الختم السابع، سيناريو أدبي لأنغمار برغمان
29 July، 2022
تقديم وترجمة نجاح الجبيلي
في ظلمة الوباءِ يُشعُّ “ختم” برغمان
يحتلُّ فيلم “الختم السابع” 1957 لأنغمار برغمان (1918-2007) مكانةً مهمّةً في السينما العالمية، ويُعَدُّ من روائعِها. وأجمعَ النّقاد على أنَّهُ ذو سرد جريء وإبهارٍ بصريٍّ، وعلى كونه متجدِّدًا على مدى العصور؛ بسبب مقارباتِهِ وتأمّلاتِهِ في ثنائيات الحياة والموت والإيمان والشكِّ وغيرها.
إن الأسباب التي دعتني لاختيار وترجمة سيناريو “الختم السابع” هي ما يلي: أولًا: عدم وجود ترجمة كاملة للسيناريو إلى اللغة العربية، وحتى أتأكد من ذلك، بحثت في الشبكة العالمية (الإنترنت)، ولم أعثر سوى على تلخيص له. ثانيًا: تكمن أهمية هذا السيناريو والفيلم بصورة عامة في هذا الظرف؛ في أنه يتناول قضية الوباء الذي حلّ بالأمم الماضية، وقد ظننا أنّ الأوبئة لن ترجع مرة أخرى، لكنْ ها هو وباء كورونا يغزو العالم.. ويمكن للسينمائيين الشباب أن يستفيدوا من تجربة برغمان في هذا الفيلم، ومن مَجازاته واستعاراته لكي يعملوا أفلامًا تتناول الجائحة الجديدة. ثالثًا: دائمًا ما تمَّ التغافل عن دور وأهمية السيناريو الأدبي؛ فهو وثيقة أدبية وسينمائية في الوقت نفسه، وتم التركيز على السيناريوهات التنفيذية التي من الممكن استبدال قراءتها بمشاهدة الفيلم.
لكنّ السيناريو الأدبي نصّ مهم يُقرأ كأدب. يقول الناقد السينمائي الهنغاري بيلا بالاش المتخصص في علم الجمال: “إن السيناريو السينمائي شكلٌ أدبيٌّ جديد تمامًا، أكثر جدية حتّى من السينما نفسها؛ لذلك فمن النادر أن ندهش حين لا نجد كتابًا واحدًا يذكره من كتب فلسفة الجمال في الأدب.” ويقول برغمان في سيرته “المصباح السحري”: “طوّرتُ مسرحية بعنوان “رسم الغابة” بصورة تدريجية حتى أصبحَتْ نصًّا بعنوان “الختم السابع”، وحوَّلتُه إلى فيلم هو الأقرب إلى قلبي، إذ إنه صُنع تحت ظروف صعبة في فيض من النشاط والبهجة”.
يطري الناقد جاك بتلر على الفيلم بسبب مقاربته الحديثة للوباء قائلًا: “إنه عمل خالد، إذ إنَّ خلفيته القصصية عن الطاعون -مع شخصيات ترثي التجارة الخاسرة بسبب الوباء، وتحافظ بشكل يائس على “التباعد الاجتماعي” وتهرب من المناطق التي ضربتها الجائحة لكي تنقل المرض إلى المكان الذي هربَتْ منه- قد جعلته أكثر أهمية بالنسبة لزمننا”.
المترجم
يستريح الفارس قليلاً بسبب الحرارة، وفي الفجر تهب ريح عبر البحر الشاحب. يستلقي الفارس “أنطونيوس بلوك” منهكاً على بعض أغصان شجر الصنوبر فوق الرمل الناعم. عيناه مفتوحتان باتساع ومحمرتان بشدة بسبب قلة النوم.
يشخر مرافقه “يونس” بجواره بصوت عالٍ. يغطّ في النوم إذ انهار على حافة الغابة بين أشجار التنوب التي تتمايل بفعل الريح. يفتح فمه ويتثاءب باتجاه الفجر، وتنبعث من حنجرته أصوات غريبة. وفي هبة مفاجئة للريح تتحرك الخيول، وتمد أفواهها الظامئة نحو البحر. وهي تشبه سائسها بنحولها وهزالها.
ينهض الفارس ويخوض في المياه الضحلة، إذ يشطف وجهه الذي لوحته الشمس وشفتيه المتقرحتين. يستسلم “يونس” بمواجهة الغابة والظلام. يغمغم في نومه ويحك شعر رأسه الخفيف بقوة. وثمة ندبة تمتد بصورة قطرية عبر فروة رأسه، بيضاء مثل البرق إزاء السخام.
يرجع الفارس إلى الساحل ويجثو على ركبتيه. يتلو دعاءه الصباحي وعيناه مغمضتان وجبينه مغضّن. يداه متشابكتان معاً وشفتاه تنطقان الكلمات بصمت. يفتح عينيه ويحدق مباشرة إلى شمس الصباح التي تشرق من البحر المضبَّب مثل سمكة ميتة منتفخة. السماء رمادية وثابتة مثل قبة من الرصاص. ثمة غيمة تتعلق صامتة ومعتمة فوق الأفق الغربي. وعالياً بالكاد يمكن رؤية نورس البحر وهو يحلق بجناحين ثابتين. صرخته غريبة ومتواصلة.
يرفع الحصان الرمادي الكبير للفارس رأسه ويصهل. يلتفت “أنطونيوس بلوك”. يجلس خلفه رجل يرتدي السواد. وجهه شاحب جداً ويبقي يديه مخفيتين في طيات عباءته الواسعة.
الفارس: من أنت؟
الموت: أنا الموت.
الفارس: هل أتيت من أجلي؟
الموت: لقد كنت أسير بجانبك مدة طويلة.
الفارس: أعرف ذلك.
الموت: هل أنت جاهز؟
الفارس: جسمي خائف لكني غير خائف.
الموت: حسناً، لا عار في ذلك.
يرفع الفارس قدميه. يرتجف. يفتح الموت عباءته ليضعها حول أكتاف الفارس.
الفارس: انتظر لحظة.
الموت: ذلك ما يقوله الكل. لكني لا أُرجئ الحكم.
الفارس: هل تلعب الشطرنج؟
ومضة من الاهتمام لمعت في عيني الموت.
الموت: كيف عرفتَ ذلك؟
الفارس: لقد رأيته في اللوحات وسمعته ينشد في الأغاني الشعبية.
الموت: نعم في الحقيقة أنا لاعب شطرنج ماهر.
الفارس: لكن لا يمكن أن تكون أفضل مني.
ينقب الفارس في حقيبة سوداء يحتفظ بها جنبه وينتقي رقعة شطرنج صغيرة. يضعها بعناية على الأرض ويبدأ بترتيب القطع.
الموت: لماذا تريد لعب الشطرنج معي؟
الفارس: لديّ أسبابي الخاصة.
الموت: ذلك امتياز لك.
الفارس: الشرط أني ربما أعيش أطول طالما أني أتحداك. لو فزتُ سوف تطلقني. اتفقنا؟
يقدم الفارس قبضتيه إلى الموت، الذي يبتسم له فجأة. يشير الموت إلى إحدى يدي الفارس؛ إنها تحتوي على بيدق أسود.
الفارس: إذن لك القطع السود!
الموت: مناسب جداً. ألا تعتقد ذلك؟
ينحني الفارس والموت على رقعة الشطرنج. بعد لحظة من التردد يبدأ أنطونيوس بلوك اللعب ببيدق الملك. ويحّرك الموت بيدق الملك أيضاً.
يتلاشى نسيم الصباح. تتوقف حركة البحر المتواصلة، مع صمت الماء. ترتفع الشمس من السديم ويبيّض وهجها. يطفو نورس البحر تحت الغيمة المعتمة، الساكنة في الفضاء. النهار ساخن على نحو لاذع.
يستيقظ التابع “يونس” بضربة في الخلف. يفتح عينيه، يطلق صوتاً كصوت الخنزير ويتثاءب باتساع. ينتصب على قدميه، يسرج حصانه ويلتقط حزمة ثقيلة.
يركب الفارس ببطء وينطلق مبتعداً عن البحر، داخل الغابة بالقرب من الساحل صعوداً نحو الطريق. ويتظاهر بعدم سماع دعاء الصباح من مرافقه يونس الذي سرعان ما يلحق به.
يونس: (يغني) أن تستلقي بين ساقي البغي هي الحياة التي أتحسر عليها.
يتوقف وينظر إلى سيده، لكن الفارس لم يسمع أغنية يونس أو أنه يتظاهر بذلك. ولكي ينفس عن غضبه يغني التابع بصوت عالٍ.
يونس: (يغني) في الأعلى الرب الجبار بعيد جداً. لكنّ أخاك الشيطان سوف تلقاه في كل مكان.
وأخيراً يلفت “يونس” انتباه الفارس. يتوقف عن الغناء. الفارس وحصانه وحصان “يونس” و”يونس” نفسه يحفظون كل الأغاني عن ظهر قلب. الرحلة الطويلة المغبرة من “الأرض المقدسة” لم تتركهم نظيفين. ساروا عبر المرج الطحلبي الذي يمتد نحو الأفق. وخلفَهُ يستلقي البحر وامضاً في وهج الشمس الأبيض.
يونس: الكل يتكلم في “فرستاد” عن نبوءات الشر وبقية الأمور المروعة. حصانان أكل بعضهما بعضا في الليل، وفي ساحة الكنيسة، انفتحت القبور وبقايا الجثث تفرقت في كل مكان. في مساء الأمس كان هناك ما يقارب أربع شموس في السماوات.
لا يجيب الفارس. ثمة كلب هزيل ينبح، ويزحف باتجاه سيده النائم بوضع الجلوس في الشمس المحرقة. سحابة سوداء من الذباب تتجمع حول رأسه وكتفيه. الكلب ذو النظرة البائسة ينبح باستمرار بينما يستلقي منبطحاً على بطنه ويهز ذيله. يترجل يونس ويقترب من الرجل النائم. يخاطبه بأدب. حين لا يتلقى أي جواب، يمشي إلى الرجل ويحركه لكي يستيقظ. ينحني فوق كتف الرجل النائم، لكن سرعان ما يسحب يده. يسقط الرجل للخلف على المرج، ووجهه يستدير إلى يونس. إنها جثة، تحدق إليه بمحجري عينين فارغين وأسنان بيض. يركب التابع مرة أخرى ويلحق بسيده. يشرب من قربة ماء ويسلّمها إلى الفارس.
الفارس: هل دلّك على الطريق؟
يونس: كلا
الفارس: ماذا قال؟
يونس: لا شيء.
