنادًا على المعرفة العميقة بجوهر النظرية.
البحث عن نظرية
ومن خلال متابعتي للكثير من القراءات النقدية التي تناولت الفيلم السعودي، أجد أن هناك حاجة ماسة للحديث عن نظرية لهذا الفيلم، فلأي موجة نظرية ينتمي هذا الفيلم الناشئ؟ والذي يسبح في سديم ليس له حدود، صحيح أن ظروف نشأة الفيلم السعودي استثنائية (لا يمكن لأحد أن ينكر أو يخفي ذلك)، لكن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن يُترك هكذا، أعني في تناول النقاد له، فمن خلال أي مرجعية نقدية تم تناول هذا الفيلم؟ إذا علمنا أن التصارُع بين النظريات الفيلمية تصارع حادٌّ، ففي حين يمجِّد أصحاب نظرية معينة فيلمًا سينمائيًّا، نجد أصحاب النظرية الأخرى يُقلِّلون من أهميته، حتى أصبح الصناع لا يحفلون بالرأي النقدي، وربما لا يفهمون أي الآراء النقدية هو الصحيح تجاه عملهم.
أعتقد أن سبب هذا الإشكال ناشئ من عدم الالتفات إلى النظرية، فحتَّى الصناع أنفسهم، ليسوا على اطلاع جيد بالنظريات السينمائية، ويتحرَّكون في صناعتهم بحسب الممكن، لا انطلاقًا من الرؤى الفكرية والنظرية.
وليتضح المثال بشكل أكبر؛ يمكننا النظر للنقود السينمائية لأفلام المخرجات السعوديات، والتي كانت سبَّاقة في خوض غمار التجربة السينمائية المحلية، فعند التدقيق في هذه النقود، نجد أن فيها عمقًا في التناول والمرجعية؛ ذلك بسبب أن هناك خطًّا فكريًّا ناظمًا لأفلام المخرجات السعوديات، يعتمد على مرجعيات نظرية راسخة في الفكر الإنساني الحديث، إذ هي في معظمها تُحيل إلى السرديات النسوية، التي أُشبعت تنظيرًا رؤيويًّا، فيما تتضارب النقود حول الأفلام الأخرى، التي لا تعتمد في تصوراتها على نظريات واضحة، ما يُوقعها في الحيرة النقدية، بين مَن يثبت أهميتها، ومن يُسقط عنها القيمة تمامًا، وبين نقود أخرى احتفائية يشغلها سؤال الحضور أكثر من سؤال القيمة.
من هنا، أعتقد أن هذه اللحظة مواتية للحديث عن صياغة نظرية للفيلم السعودي، هل سيتبع إحدى النظريات الفلمية العالمية الكبرى؟ كما هو حاصل في السينما الإيرانية مثلًا، والتي اختارت الواقعية الإيطالية، وجعلتها مرجعية لرؤيتها الفنية، أم أن السينما السعودية ستميل إلى سينما المؤلف، أم أنها ستكون طموحة وجديرة بصياغة نظرية خاصة بها؟ وليس هذا بمستحيل أو مستبَعد، إذا ما نظرنا إلى ما وصلت إليه السينما الكورية في سنوات قليلة على سبيل المثال.
الصناع أنفسهم، ليسوا على اطلاع جيد بالنظريات السينمائية، ويتحركون في صناعتهم بحسب الممكن، لا انطلاقًا من الرؤى الفكرية والنظرية
الأسئلة والإجابات
إلى أين ستتَّجه نظرية الفيلم السعودي؟ التي نراها اليوم تنمو بشكل عشوائي، ويقوم النقد بمتابعتها على استحياء، خوفًا من الوقوع في فخ السلبية الهدَّامة، إلى الدرجة التي أصبحنا نرى فيها الصناع أنفسهم ينادون الجميع، ويطالبونهم بنقد أعمالهم تعبيرًا عن التوهان، أو عن التوجُّس النقدي تجاه أعمالهم.