الفارس: هل هو أبكم؟
يونس: كلا سيدي، لم أقل ذلك. في الحقيقة كان فصيحاً جداً.
الفارس: آه؟
يونس: كان فصيحاً. المشكلة أن كل ما قاله كان كئيباً جداً. (يغني) في لحظة تكون مشرقاً وحيوياً، وفي اللحظة التالية تزحف مع الديدان. القدر شرير فظيع وأنت يا صديقي ضحيته المسكينة.
الفارس: هل يجب أن تغني؟
يعطي الفارس لتابعه قطعة من الخبز، تبقيه هادئاً لفترة وجيزة. الشمس تحرقهما بقسوة، وحبات العرق تقطر من وجهيهما. ثمة سحابة من الغبار حول حوافر الخيول.
يمرّان في سيرهما بخليج صغير على طول أيكات خضر. في ظل بعض الأشجار الكبيرة تقف عربة منبعجة مغطاة بالوقاء المزركش. حصان يصهل بالقرب ويجيبه حصان الفارس. لا يتوقف المسافران للراحة تحت ظل الأشجار، بل يستمران بالسير راكبين إلى أن يختفيا في نهاية الطريق.
يسمع “يوف” الساحر، وهو نائم، صهيل الحصان والجواب من بعيد. يحاول أن يستمر في النوم، لكن الجو خانق في العربة. أشعة الشمس تتسرب من خلال الوقاء وتلقي بشعاع الضوء عبر وجه “ميا” زوجة “يوف” وطفلهما “مايكل” الذي يبلغ سنة واحدة، إذ يغط في النوم العميق الهادئ. بالقرب منهم، رجل أكبر سناً يدعى “يوناس سكات” يشخر بصوت عال.
يزحف يوف خارج العربة. كان ثمة بقعة من الظل تحت الأشجار الكبيرة. يأخذ جرعة من الماء، يغرغر ويتمطى ثم يتحدث إلى حصانه الهزيل العجوز.
يوف: صباح الخير. هل تناولت الفطور؟ لا أستطيع أن آكل العشب، حظ سيئ. هل تستطيع أن تعلمني كيف؟ نحن في عوز للمال. الناس يهتمون كثيراً بألعاب الخدع في هذا الجزء من الريف.
يلتقط كرات الخدع ويبدأ ببطء في قذفها. ثم يقف على رأسه ويقأقئ مثل الدجاجة. فجأة يتوقف ويجلس مع نظرة من الدهشة الشديدة على وجهه. الريح تهز الأشجار بخفة. الأوراق تتحرك وهناك غمغمة خفيفة. الأزهار والعشب تنحني برشاقة، وفي مكان ما يرفع طير صوته في لحن مبهج طويل.
وجه يوف يبدي ابتسامة وتمتلئ عيناه بالدموع. يجلس على مؤخرته بتعبير منبهر بينما العشب يهسهس برقة، والنحل والفراشات تحوم حول رأسه. يستمر الطائر المخفي في التغريد.
وفجأة يتوقف النسيم عن الهبوب، يكف الطائر عن الغناء، وتتلاشى ابتسامة يوف، وتذبل الأزهار والعشب بفعل الحرارة. ما زال الحصان الهرم يمشي وذيله يمس جلده ليهش به الذباب.
يستعيد يوف وعيه ويندفع إلى العربة ويهز ميا لكي تستيقظ.
يوف: ميا، استيقظي. استيقظي! ميا، لقد رأيت شيئاً. يجب أن أخبركِ عنهُ.
ميا (تجلس مرعوبة): ماذا؟ ماذا حدث؟
يوف: اسمعي. حصلت لي رؤيا. كلا. ليست رؤيا. إنها حقيقة تماماً.
ميا: آه، إذن حصلت لك رؤيا مرة أخرى!
كان صوت ميا ينم عن سخرية رقيقة. يهزّ يوف رأسه ويمسك بكتفيها.
يوف: لكني رأيتها!
ميا: من رأيت؟
يوف: مريم العذراء.
لم تستطع ميا أن تغالب تأثرها بحماس زوجها. خفضت صوتها.
ميا: هل رأيتَها حقاً؟
يوف: كانت قريبة مني بحيث أستطيع أن ألمسها. لديها تاج ذهبي على رأسها وتلبس عباءة زرقاء بأزهار ذهبية. كانت حاسرة الرأس، ولديها يدان سمراوان تمسك بهما طفلاً وتعلمه أن يمشي. ثم رأتني أراقبها وابتسمت لي. كانت عيناي مليئتين بالدموع ثم حين مسحتهما وجدتها قد اختفت. وكل شيء أصبح ساكناً في السماء والأرض. هل فهمتِ؟
ميا: أنت ترى مجرد أوهام.
يوف: أنت لا تصدقينني! لكن الأمر حقيقي، كما أخبرتك، ليس نوعاً من الواقع الذي ترينه يومياً، لكنه نوع آخر مختلف.
ميا: ربما هو نوع من الواقع الذي أخبرتني عنه حين رأيتَ الشيطان وهو يصبغ عجلات عربتنا بالصبغ الأحمر مستعملاً ذيله للصبغ.
يوف: (مرتبكاً) لماذا يجب أن تظلي تثيرين ذلك؟
ميا: ثم اكتشفتَ أنك كان لديك صبغ أحمر تحت أظافرك.
يوف: حسناً، ربما اختلقتُ الأمر في تلك المرة. (متشوقاً) لقد فعلت لكي تصدقي رؤياي. الحقيقي منها، التي لم أختلقها.
ميا (بشدة): يجب عليك أن تسيطر على رؤاك. وإلا فإن الناس سوف يعتقدون أنك أحمق، وهذا ما لا تكونه. ليس الآن في الأقل بحسب علمي. لكن فكر في الأمر، لست متأكدة من ذلك.
يوف (غاضباً): لم أطلب رؤىً. فأنا لا أغالب الأمر لو أنّ أصواتاً تتكلم إليّ، لو أنّ العذراء المقدسة تظهر أمامي والملائكة والشياطين تحب صحبتي.
سكات (ينهض): ألم أخبرك بأني أحتاج إلى نوم الصباح مرة واحدة وللأبد! لقد سألتك بأدب، وتوسلتُ إليك، لكن فشل الأمر. لذا فأنا أقول لك أغلق فمك!
انتفخت عيناه من الغضب. ينقلب ويستمر بالشخير. تقرر ميا ويوف أنه من الحكمة مغادرة العربة. يجلسان على القفص. تضع مايا على ركبتيها ابنها مايكل. وهو عارٍ ويتلوى بقوة. يجلس يوف قريباً من زوجته. يمشي مسترخياً وهو ما زال مندهشاً. وثمة ريح حارة جافة تهب من البحر.
ميا: ليت السماء تمطر. فكل شيء يحترق ويتحول إلى رماد. لن يبقى لدينا شيء للشتاء القادم.
يوف (يتثاءب): سوف نمر بسلام.
يقول وهو يبتسم، بنغمة طارئة. يتمطى ويضحك بشكل قنوع.
ميا: أريد من مايكل أن يعيش حياة أفضل من حياتنا.
يوف: سوف ينشأ مايكل ليصبح بهلواناً كبيراً، أو ساحراً يستطيع أن يؤدي حيلة واحدة مستحيلة.
ميا: وما هي هذه الحيلة؟
يوف: أن يجعل إحدى الكرات تقف ساكنة في الهواء.
ميا: لكن ذلك مستحيل.
يوف: مستحيل بالنسبة لنا، وليس بالنسبة له.
ميا: إنك تحلم مرة أخرى.
تتثاءب. تجعلها الشمس نعسانة فتستلقي على العشب. يفعل يوف نفس الشيء ويضع إحدى ذراعيه حول كتفي زوجته.
يوف: لقد ألّفتُ أغنية أثناء الليل حين أصابني الأرق. هل تريدين أن تسمعيها؟
ميا: غنِّها. أنا متشوقة.
يوف: يجب أن أجلس أولاً.
يجلس وساقاه متصالبان، يطلق إيماءة محتدمة بذراعيه ويغني بصوت عالٍ.
يوف: على غصن السوسن جثمت حمامة. إزاء سماء الصيف، تغني أغنية عجيبة عن المسيح، وكان ثمة فرحٌ كبير في الأعالي.
يكف عن الغناء منتظراً من زوجته أن تطريه.
يوف: ميا! هل أنتِ نائمة؟
ميا: إنها أغنية جميلة.
يوف: لم أكملها بعد.
ميا: سمعتها. لكني اعتقد بأني سوف أنام قليلاً. تستطيع أن تكمل أغنيتك لي في ما بعد.
يوف: كل ما تفعلينه هو النوم!
كان يوف منزعجاً قليلاً فراح ينظر إلى ابنه مايكل، لكنه أيضاً نائم بشكل عميق على العشب الطويل. يظهر “يوناس سكات” من العربة. يتثاءب، إنه مرهق جداً وفي مزاج سيئ. ويمسك بيديه قناع الموت المصنوع على نحو بسيط.
سكات: هل يفترض أن يكون هذا قناع ممثل؟ لو أن الرهبان لم يدفعوا لنا كثيراً سأمتنع وأقول: لا شكراً.
يوف: هل ستؤدي دور “الموت”؟
سكات: فكرّ فقط، إخافة شديدة بهذا النوع من الهراء للجمهور المحتشم.
يوف: متى يفترض أن نؤدي هذه المسرحية؟
سكات: في عيد القديسين في “السينور”. سوف نمثل مباشرة على عتبات الكنيسة. صدّق أو لا تصدّق.
يوف: أليس من الأفضل تمثيل شيء ما يتعلق بالفسق؟ فالناس يحبونه أفضل، إضافة إلى أنه أكثر لهواً.
سكات: أحمق. هناك إشاعات تدور بأن هناك طاعوناً فظيعاً ينتشر في الأرض، والآن الرهبان ينشرون نبوءات الموت المفاجئ وكل أنواع الآلام الروحية.
تستيقظ ميا الآن وتستلقي على ظهرها وهي تمص ورقة من العشب وتنظر مبتسمة إلى زوجها.
يوف: وما هو الدور الذي أُسند لي في المسرحية؟
سكات: إنك أحمق ملعون، لذا ستمثل “روح الإنسان”.
يوف: بالطبع هذا دور سيئ.
سكات: من يتخذ القرارات هنا؟ من هو مخرج هذه الفرقة على أية حال؟
يكشر سكات ويحمل القناع أمام وجهه ويسرد بصورة درامية.
سكات: ضع هذا في بالك أيها الأحمق. حياتك معلقة بخيط. زمنك قصير. (بصوته الاعتيادي) هل ستعجب بي النساء في هذا القناع؟ هل سأحرز نجاحاً؟ كلا، أشعر كأني ميت مسبقاً.
يتعثر في العربة مدمدماً غاضباً. يجلس يوف، مائلاً للأمام. تستلقي ميا بجنبه على العشب.
ميا: يوف!
يوف: ماذا هناك؟
ميا: ابق ساكناً. لا تتحرك.
يوف: ماذا تعنين؟
ميا: لا تقل أي شيء.
يوف: أنا صامت كالقبر.
ميا: ششش! أنا أحبك.
موجات من الحر تغلف الكنيسة الحجرية الرمادية في الضباب الأبيض الغريب. يترجل الفارس ويدخل. وبعد أن يربط الخيول يتبعه “يونس” ببطء. حين يدخل رواق الكنيسة يتوقف مندهشاً. فعلى يمين المدخل هناك نقش من “الفريسكو” كبير على الجدار، لم يتم الانتهاء منه بعد. ويجثم على السقالة البسيطة رسام يرتدي قبعة حمراء و ملابس ملطخة بالأصباغ، يضع في فمه فرشاة، بينما فرشاة أخرى في يده وهو يرسم حدود وجه بشري صغير خائف بين عدد كبير من الوجوه.
يونس: ما الذي يفترض أن يمثله ذلك؟
الرسام: رقصة الموت.
يونس: وهل هذا هو الموت؟
الرسام: نعم، فهو يرقص مع الجميع.
يونس: لماذا ترسم مثل هذا الهراء؟
الرسام: أظن أنه يفيد في تذكير الناس بالموت.
يونس: حسناً، إنه لا يجعلهم يشعرون بأنهم سعداء.
الرسام: ولماذا يتوجب على المرء دائماً أن يجعل الناس سعداء؟ ربما لا تكون فكرة سيئة أن تخيفهم قليلاً مرة واحدة خلال فترة وجيزة.
يونس: حينئذ سوف يغلقون أعينهم ويرفضون أن ينظروا إلى لوحتك.
الرسام: آه، سوف ينظرون. فالجمجمة أكثر إثارة للاهتمام من المرأة العارية.
يونس: إذن أنت تخيفهم..
الرسام: سوف يفكرون.
يونس: وإذا فكروا..
الرسام: سوف يصبحون أكثر خوفاً.
يونس: إذن سوف يهرعون بسرعة لكي يكونوا بين يدي الرهبان.
الرسام: ذلك ليس من شأني.
يونس: أنت ترسم لوحتك فقط “رقصة الموت”.
الرسام: أنا أرسم الأشياء كما هي. أي شخص آخر يستطيع أن يفعل ما يرغب فيه.
يونس: فكّر كيف أن بعض الناس سوف يلعنونك.
الرسام: ربما. لكن حينئذ سوف أرسم شيئاً مسلياً لهم لينظروا إليه. يجب أن أكسب العيش، في الأقل إلى أن يأخذني الطاعون.
يونس: الطاعون! ذلك يبدو مروعاً.
الرسام: يجب أن ترى البثور على حنجرة الإنسان المصاب. يجب أن ترى كيف أن جسده يذبل فتبدو ساقاه مثل أوتار معقودة؛ مثل الرجل الذي رسمتُه هناك.
يشير الرسام بفرشاته. يرى يونس شكلاً إنسانياً صغيراً وهو يتلوى على العشب، عيناه تحدقان للأعلى بنظرة مجنونة من الرعب والألم.
يونس: ذلك يبدو فظيعاً.
الرسام: بالتأكيد. يحاول أن يزيل البثرة، يعضُّ يديه، ويقطع عروقه بأظافره ويمكن سماع صراخه في كل مكان. هل هذا يخيفك؟
يونس: يخيفني؟ أنت لا تعرفني. ما تلك الفظائع التي رسمتَها هناك؟
الرسام: الأمر اللافت أن المخلوقات المسكينة تعتقد أن الطاعون هو عقاب من الرب. أسراب من الناس الذين يدعون أنفسهم “عبيد الخطيئة” يحتشدون في أنحاء البلاد، يجلدون أنفسهم مع آخرين من أجل مجد الرب.
يونس: هل حقاً يجلدون أنفسهم بالسوط؟
الرسام: نعم. إنه منظر مريع. أزحفُ داخل حفرة وأختفي حين يمرون.
يونس: هل لديك شراب براندي؟ شربت الماء طوال اليوم وجعلني عطشان مثل الجمل في الصحراء.
الرسام: أظن إني جعلتك فزعاً على أية حال.
يجلس يونس مع الرسام، الذي يجلب وعاءً من البراندي.
يجثو الفارس بالقرب من مذبح صغير. الظلام والهدوء من حوله. الهواء بارد وعفن. صور القديسين تنظر إليه بأعين من حجر. وجه المسيح يستدير للأعلى. فمه مفتوح كأنه يصرخ صرخة ألم مبرح. على عارضة السقف هناك تمثيل لشيطان بشع يتجسس على كائن بشري. يسمع الفارس صوتاً من ركن اعتراف ويتقدم نحوه. يظهر وجه الموت وراء القضبان للحظة، لكن الفارس لا يراه.
الفارس: أريد أن أتحدث إليك بصراحة ما أمكن، لكن قلبي فارغ.
الموت لا يجيب.
الفارس: الفراغ مرآة تدور نحو وجهي. أرى نفسي فيها وأنا مليء بالخوف والاشمئزاز.
الموت لا يجيب.
الفارس: من خلال لامبالاتي بزملائي من الرجال، عزلتُ نفسي عن صحبتهم. والآن أعيش في عالم من الأشباح. فأنا سجين أحلامي وأوهامي.
الموت: والآن لا تريد أن تموت.
الفارس: نعم لا أريد.
الموت: ماذا تنتظر؟
الفارس: أريد المعرفة.
الموت: وهل تريد ضمانات؟
الفارس: سمّها ما شئت. أليس من العجب والقسوة أن نفهم الرب بالمدركات؟ لماذا يجب أن يخفي نفسه في غشاوة من الوعود الناقصة والمعجزات غير المرئية؟
الموت لا يجيب.
الفارس: كيف يكون لنا إيمان بأولئك الذين يعتقدون بأننا لا نستطيع الإيمان بأنفسنا؟ ما الذي سيحدث لأولئك الذي يريدون أن يؤمنوا لكنهم لا يستطيعون؟ وما الذي سيحصل للذين لا يرغبون ولا يقدرون على الإيمان؟
يتوقف الفارس وينتظر جواباً، لكن لا أحد يتكلم أو يجيب. كان ثمة صمت شديد.
الفارس: لماذا لا أقتل الإله الذي في داخلي؟ لماذا يعيش بهذه الطريقة المؤلمة والمخزية داخلي مع أني ألعنه وأريد أن أمزقه من قلبي؟ لماذا، رغم كل شيء، هو حقيقة محيّرة لا أستطيع أن أخرقها؟ هل تسمعني؟
الموت: نعم، أنا أسمعك.
الفارس: أريد المعرفة لا الإيمان، ولا الافتراضات، بل المعرفة. أريد الرب أن يمد ذراعه نحوي ويكشف عن نفسه ويتكلم معي.
الموت: لكنه يبقى صامتاً.
الفارس: أناديه في الظلام لكن يبدو أن لا أحد هناك.
الموت: ربما لا أحد هناك.
الفارس: إذن الحياة مجرد رعب باهظ. لا أحد يستطيع أن يعيش في وجه الموت، عارفاً أن كل شيء هو عدم.
الموت: أغلب الناس لن يتأملوا في الموت أو عبث الحياة.
الفارس: لكنهم في يوم ما سوف يقفون عند تلك اللحظة الأخيرة من الحياة وينظرون نحو الظلام.
الموت: ومتى يحين ذلك اليوم؟
الفارس: من خوفنا نصنع صورة، وتلك الصورة تدعى الرب.
الموت: إنك قلق..
الفارس: الموت زارني صباح اليوم.. ولعبنا الشطرنج معاً. وهذا الإرجاء يمنحني الفرصة لكي أرتب موضوعاً ملحاً.
الموت: وما ذلك الموضوع؟
الفارس: لقد أصبحت حياتي سعياً بلا فائدة، تجوالاً، وكلاماً كثيراً فارغاً. لا أشعر بالمرارة أو بلوم الذات لأن حياة أغلب البشر تشبه كثيراً ذلك. لكني سوف أستعمل فترة الإرجاء هذه من أجل فعل ذي معنى.
الموت: هل هذا هو السبب في لعبك الشطرنج مع الموت؟
الفارس: إنه منافس ذكي. لكن حتى الآن لم أفقد قطعة واحدة.
الموت: كيف تتفوق على الموت في لعبتك؟
الفارس: استعمل اتحاد البيدق والفارس الذي لا يستطيع أن يكتشفه. في النقلة التالية أغلق أحد جناحيه.
الموت: سوف أتذكر ذلك.
يظهر الموت وجهه من وراء قضبان جناح الاعتراف للحظة لكنه يختفي بسرعة.
الفارس: لقد خدعتني وغششتني! لكننا سوف نلتقي مرة أخرى وسوف أجد حلاً.
الموت (لامرئياً): سوف نلتقي في الحانة وسوف نستأنف اللعبة.
يرفع الفارس يده وينظر إليها في ضوء الشمس التي تظهر عبر النافذة الصغيرة.
الفارس: هذه يدي. أستطيع أن أتحرك وأشعر بالدم ينبض من خلالها. الشمس ما زالت عالية في السماء وأنا، أنطونيوس بلوك، ألعب الشطرنج مع الموت.
يرفع قبضة يده إلى صدغه. في الوقت نفسه، يثمل يونس والرسام ويتحدثان بشكل حميمي معاً.
يونس: أنا وسيدي كنا في الخارج وقد عدنا للوطن توّاً. هل تفهم، أيها الرسام الصغير؟
الرسام: الحملة الصليبية.
يونس (ثملاً): بالضبط. مكثنا لمدة عشر سنوات في “الأرض المقدسة” فلدغتنا الأفاعي ولسعتنا الحشرات وأكلتنا الحيوانات البرية، الوثنيون قطعونا، النبيذ سممنا، النساء نقلن لنا القمل، والقمل التهمنا، والحمى عفّنتنا، كل ذلك من أجل “مجد الرب”. وكانت حملتنا الصليبية مجنونة حتى إن المثالي الصادق فقط يمكن أن يظن بأنها انتهت. لكن ما قلتَ عن الطاعون كان شيئاً فظيعاً.