حسنًا، ولكيلا يكون السؤال مجردًا من الإجابة، أو المحاولة على الإجابة في أقل تقدير؛ يمكن أن نقترح الطريقة التي تتكوَّن من خلالها النظريات الفيلمية، وهي ليست طريقة ملزمة بطبيعة الحال، لكنها مُقترح أولي، يمكن مع الوقت العمل على تطويره، فتاريخ النظريات السينمائية الكبرى يُبيِّن لنا أن جلَّ تلك النظريات تكوَّنت من خلال الأسئلة التي تتبعها إجابات، ومن خلال الإجابات تتكوَّن منها أسئلة أخرى، وهكذا حتى يتكوَّن البعد المعرفي للنظرية.
ومن خلال بحثي عن إجابة أولية، وقعت على بعض المراجع التي تؤسِّس لنظرية الفيلم السينمائي، تقول هذه المراجع إن السؤال عن نظرية الفيلم، يمكنه أن يقع تحت واحد أو أكثر من التكوينات المفاهيمية الأربعة الآتية:
المادة الخام: وتشتمل على تساؤلات عن وسيلة التعبير، مثل الأسئلة التي تتعلق بالواقع والتصوير والخيال، أو تلك التي تتتبع استخدامها للزمان والمكان، أو تلك التي تهدف النظر إلى اللون والصوت، وبناء دور السينما، أو باختصار كل ما يتعلق بالمادة الخام في صناعة السينما.
الطرق والتقنيات: ويُقصد بها جميع الأسئلة المتعلقة بعملية الإبداع، التي تُشكل أو تعالج المادة الخام، من مناقشات عن التطورات التكنولوجية، إلى الحالة النفسية لصانع الفيلم، أو حتى اقتصاديات الإنتاج.
الأشكال والمظاهر: وهو التصنيف الذي يشتمل على أسئلة تخصُّ نوع الأفلام التي صُنعت، أو التي يمكن أن تُصنع، وتدخل في هذا التصنيف أسئلة عن قدرة السينما على تطويع الفنون الأخرى، كما تدخل فيه أسئلة الشكل الفني، وتأثير المشاهدين، وما قد يدخل ضمن أفق توقعهم، ومن الذي يحدد هذه الأشكال، وكيف يحكم عليها المشاهدون كأعمال ذات قيمة؟
الغرض والقيمة: وتدخل هنا الأسئلة الكبرى، التي تبحث في الهدف من السينما، وتعلقها بالكون الإنساني العام، فبمجرَّد أن تتشكل المادة الخام خلال عمليات فنية ذات مغزى، ويتكوَّن الشكل التعبيري، يبرز سؤال القيمة، ماذا يعني ذلك للإنسانية؟
ولا شكَّ في أن تناول هذه التكوينات المفاهيمية، لا يعطي أصحابها حق فرض نوع معين من المعادلات المنطقية، التي قد لا تستقيم داخل نظرية واحدة، لكنها تساعد فقط على وضع منظور، يمكن أن يجعلنا نبدأ في عمل خارطة مفاهيمية لنظرية فيلمية، فنحن في الواقع في حاجة ماسة لطرح الأسئلة التي تؤدِّي بدورها إلى أسئلة أخرى، تمكننا من خلق بعد معرفي يمكننا الرجوع إليه، فالأمر من بدايته منوط بتكوين مساحة رحبة، نتبادل من خلالها الأسئلة الفنية، التي توصلنا إلى صياغات فكرية قوية معرفيًّا، تحمي السينما من السباحة في سديم عدمي، لا يحيل إلى تصوُّرات فنية، ولا إلى قيم إنسانية، وكل ذلك ينقذنا أولًا وأخيرًا من الوصول بالفيلم السعودي إلى نظرية العبث.
نحن في حاجة ماسة لطرح الأسئلة التي تؤدي بدورها إلى أسئلة أخرى، تمكننا من خلق بعد معرفي يمكننا الرجوع إليه.
هامش:
تم الاعتماد في وضع الأساس المعرفي لهذه المادة على كتاب:
“نظريات الفيلم الكبرى”
تأليف: ج. دادلي أندرو
ترجمة: د. جرجس فؤاد الرشيدي
من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب ١٩٨٧