الرسام: إنه أسوأ من ذلك.
يونس: مهما يكن الطريق الذي تستدير به، فإن لديك ردفاً وراءك. تلك هي الحقيقة.
يرسم يونس شكلاً صغيراً يفترض أن يمثله.
يونس: هذا هو يونس التابع. إنه يكشر للموت ويهزأ بالرب، يضحك على نفسه وينظر شزراً إلى الفتيات. عالمه هو عالم يونس، قابل للتصديق فقط منه، وهو سخيف في نظر الآخرين إلا نفسه، ولا معنى له بالنسبة للسماء ولا يهتم به الجحيم.
يسير الفارس وينادي على تابعه ويخرج إلى الشمس المشرقة. ينجح يونس في السيطرة على نفسه من السقوط من السقالة.
خارج الكنيسة كان أربعة جنود وراهب يضعون امرأة في آلة تعذيب جسدية. وجهها شاحب يشبه وجه الطفل، ورأسها حليق ومفاصل أصابعها مدماة ومكسورة. عيناها مفتوحتان على سعتهما، مع ذلك فهي لا تظهر واعية تماماً.
يتوقف يونس والفارس ويراقبان بصمت. الجنود يعملون بسرعة وحذق، لكنهم يبدون خائفين ومغمومين. الراهب يغمغم في كتاب صغير. يلتقط أحد الجنود دلواً خشبياً ويبدأ يلصق بيديه عجينة دموية على حائط الكنيسة وحول المرأة. يمسك يونس أنفه.
يونس: حساؤك هذا له رائحة نتنة. فلمن تقدمه؟
الجندي: كانت تتصل جنسياً مع أحد الأشرار.
يهمس ذلك بوجه مريع ويستمر في رش اللاصق على الحائط.
يونس: والآن هي في الأصفاد.
الجندي: سوف تُحرق غداً في الأبرشية. لكن يجب أن نبعد الشيطان من بقيتنا.
يونس (يغلق أنفه): وماذا تفعل ذلك بهذه الفوضى النتنة؟
الجندي: إنه أفضل مزيج؛ الدم مخلوطاً مع مرارة كلب أسود كبير. فالشيطان لا يستطيع تحمّل الرائحة.
يونس: ولا أنا.
يمشي يونس نحو الخيول. يقف الفارس للحظات ناظراً إلى الفتاة الشابة. إنها طفلة تقريباً. تدور بعينيها ببطء باتجاهه.
يتوقف الراهب عن القراءة ويرفع رأسه.
الراهب: ينبغي أن لا تتكلم معها.
الفارس: هل يمكن لذلك أن يكون في غاية الخطر؟
الراهب: لا أعرف، لكن يعتقد بأنها السبب في الطاعون الذي ابتلينا به.
الفارس: فهمت.
يومئ برأسه مستسلماً ويسير مبتعداً. المرأة الشابة تبدأ بالأنين على الرغم من أنّ لديها كابوساً فظيعاً. صوت الصرخات يتبع الراكبين من مسافة كبيرة على الطريق.
ترتفع الشمس عالية في السماء، مثل كرة حمراء من النار. كانت قربة الماء فارغة ويبحث يونس عن بئر يستطيع أن يملأ منها.
يقتربان من مجموعة من الأكواخ الريفية على حافة الغابة. يربط يونس الخيول، ويربط القربة بكتفه ويمشي على طول الممر نحو أقرب كوخ. خطواته، كالعادة، خفيفة وصامتة تقريباً. باب الكوخ مفتوح. يقف في الخارج، لكن حين لا يظهر أحد يدخل. الجو في الداخل مظلم جداً وقدماه تلمسان شيئاً رقيقاً. ينظر للأسفل. بجانب الموقد المبيض، امرأة تستلقي ووجهها على الأرض.
عند اقتراب صوت الخطوات، يختفي يونس بسرعة وراء الباب. يهبط رجل من سلم العلّية. وهو عريض المنكبين مربوع القامة. عيناه سوداوان ووجهه شاحب ومنتفخ. ملابسه ذات تفصيل جيد لكنها قذرة ومهلهلة. يحمل حقيبة ملابس. وبعد أن ينظر حوله، يدخل إلى غرفة داخلية، ينحني فوق الفراش، يطوي شيئاً ما داخل الحقيبة، وينسل خفية جنب الحائط، ينظر إلى الرفوف، ويجد شيئاً آخر يطويه داخل الحقيبة.
يدخل ببطء في الغرفة الخارجية، ينحني على المرأة الميتة وينزع بحذر سواراً من ذراعها. في تلك اللحظة تدخل امرأة شابة من الباب. تتوقف وتحدّق في الغريب.
رافال: لماذا تنظرين مندهشة؟ إني أسرق من الميّتة. إنه مشروع مربح هذه الأيام.
تبدي الفتاة حركة وكأنها تنوي الهروب.
رافال: أنتِ تفكرين في الهروب إلى القرية لتنشري الخبر. ذلك لا يفيد في أي غرض. فكل منا يجب أن ينجو بجلده. إنه أمر بسيط.
الفتاة: لا تلمسني.
رافال: لا تحاولي أن تصرخي. لا أحد يسمعكِ، لا الرب ولا البشر.
يغلق الباب ببطء وراء الفتاة. فتغط الغرفة الخانقة بظلام تام. لكن يونس يصبح مرئياً بصورة واضحة.
يونس: أعرفك رغم مرور مدة طويلة على تعارفنا. اسمك رافال من الكلية اللاهوتية في “روسكيلده”. أنت دكتور ميرابيليس كولستس أت ديابليس.
يبتسم رافال بقلق وينظر حوله.
يونس: هل أنا غير محق؟
تتجمد الفتاة في مكانها.
يونس: كنت الشخص الذي أقنع، قبل عشر سنوات، سيدي بضرورة الالتحاق بأفضل صنف من الحملات الصليبية إلى “الأراضي المقدسة”.
ينظر يونس حوله.
يونس: تبدو قلقاً. هل لديك ألم في المعدة؟
رافال يبتسم بقلق.
يونس: حين أراك أفهم فجأة معنى السنوات العشر، التي بدت لي ضائعة جداً. كانت حياتي جيدة جداً وكنا قانعين بأنفسنا. أراد الرب أن يعاقبنا بسبب غرورنا وغطرستنا. وذلك هو السبب في أنه أرسلك لكي تتقيأ حقدك المقدس وتسمم الفارس.
رافال: أنا تصرفت عن إيمان صادق.
يونس: لكن الآن علمت بشكل أفضل، أليس كذلك؟ لأنك الآن تحولت إلى لص. مهنة مناسبة ومربحة جداً للأنذال. أليس الأمر هكذا؟
بحركة سريعة يطعن بالسكين يد رافال، ويرفسه فيسقط على الأرض، وكان على وشك أن يقضي عليه. تصرخ الفتاة فجأة. يتوقف يونس ويومئ بعلامة الكرم بيده.
يونس: على أي حال، أنا لستُ متعطشاً للدماء (ينحني على رافال).
رافال: لا تضربني.
يونس: ليس لديّ قلب لأمسّ بك، دكتور. لكن تذكر هذا: المرة القادمة حين نلتقي، سوف أرسم علامة على وجهك كما يفعلون باللصوص. (ينهض) ما أتيت لأجله هو أن أملأ قربتي بالماء.
الفتاة: لدينا بئر عميقة ذات ماء بارد نقي. تعالَ. سوف أدلك عليها.
يسيران خارج البيت. يستلقي رافال ساكناً بضع لحظات، ثم ينهض ببطء وينظر حوله. حين لا يرى أحدا يأخذ حقيبته وينسلّ مبتعداً. يروي يونس عطشه ويملأ قربته بالماء. الفتاة تساعده.
يونس: اسمي يونس. أنا شاب مسرور وثرثار، لا أملك شيئاً سوى أفكار طيبة، ولديّ فقط أفعال جميلة ونبيلة. أنا الأطيب من الكل بالنسبة للشابات. معهنّ، لا يوجد حدٌّ لطيبتي.
يعانقها ويحاول أن يقبلها، لكنها تمتنع. يفقد الاهتمام بها مباشرة، يحمل قربة الماء على كتفه ويربّت على خد الفتاة.
يونس: وداعاً فتاتي. يمكن أن اغتصبك بسهولة، لكن بيني وبينك، لقد تعبت من هذا النوع من الحب. فهو يجري جافاً قليلاً في نهاية المطاف.
يضحك بشكل طيب ويمشي مبتعداً عنها. حين يمشي مسافة قصيرة يلتفت، ما زالت الفتاة ساكنة هناك.
يونس: الآن طرأت على ذهني فكرة، سأحتاج إلى مدبرة منزل. هل تستطيعين أن تحضّري طعاماً جيداً (تومئ الفتاة برأسها) بحسب علمي أني رجل متزوج، لكن لديّ آمال كبيرة بأن زوجتي ميتة الآن. ذلك هو السبب في أني أحتاج إلى مدبرة منزل (الفتاة لا تجيب لكنها تنهض). هيّا ولا تقفي هناك تنظرين. لقد أنقذتُ حياتك، لذا فأنتِ مدينة لي بالكثير.
تبدأ بالمشي نحوه ورأسها محنيٌّ. لا ينتظرها لكن يمشي نحو الفارس، الذي ينتظر بفارغ الصبر تابعه.
تقع “حانة أمبارسمنت” في الجزء الشرقي للمقاطعة. لم يصل الطاعون حتى الآن إلى هذه المنطقة في طريقه إلى الساحل.
وضع الممثلون عربتهم تحت شجرة في الساحة المقابلة للحانة. كانوا يرتدون أزياء ذات ألوان مختلفة ويؤدون فارصاً (هزلية ساخرة). المتفرجون يشاهدون المسرحية ويعلّقون عليها. هناك تجار مع وجوه سمينة تنضح بالبيرة، حرفيون مبتدئون، مسافرون، مزارعون، بائعات الحليب. حشد من الأطفال يجثم على الأشجار حول العربة.
الفارس وتابعه يجلسان في ظل الجدار. يشربان البيرة وينامان نوماً خفيفاً في حرارة منتصف النهار. تنام الفتاة من القرية المهجورة بجانب يونس. يقرع سكات الطبول، يوف ينفخ في الناي، تؤدي ميا رقصة مرحة وحيوية. يتعرقون تحت شمس بيضاء حارة. حين ينتهي سكات يتقدم إلى الأمام وينحني.
سكات: سيداتي سادتي النبلاء. أشكر اهتمامكم. من فضلكم ابقوا واقفين فترة أطول، أو اجلسوا على الأرض، لأننا سوف نمثل مأساة حول زوجة غير وفية، وزوجها الغيور والعشيق الجميل، الذي هو أنا.
تستبدل ميا ويوف بسرعة أزياءهما ويخطوان ثانيةً على المسرح. وينحنيان للجمهور.
سكات: ها هو الزوج. ها هي الزوجة. إذا ما صمتّم هناك فسوف ترون شيئاً رائعاً. كما قلت فإني أؤدي دور العشيق ولم أدخل حتى الآن. ذلك هو السبب في أني سوف أختبئ وراء الستارة مؤقتاً. (يمسح العرق من جبينه). الجو حار جداً. اعتقد أن عاصفة ستضربنا.
يضع ساقيه أمام يوف كأنه يريد أن يعثره، يرفع تنورة ميا، يظهر وجهاً كأنه يستطيع أن يرى كل عجائب العالم تحته، ويختفي وراء الستائر المرقعة بصورة مبهرجة.
سكات رجل أنيق جداً، والآن يستطيع أن يرى نفسه في انعكاس حوض الغسيل. شعره معقوص بإحكام وحاجبا عينيه كثيفان على نحو جميل، قرطان لامعان يلفتان الانتباه مع أسنانه، وخداه أحمران متوردان.
يجلس عند الباب الخلفي للعربة، يدلي ساقيه ويصفّر مع نفسه.
وفي الوقت نفسه، يؤدي يوف وميا مسرحيتهما المأساوية. لكنها لم تلق الاستجابة الكبيرة والتصفيق من الجمهور. يكتشف سكات فجأة أن شخصاً ما يراقبه كأنه يحدق بحوض الصفيح باهتمام. تقف امرأة هناك، مهيبة في الحجم والطول.
يعبس سكات، يعبث بخنجره الصغير وأحياناً يرمي نظرة خبيثة لكنها محمومة على الزائرة الجميلة. تكتشف فجأةً أن أحد حذاءيها غير مناسب تماماً. تنحني للأسفل لكي تصلحه وبذلك تسمح لصدرها أن يندلق خارج سجنه؛ بقدر ما يسمح له الشرف والعفة، لكن ما يكفي كي يرى الممثل بعينه المجربة حالاً بأن هناك مكافآت وافرة كان عليه أن يحصل عليها هنا.
تقترب أكثر، تجثم وتفتح رزمة تحتوي على عدة لقمات لذيذة وقربة مليئة بالنبيذ الأحمر. يتجنب يوناس سكات عدم سقوط العربة أثناء حماسه. وحين يقف عند عتبات العربة يسند نفسه أمام شجرة قريبة ويصالب ساقيه وينحني.
المرأة تنهش بهدوء قطعة من فخذ الدجاج التي يسيل منها السمن. في هذه اللحظة يندهش الممثل من النظرة المشرقة المليئة بالشهوانية.
حين يرى ذلك المنظر، يتخذ سكات قراراً سريعاً، ويقفز من العربة ويجثم أمام المرأة المتوردة خجلاً.
تصبح ضعيفة ومترددة من اقترابه، تنظر إليه بنظرة زجاجية وتتنفس بصعوبة. لا يتردد سكات في طبع قبلات على يدها الصغيرة والسمينة. الشمس تشرق ساطعة وطيور صغيرة تضج في وكناتها بين الأدغال.
الآن هي مجبرة على الجلوس؛ تبدو ساقاها غير راغبتين في إسنادها. وفي ذهولها تفصل فخذ دجاج وتقدمه إلى سكات وهي تعبر عن انجذابها وانتصارها، كأن بكارتها قد قدمت كجائزة.
يتردد سكات لحظة، لكنه ما يزال بارعاً في خطته. يرمي بفخذ الدجاج فوق العشب، ويهمس في إذن المرأة المتوردة.
تبدو كلماته قد أسرتها. تضع ذراعيها حول رقبة الممثل وتسحبه بعنف بحيث أن الاثنين يفقدان توازنهما ويسقطان على العشب القشيب. تطلق الطيور الصغيرة أجنحتها بصرخات الفزع.
يقف يوف في الشمس المتوهجة وفي يده قنديل وامض. تتظاهر ميا بالنوم على الطاولة التي تم سحبها للأمام على خشبة المسرح.
يوف: الآن يسود الليل ونور القمر. وهنا تنام زوجتي واهنة..
صوت من الجمهور: هل تشخر؟
يوف: ربما أشير إلى أن هذه المسرحية مأساوية، وفي المآسي لا يشخر المرء.
صوت من الجمهور: اعتقد بأنها يجب أن تشخر على أية حال.
تثير هذه الفكرة مرحاً لدى الجمهور. يصبح يوف منزعجاً قليلاً ويخرج عن الشخصية. لكن ميا تبقي رأسها وتبدأ تشخر.
يوف: الآن يسود الليل ونور القمر. هناك تشخر -أعني تنام- زوجتي واهنة. أنا غيور أكثر من أي وقت مضى، أخفي نفسي ما وراء هذا الباب. إنها مخلصة لعشيقها وليس لي. سرعان ما يأتي بغتة ليوقظ شعورها الشهواني. يجب أن أقتله لئلا يعدني ديوثاً. ها هو يأتي في ضوء القمر، ساقاه البيضاوان تشع. سوف أستلقي هنا هادئاً كالفأر.. لا تخبروه بأنه سوف يموت.
يخفي يوف نفسه. تكف ميا حالاً عن الشخير وتنهض متطلعة إلى اليسار.
ميا: انظروا، ها هو يأتي في الليل. عشيقي، قلبي مسرور.
تصمت وتنظر بعينين واسعتين أمامها. المزاج في الساحة أمام الحانة حتى الآن ما زال خاليا من الهموم على الرغم من الحرارة.
يحدث الآن تغير سريع. الناس الذين يضحكون ويثرثرون يلفهم الصمت. تبدو وجوههم شاحبة تحت جلودهم التي لوحتها الشمس، يوقف الأطفال ألعابهم ويقفون بأفواه مفغورة، وعيون خائفة. يخطو يوف أمام الستارة. وجهه المصبوغ يحمل تعبيراً مرعباً. تنهض ميا ممسكة مايكل بذراعيها. بعض النساء في الساحة يجثمن على ركبهنّ، والأخريات يخفين وجوههن، والعديد منهن يهمهمن بأدعية شبه منسية.
الجميع أداروا وجوههم إلى الطريق الأبيض. الآن تُسمع أغنية صاخبة. إنها مجنونة تشبه الصراخ. صليب المسيح يتأرجح فوق قمة التل.
سرعان ما يدخل حاملو الصليب في مرأى النظر. إنهم رهبان دومينيكان، قلنسواتهم مسحوبة فوق وجوههم. يأتي المزيد منهم وهم يمسكون حمالات فيها توابيت ثقيلة أو يتشبثون ببقايا مقدسة، أيديهم تمتد بشكل متشنج. الغبار يتساقط حول قلنسواتهم السود؛ المباخر تتأرجح وتطلق دخاناً كثيفاً كالرماد يحمل روائح أعشاب زنخة.
وبعد موكب الرهبان يأتي موكب آخر. مجموعة من الرجال والصبيان والنساء وكبار السن والفتيات والأطفال. جميعهم يمسكون بأيديهم سياطا ذات حواف من الحديد يجلدون بها أنفسهم، وكل واحد منهم يعوي منتشياً.كانوا يتلوون بألم؛ أعينهم تنتفخ باتساع؛ شفاههم تقضم قطعاً صغيرة ويسيح منها الزبد. كانوا محاصرين بالجنون. فهم يعضّون أيديهم وأذرعهم، أحدهم يجلد الآخر بعنف، بفورات إيقاعية تقريباً. خلال ذلك، كانت الأغنية الصاخبة تنطلق من حناجرهم المتفجرة. العديد من الناس يتمايلون ويسقطون، ثم يرفعون أنفسهم مرة أخرى، يتبادلون المساعدة والعون لكي يكثفوا من ضرب السياط.
الآن يتوقف الموكب في تقاطع الطريق أمام الحانة. يجثو الرهبان، مخفين وجوههم بأيدٍ متشابكة، وأذرع تضغط بشدة. لم ينقطع إنشادهم.جسد المسيح على صليبه الخشبي يرفع فوق رؤوس الحشود. إنه ليس المسيح المنتصر بل يسوع المكروب بالآلام والدم والأظافر المدقوقة بالمسامير والوجه المتشنج من الألم. ابن الربّ المسمّر على الصليب الخشب وهو يعاني الحقد والعار.
الآن يغطس التائبون في قذارة الطريق. إنهم ينهارون في المكان الذي يقفون فيه مثل القطيع المذبوح. ترتفع صرخاتهم من أنشودة الرهبان، من خلال دخان البخور المضبب، نحو وهج الشمس.
ينهض راهب كبير على ركبتيه ويكشف عن وجهه الذي لوحته الشمس. عيناه تومضان؛ صوته خشن ينضح بالاحتقار العقيم.
الراهب: لقد حكم علينا الرب بالعقاب. سوف نفنى كلنا بالموت الأسود. أنتم، الذين تقفون هناك، مثل الماشية المتفرقة، وأنتم الذين تجلسون هناك في غروركم المتخم، هل تعلمون بأن هذه ربما تكون ساعتكم الأخيرة؟ فالموت يقف وراءكم. أستطيع أن أرى تاجه يلمع في الشمس ومنجله يشع بينما يرفعه فوق رؤوسكم. فمن الذي ستقع عليه الضربة الأولى؟ أنت هناك، يا من تقف محدقاً مثل العنزة، هل سيتلوى فمك في لهاث متواصل قبل الغروب؟ وأنتِ أيتها المرأة التي تزهر بالحياة والقناعة الذاتية،هل ستشحبين وتنطفئين قبل الفجر؟ أنتَ في الخلف، بأنفك المتضخم وتكشيرتك الحمقاء، هل لديك سنة أخرى لكي تلوث الأرض بإنكارك؟ هل تعلمون، أيها الحمقى البليدون، أنكم سوف تموتون اليوم أو غداً أو بعد غد، لأنكم كلكم قد حُكم عليكم؟ هل تسمعون ما أقول؟ هل تسمعون الكلمة؟ لقد حُكم عليكم، حُكم عليكم!
يقع الراهب صامتاً، ينظر إلى ما حوله بوجه قاسٍ ونظرة باردة حاقدة. الآن يشبك يديه، يقف على الأرض مباعداً ما بين رجليه ويحوّل وجهه إلى الأعلى.
الراهب: يبعث الرب الرحمة لنا في خِزينا! لا تدرْ وجهك عنا باشمئزاز واحتقار، لكن كن رحيماً بنا من أجل يسوع المسيح الابن.
يرسم علامة الصليب على الحشد ويبدأ أغنية جديدة بصوت قوي. ينهض الرهبان وينضمون إلى الإنشاد. يبدأ المحتشدون في جلد أنفسهم مرة أخرى وكأن قوة خارقة تسوقهم، وما زالوا ينتحبون ويئنون. يستمر الموكب. يلتحق أفراد جدد من خلف الصفوف. الآخرون غير قادرين على الاستمرار في الاستلقاء والبكاء في غبار الطريق. يشرب يونس البيرة.
يونس: هذا التبجح الملعون حول يوم الحساب. هل ذلك طعام لعقول الناس العصريين؟ هل يتوقعون منا حقاً أن نأخذه بشكل جدي؟
يكشر الفارس بشكل مرهق.
يونس: نعم، أنت تكشر لي، سيدي. لكن اسمح لي أن أشير بأني إمّا قرأت أو سمعت أو جربت أغلب الحكايات التي يرويها الناس فيما بينهم.
الفارس (يتثاءب): نعم. نعم.
يونس: حتى قصص الأشباح حول الرب والأب والملائكة ويسوع المسيح والروح القدس. كل هذه قَبِلتُها دون الكثير من العاطفة.
يميل نحو الفتاة بينما يربض على قدميه ويربّت على رأسها. يشرب الفارس بيرته بصمت.
يونس: بطني الصغيرة هي عالمي. ورأسي هو أبديتي ويداي شمسان مدهشتان، وقدماي القذرتان نقطتا انطلاق رائعتان لفلسفتي. كل شيء يستحق بالضبط تجشؤاً كثيراً، والفرق الوحيد هو أن التجشؤ أكثر إقناعاً.
دورق البيرة فارغ. يئن يونس وينهض على قدميه. تتبعه الفتاة مثل الظل.
يلتقي في الساحة رجلا كبيرا بوجه ساخم وتعبير قاتم. يوقف يونس بصيحة كالزئير.
يونس: لماذا تصرخ هكذا؟
بلوغ: أنا “بلوغ”، الحداد، وأنت التابع يونس.
يونس: ممكن.
بلوغ: هل رأيت زوجتي؟
يونس: كلا. لم أرها. لكن لو رأيتها ووجدت أنها تشبهك فسرعان ما أنسى أني رأيتها.
بلوغ: حسن، في هذه الحالة أنت لم ترها.
يونس: ربما هربت.
بلوغ: هل تعرف أي شيء عنها.
يونس: أعرف الكثير لكن ليس عن زوجتك. اذهب إلى الحانة، فربما يستطيعون مساعدتك.
يئن الحداد بحزن ويدخل.
الحانة صغيرة جداً ومليئة بالناس وهم يأكلون ويشربون لكي ينسوا المخاوف التي أثيرت حديثاً عن الخلود. في الموقد المفتوح ثمة خنزير مشوي يدور على قضيب من الحديد. تشرق الشمس خارج النافذة، أشعتها الحادة تثقب ظلام الغرفة، الممتلئة بالدخان والعرق.
التاجر: نعم حقاً! الطاعون ينتشر حول الساحل الغربي. الناس يموتون مثل الذباب.عادة ما تكون التجارة مثمرة في مثل هذا الوقت من السنة، لكن، اللعنة، فأنا ما زالت بضاعتي لم تُشترَ لحد الآن.
المرأة: يتكلمون عن يوم الحساب. وكل تلك النبوءات فظيعة. الدود، الأيدي المقطوعة وتلك المسوخ التي تنبثق من امرأة عجوز، وهناك في القرية وَلدت امرأة عجوز رأس عجل.
رجل عجوز: تصور يوم الحساب.
المزارع: لم تمطر السماء منذ شهر. بالتأكيد سوف نفقد حبوبنا.
التاجر: والناس يتصرفون كالمجانين. هجروا البلد حاملين الطاعون معهم أينما ذهبوا.
الرجل العجوز: يوم الحساب. فكّر. فكّر فقط!
المزارع: إن كان الأمر كما يقولون، افترض أن شخصاً يجب أن يبحث عن بيته ويحاول أن يتمتع بالحياة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
المرأة: لكنْ هناك أمور أخرى أيضاً مثل تلك الأمور التي لا يمكن الكلام عنها. (تهمس): أمور يجب عدم تسميتها لكن الكهنة يقولون إن المرأة تحملها بين ساقيها وذلك هو السبب في أنها يجب أن تطهّر نفسها.
الرجل العجوز: يوم الحساب. وراكبو يوم القيامة يقفون عند المنعطف في طريق القرية. أتصور أنهم سوف يصلون عند ليلة الحساب عند الغروب.
المرأة: هناك العديد من الذين طهروا أنفسهم بالنار وماتوا بسببه، لكن الكهنة يقولون إنه من الأفضل أن تموت طاهراً بدلاً من أن تعيش من أجل الجحيم.
التاجر: هذه هي النهاية، نعم. لا أحد يقول بصوت عالٍ، لكن جميعنا يعرفون أنها النهاية. والناس أصبحوا مجانين من الفزع.
المزارع: إذن أنت خائف أيضاً.
التاجر: بالطبع أنا خائف.
الرجل العجوز: يأتي يوم الحساب ليلاً والملائكة يهبطون وتفتح القبور. سيكون من الفظاعة رؤية ذلك. يهمسون بنغمات خفيضة ويجلسون أحدهم قرب الآخر.
يشق “بلوغ” الحداد طريقه عبر مكان مجاور إلى يوف الذي ما زال يلبس زيه الرسمي. مقابله يجلس رافال، وهو يميل قليلاً للأمام ووجهه يتصبب عرقاً كثيراً. يدوّر رافال سواراً على المنضدة.
رافال: هل تريد هذا السوار؟ تستطيع أن تأخذه بثمن زهيد.
يوف: لا أستطيع أن أشتريه.
رافال: إنه مصنوع من الفضة الخالصة.
يوف: إنه جميل. لكنه غال جداً بالنسبة لي.
بلوغ: اعذرني، هل هناك أحد رأى زوجتي؟
يوف: هل اختفت؟
بلوغ: يقولون إنها هربت.
يوف: هل فرّت منك؟
بلوغ: فرّت مع ممثل.
يوف: ممثل! إن كان لديها مثل هذا الذوق الرديء إذن أعتقد بأنه من الصحيح أنك سمحت لها بالهروب.
بلوغ: إنك على حق. فكرتي الأولى بالطبع أن أقتلها.
يوف: آه. لكنّ قتلَها فعل شنيع.
بلوغ: وسأقتل الممثل.
يوف: الممثل؟
بلوغ: بالطبع، الذي شرَدَتْ معه.
يوف: ما الذي فعله لكي يستحق ذلك؟
بلوغ: هل أنت أحمق؟
يوف: الممثل! فهمت. هناك العديد منهم، لذا حتى لو فعل أي شيء فيجب أن تقتله فحسب لأنه ممثل.
بلوغ: أفهم أن زوجتي كانت دائماً مهتمة بحيل المسرح.
يوف: وتحوّل ذلك ليكون من سوء حظها.
بلوغ: سوء حظها، وليس سوء حظي، لأن الشخص الذي وُلد غير محظوظ بالكاد يمكن أن يعاني من سوء الحظ. أذلك صحيح؟
الآن يدخل رافال في المناقشة. إنه ثمل قليلاً وصوته حاد وشنيع.
رفال: انظر أنت! أنت تجلس هناك وتكذب على الحداد.
يوف: أنا كذاب؟
رافال: إنك ممثل أيضاً، وربما يكون شريكك في التمثيل هو الذي هربت معه السيدة “بلوغ”.
بلوغ: هل أنت ممثل أيضاً؟
يوف: ممثل! أنا! لن أدعو نفسي بذلك تماماً!
رافال: سيكون من المنطقي وجوب قتلك.
يوف: (يضحك) إنك حقاً مضحك.
رافال: غريب كيف أصبح لونك شاحباً. هل حصل شيء لوعيك؟
يوف: إنك مضحك. ألا تعتقد أنه مضحك؟ (إلى “بلوغ”) آه، أنت لا.
رافال: ربما يجب أن نوسمك قليلاً بالسكين، مثلما يفعلون للأنذال الحقراء من أمثالك.
يدق “بلوغ” بيديه على المنضدة فتطفر الأطباق. ينهض.
بلوغ (يهتف): ماذا فعلتَ بزوجتي؟
يعم الصمت في الغرفة. ينظر يوف ما حوله، لكن لا مخرج. لا مهرب. يضع يديه على المنضدة. وفجأة تلتمع سكين في الهواء وتنبت في المنضدة بين أصابعه.
يسحب يوف يديه ويرفع رأسه. يبدو مندهشاً كأن الحقيقة أصبحت ظاهرة له.
يوف: هل تريد أن تؤذيني؟ لماذا؟ هل أثرتُ أحداً أو تدخلتُ في شأن ما؟ سوف أغادر حالاً ولن أرجع.
ينقل يوف نظراته من وجه إلى آخر، لكن لا أحد يبدو جاهزاً لمساعدته أو الدفاع عنه.
رافال: انهض لكي يسمعك الجميع. تكلم بصوت عالٍ.
ينهض يوف مرتجفاً. يفتح فمه كأنه يقول شيئاً، لكن لم ينطق بأي كلمة.
رافال: قفْ على رأسك لكي نرى كم أنت ممثل بارع.
يوف ينهض على المنضدة ويقف على رأسه. تدفعه يدٌ للأمام لكي ينهار على الأرض. ينهض “بلوغ” ويسحبه بيده.
بلوغ: (يهتف) ماذا فعلتَ بزوجتي؟
يضربه “بلوغ” بقوة بحيث يستلقي يوف على المنضدة. يميل رافال فوقه.
رافال: لا تستلقِ هناك وتئن. انهض وارقص.
يوف: لا أريد. لا أستطيع.
رافال: أظهر لنا كيف تقلّد الدب.
يوف: لا أستطيع أن أقلّد الدب.
رافال: دعنا نرَ إن كنتَ تستطيع على أي حال.
رافال ينخس يوف قليلاً برأس السكين. ينهض يوف وهو ينضح بالعرق البارد على خديه وجبينه، خائفاً حد الموت. يبدأ بالقفز والوثوب على سطوح المناضد، يؤرجح ذراعيه وساقيه وتظهر في وجهه مظاهر بشعة. تنطلق بعض الضحكات، لكن الجميع يجلس بصمت. يلهث يوف كأن رئتيه على وشك أن تنفجرا. ينهار على ركبتيه، وشخص يصب البيرة فوقه.
رافال: انهض ثانيةً ! كن دبّاً طيباً!
يوف: لم أفعل أي شيء ضار. لا أملك القوة بعد الآن لكي أؤدي دور الدب.
في تلك اللحظة يفتح الباب ويدخل يونس. يستغل يوف الفرصة وينسل للخارج. يريد رافال أن يتبعه، لكنه يتوقف فجأة. يتبادل يونس ورافال النظرات.
يونس: هل تتذكر ما قلت إني سأفعله بك لو التقينا مرة أخرى؟
يتراجع رافال دون كلام.
يونس: أنا رجل عند وعده.
يرفع يونس سكينه ويجرح رافال من الجبهة إلى الخد.
يترنّح رافال نحو الحائط.
تحول النهار الحار إلى ليل. يمكن سماع الغناء والصخب من الحانة. في فجوة بالقرب من الغابة ما زال الضوء يومض. العنادل المختفية في العشب والشجيرات تغرّد وصدى أصواتها يتخلل الصمت.
تقف عربة الممثلين في واد صغير، ليس بعيداً عن الحصان الذي يخبُّ فوق العشب اليابس. جلست ميا أمام العربة مع ابنها بين ذراعيها، وهما يلعبان معاً ويضحكان بسعادة. والآن ومضة رقيقة من النور تضرب قمم التلال، وهو آخر انعكاس من الغيوم الحمر فوق البحر.
ليس بعيداً عن العربة، يجلس الفارس رابضاً فوق رقعة الشطرنج. يرفع رأسه. ضوء المساء يتحرك عبر عجلات العربة الثقيلة، وعبر المرأة والطفل. ينهض الفارس.
تراه ميا وتبتسم. تحمل ابنها المشاكس كأنها تسلّي الفارس.
الفارس: ما اسمه؟
ميا: مايكل.
الفارس: كم عمره؟
ميا: آه، سيبلغ قريباً السنتين.
الفارس: يبدو أكبر من عمره.
ميا: هل تعتقد ذلك؟ نعم أخمن بأنه كبير إلى حدّ ما.
تضع الطفل على الأرض وتنهض لكي تنفض تنورتها الحمراء. حين تجلس ثانية يتقدم الفارس بالقرب منها.
الفارس: كنتِ تؤدين عملاً تمثيلياً هذه الظهيرة.
ميا: هل تعتقد بأنه أداء سيئ؟
الفارس: أنت الآن أكثر جمالاً مما كنتِ حين تصبغين وجهك، وهذا الثوب لائقٌ عليك.
ميا: أنت ترى أن يوناس سكات هرب وتركنا في مشكلة حقيقية الآن.
الفارس: هل هو زوجك؟
ميا: (تضحك) يوناس! الرجل الآخر هو زوجي. اسمه يوف.
الفارس: آه، ذلك الشخص.
ميا: والآن بقينا أنا وهو فقط. يجب علينا أن نبدأ حيلاً مرة أخرى وذلك أكثر إزعاجاً لنا.
الفارس: هل تؤدين الحيل أيضاً؟
ميا: نؤديها بالتأكيد. ويوف ساحر ماهر.
الفارس: هل سيصبح مايكل بهلواناً؟
مايا: يريده يوف كذلك.
الفارس: لكنك لا تريدينه.
ميا: لا أعلم. (تبتسم) ربما سيصبح فارساً.
الفارس: دعني أؤكد لك أن ذلك يجلب المتعة أيضاً.
ميا: كلا، أنك لا تبدو سعيداً.
الفارس: كلا.
ميا: هل أنت مرهق؟
الفارس: نعم.
ميا: لماذا؟
الفارس: لديّ صحبة رتيبة.
ميا: هل تعني تابعك؟
الفارس: كلا ليس هو.
ميا: من تعني إذن؟
الفارس: نفسي.
ميا: فهمت.
الفارس: هل فهمتِ حقاً؟
ميا: نعم، فهمت جيداً. أتساءل أحياناً لماذا يعذّب الناس أنفسهم. أليس كذلك؟
تومئ برأسها بحيوية ويبتسم الفارس بجدّ. والآن أصبح الصخب والضجة من الحانة عاليين. تومض أشكال سود عبر رابية العشب. شخص ما ينهار، ينهض ثم يجري. إنه يوف. تمد ميا ذراعيها وتستقبله. يحمل يديه أمام وجهه ويئن مثل طفل، وجسمه يتمايل. يجثم. تحمله ميا قريباً منها وتلقي عليه أسئلة قصيرة قلقة: ماذا فعلتَ بنفسك؟ كيف حالك؟ ما الأمر؟ هل تأذيت؟ ماذا يمكن أن أفعل لك؟ هل قسوا عليك؟ تجري هائجة وتغرف الماء ثم تغسل وجه زوجها الدامي القذر بعناية.
وأخيراً تظهر عليه سيماء حزينة إلى حدّ ما. يجري الدم من كدمة في جبهته وأنفه، وثمة سنٌّ تخلخل، عدا ذلك فإن يوف غير متضرر.
يوف: آخ، إنه يؤلمني.
ميا: لماذا ذهبت إلى هناك؟ وبالطبع شربت الخمر.
يحل غضب معتدل مكان قلق ميا. تربّت عليه أقوى من اللازم.
يوف: آخ، لم أشرب أي شيء.
ميا: أظن أنك كنت تفاخر حول الملائكة والشياطين التي تتوحد معها. فالناس لا تحب الشخص الذي لديه أفكار وأوهام عديدة جداً.
يوف: أقسم لك بأني لم أقل كلمة حول الملائكة.
ميا: كنت، بالطبع، منشغلاً بالغناء والرقص. لن تستطيع أن تتوقف عن كونك ممثلاً. الناس يصبحون أيضاً غاضبين من ذلك، وأنت تعرف الأمر.
لا يجيب يوف لكنه يبحث عن السوار. يحمله للأعلى أمام ميا بتعبير جريح.
يوف: انظري ماذا اشتريتُ لك.
ميا: أنت لا تقدر على شرائه.
يوف: (غاضباً) لكني حصلت عليه على أية حال.
يلمع السوار بخفوت في الغسق. تسحبه ميا الآن عبر رسغها. ينظران إليه بصمت، ويرقّ وجهاهما. يتبادلان النظرات ولمسات الأيدي. يضع يوف رأسه أمام كتف ميا ويئن.
يوف: آه، لقد ضربوني.
ميا: ولماذا لم ترد عليهم الضرب؟
يوف: أصبحتُ خائفاً وغاضباً. لم تحن الفرصة لكي أرد الضربة. أستطيع أن أغضب كما تعلمين فأنا أزأر مثل الأسد.
ميا: هل كانوا خائفين؟
يوف: كلا. بل كانوا يضحكون فقط.
يزحف ابنهما مايكل فوقهما. يوف يستلقي على الأرض ويجذب ابنه من فوق. تنزل ميا على يديها وتجثم وتشم مايكل عابثة معه.
ميا: ألا تلاحظ كم رائحته طيبة؟
يوف: إنه مكتنز يصعب حمله. إنك رجل قوي. ولديك جسم بهلوان حقيقي.
يرفع مايكل للأعلى ويحمله من ساقيه. تتطلع ميا فجأة متذكرة وجود الفارس.
ميا: هذا هو زوجي يوف.
يوف: مساء الخير.
الفارس: مساء الخير.
يصبح يوف مرتبكاً قليلاً وينهض. يتبادل الثلاثة النظرات بصمت.
الفارس: لقد أخبرتُ تواً زوجتك بأنك لديك ابن رائع. سوف يجلب لك متعة كبيرة.
يحلّ الصمت بينهم مرة أخرى.
يوف: ميا، هل لدينا شيء من الطعام نعطيه للفارس؟
الفارس: شكراً، لا أريد أي شيء.
ميا: جمعتُ سلة من الفراولة البرية هذه الظهيرة ولدينا حليب طازج من بقرة..
يوف: كانت تسمح لنا بالحلب منها. إن أحببتَ أن تتناول هذا الطعام المتواضع سيكون شرفاً كبيراً لنا.
ميا: أرجوك أجلس وسوف أجلب لك الطعام.
يجلسان. تختفي ميا مع مايكل.
الفارس: أين ستذهب بعد ذلك؟
يوف: إلى عيد القديسين في السينور.
الفارس: لا أنصحك بالذهاب إلى هناك.
يوف: ولماذا لو سمحت؟
الفارس: الطاعون ينتشر في ذلك الاتجاه، متخذاً الخط الساحلي للجنوب. يُقال إن الناس يموتون بعشرات الآلاف.
يوف: حقاً! حسنًا، أحياناً الحياة صعبة نوعاً ما.
الفارس: هل لي أن أقترح.. (ينظر يوف إليه مندهشاً).. أن تتبعني عبر الغابة الليلة وتبقى في بيتي إذا رغبت. أو تمضي على طول الساحل الشرقي. ربما تكون أكثر أماناً هناك.
تعود ميا بسلة الفراولة البرية والحليب، وتضعها بينهما وتعطي ملعقة لكل منهما.
يوف: أتمنى لك طعاماً شهياً.
الفارس: شكراً جزيلاً.
ميا: هذه الفراولة البرية من الغابة. إنها كبيرة لم أر مثلها من قبل. لقد نضجتْ على جانب التل. شمَّ رائحتها!
تشير بملعقة وتبتسم. يومئ الفارس برأسه، كأنه كان يفكر عميقاً. يأكل يوف بتلذذ.
يوف: اقتراحك جيد، لكن أظن أنه فات الأوان.
ميا: يكون من الحكمة أن تكون ثمة فرقة تذهب عبر الغابة. يقال إنها مليئة بالأقزام والأشباح واللصوص. ذلك ما سمعته.
يوف: (بحزم) نعم. أود أن أقول إنها ليست فكرة سيئة لكن عليّ أن أفكر فيها. والآن وبعد أن غادر سكات، فأنا مسؤول عن الفرقة. مع ذلك، أصبحتُ مخرج الفرقة بأكملها.
ميا (تقلّده): مع ذلك أصبحتُ مخرج الفرقة بأكملها.
يأتي يونس ماشياً ببطء من التل، تتبعه الفتاة. تشير ميا بملعقتها.
ميا: هل تريد بعض الفراولة البرية؟
يوف: هذا الرجل أنقذ حياتي. اجلس يا صديقي معنا.
ميا: (تتمطى) آه، كم الجو جميل.
الفارس: لفترة قصيرة.
ميا: دائماً تقريباً. كل يوم يشبه الآخر. لا غرابة في ذلك. الصيف بالطبع أفضل من الشتاء، لأنه في الصيف لا يصيبك البرد. لكن الربيع أفضلها جميعاً.
يوف: لقد كتبت قصيدة حول الربيع. ربما تريدون أن تسمعوها. سوف أذهب لأجلب قيثارتي.
يعدو بسرعة نحو العربة.
ميا: ليس الآن يا يوف. فربما أغانيك لا تعجب ضيوفنا.
يوف (بأدب): رغم كل شيء، أكتب أغانيَ قصيرة لنفسي. مثلاً، أعرف أغنية ظريفة عن سمكة طائشة وأشك في أنك سمعتها.
ينظر الفارس إليه.
يوف: يجب أن تستمع إليها. يوجد أشخاص هنا لا يتذوقون فني ولا يريدون أن يزعجوا أي أحد. إني روح حساسة.
يظهر يوف بقيثارته، يجلس على صندوق صغير مزركش ويعزف على الآلة، ويترنم بهدوء، باحثاً عن نغمته.
يتثاءب يوف ويجثم.
الفارس: الناس ينزعجون من الكثرة.
ميا: من الأفضل دائماً أن يوجد اثنان بدلاً من واحد. هل لديك فتاة؟
الفارس: نعم لديّ.
ميا: وماذا تفعل الآن؟
الفارس: لا أعلم.
ميا: تبدو هادئاً جداً. هل هي حبيبتك؟
الفارس: نحن متزوجان حديثاً ونعزف معاً. نضحك كثيراً. كتبتُ أغنيات عن عينيها وأنفها وأذنيها الجميلتين الصغيرتين. مضينا للصيد معاً وفي الليل رقصنا. كان البيت مليئاً بالحياة..
ميا: هل تريد المزيد من الفراولة البرية؟
الفارس (يهز رأسه): الإيمان عذاب، هل تعرفين ذلك؟ إنه مثل حب شخص ما يقف هناك في الظلام ولن يظهر أبداً مهما ناديتِ عالياً.
ميا: لا أعرف ماذا تعني؟
الفارس: كل شيء قلته يبدو لا معنى له وغير حقيقي بينما أجلس هنا معك ومع زوجك. كم هو غير مهم أن تصبح الأمور هكذا فجأة!
يتناول وعاء الحليب بيده ويشرب بلهفة منه عدة مرات. ثم يضعه ويتطلع مبتسماً.
ميا: لا تبدو هادئاً الآن.
الفارس: سوف أتذكر هذه اللحظة. الصمت، الغسق، سلة الفراولة ووعاء الحليب، وجوهكم في نور المساء. مايكل وهو نائم، يوف بقيثارته. سوف أحاول تذكر ما دار الحديث عنه. سوف أحمل هذه الذكرى بين يدي بعناية وكأنها وعاء مترعٌ بالحليب الطازج.
يستدير وجهه بعيداً وينظر نحو البحر والسماء الرمادية الشاحبة.
الفارس: وستكون علامة كافية بالنسبة لي.
ينهض ويومئ للآخرين ويمشي نحو الغابة.
يستمر يوف في العزف على القيثارة. تستلقي ميا على العشب.
يلتقط الفارس لعبة الشطرنج ويحملها باتجاه الساحل الهادئ المهجور. البحر ساكن.
الموت: أنا بانتظارك.
الفارس: اسمح لي. كنتُ محجوزاً لبضع لحظات، لأني كشفتُ خططي لك. أنا أتراجع. إنها نقلتك.
الموت: لماذا تبدو واثقاً جداً.
الفارس: ذلك هو سرّي.
الموت: بالطبع. الآن أقتل فارسك.
الفارس: أنت تفعل الشيء الصحيح.
الموت: هل خدعتني؟
الفارس: بالطبع. أنت وقعت مباشرة في الفخ. كش ملك!
الموت: لماذا تضحك؟
الفارس: لا تقلق حول ضحكتي؛ أنقذ ملكك بدلاً من ذلك.
الموت: إنك جاهل بالأحرى.
الفارس: لعبتنا تسليني.
الموت: الآن النقلة لك. أسرع. الزمن يضغط علي قليلاً.
الفارس: أفهم أنك لديك الكثير لتفعله، لكنك لا تستطيع أن تخرج من لعبتنا. الأمر يتطلب وقتاً.
على وشك أن يجيب الموت عنه لكنه يتوقف ويميل فوق الرقعة. يبتسم الفارس.
الموت: هل سترافق الساحر وزوجته عبر الغابة؟ أقصد هذين اللذين يسميان يوف وميا ولديهما ولد صغير؟
الفارس: لماذا تسأل؟
الموت: لا يوجد سبب مطلقاً.
يتوقف الفارس فجأة عن الابتسام. ينظر الموت إليه باحتقار.
وبعد الغروب مباشرة، تتجمع الجماعة الصغيرة في ساحة الحانة. هناك الفارس ويونس والفتاة ويوف وميا في عربتهما.كان ابنهما مايكل نائماً. يوناس سكات ما زال مفقوداً.
يدخل يونس إلى الحانة ليأتي بتجهيزات رحلة الليل وليتناول آخر كوب من البيرة. الحانة الآن فارغة وهادئة باستثناء مزارعين وفتيات يتناولن وجبة المساء في أحد الأركان. وفي إحدى النوافذ يجلس رجل أحدب وحيد وكوز من البراندي بين يديه. تعبيره حزين جداً. وحالاً وخلال فترة ينخرط في بكاء شديد. إنه “بلوغ” الحداد الذي يجلس هناك وينشج.
يونس: يا إلهي، أليس هذا هو “بلوغ” الحداد؟
بلوغ: مساء الخير.
يونس: هل تجلس هنا وتتباكى بسبب الوحدة؟
بلوغ: نعم، نعم، انظر إلى الحداد. إنه يئن مثل الأرنب.
يونس: لو كنت مكانك لكنتُ سعيداً بطردي زوجة بمثل هذه الطريقة السهلة.
يربّت يونس على ظهر الحداد ويسقي عطشه بالبيرة، ويجلس إلى جانبه.
بلوغ: هل أنت متزوج؟
يونس: أنا! مئات المرات وأكثر. لم احتفظ بأي حساب لعدد زوجاتي بعد الآن. لكن غالباً ما تكون الأمور بتلك الطريقة حين تكون رجلاً رحالة.
بلوغ: أستطيع أن أؤكد لك أن الزوجة الواحدة أسوأ من مئة زوجة، وإلا فإنّ لي حظاً أسوأ من أي بائس مسكين في هذا العالم التعس، وهذا أمر ليس بمستحيل.
يونس: نعم. الجحيم موجود بوجود النساء أو عدمه. لذا، مهما تنظر إلى الأمر، فإنّ قتلهنّ أفضل من فقدان المرح.
بلوغ: تذمر النساء، صراخ الأطفال، الحفاظات الرطبة، الأظافر الحادة والكلمات الجارحة، الضربات والنخسات، والعمة حماة الشيطان. ثم حين يريد المرء أن ينام بعد يوم طويل، فثمة أغنية جديدة؛ دموع، نحيب وأنين بصوت عال يكفي أن يوقظ الموتى.
يومئ يونس برأسه مسروراً. لقد شرب كثيراً فراح يتكلم بصوت امرأة عجوز.
يونس: “لماذا لا تقبلني وتتمنى لي ليلة طيبة؟”
بلوغ (بالطريقة نفسها): “لماذا لا تغني لي أغنية؟”
يونس: “لماذا لا تحبني بالطريقة التي أحببتني بها حين التقينا أول مرة؟”
بلوغ: “لماذا تنظر إلى هفوتي الجديدة؟”
يونس: “إنك تدير ظهرك وتشخر”.
بلوغ: آه، يا للجحيم!
بلوغ: آه يا للجحيم. والآن ذهبتْ. ابتهج!
بلوغ (غاضباً): سوف أقص أنوفهنّ بالكماشة. سوف أضرب صدورهنّ بمطرقة صغيرة. سوف أضرب رؤوسهن بالمطرقة الثقيلة.
يبدأ “بلوغ” بالبكاء عالياً ويتمايل جسده بأكمله في هجوم كبير من الحزن. ينظر يونس إليه باهتمام.
يونس: انظر كيف يولول ثانية.
بلوغ: ربما أحبّها.
يونس: إذن، أنت ربما تحبها! إذن أنت يا فخذ الحنزير المضلل المسكين، سوف أخبرك بأن الحب هو كلمة أخرى للشهوة، زائداً الشهوة، والكثير من الخداع والزيف، والكذب وكل أنواع الحماقات.
بلوغ: نعم. لكن الأمر مؤلم على أية حال.
يونس: بالطبع. الحب هو الطاعون الأشد سواداً، وإذا ما مات أحد بسببه فسيكون ثمة متعة في الحب. لكنك دائماً تتغلب عليه.
بلوغ: كلا، كلا، لست أنا.
يونس: نعم أنت أيضاً. هناك فقط الكثير من البائسين المساكين الذين يموتون بسبب الحب مرة خلال فترة وجيزة. الحب معدٍ مثل البرد في الأنف. فهو يأكل قوتك واستقلالك وأخلاقك إن كانت لديك. لو أن كل شيء ناقصٌ في هذا العالم غير المثالي فإن الحب أشد مثالية في نقصه المثالي.
بلوغ: أنت سعيد بكلماتك المتملقة، إضافة إلى أنك تصدق هراءك هذا.
يونس: أصدّق! من قال إني أصدقه؟ لكني أحب إسداء النصيحة. إذا ما سألتني النصيحة سوف تحصل على قطعتين بثمن واحد، لأنه على أية حال أنا رجل متعلم.
ينهض يونس من المنضدة ويضرب وجهه بيديه. يصبح “بلوغ” بائساً ويمسك بحزامه.
بلوغ: اسمع يونس. هل لي أن أذهب معك عبر الغابة؟ فأنا وحيد ولا أريد أن أعود إلى البيت لأن الجميع سوف يضحك عليّ.
يونس: ليتك لم تتذمر الوقت كله، لأنه في تلك الحالة علينا أن نتجنبك.
ينهض “بلوغ” ويحتضن يونس. يمشي الصديقان الجديدان ثملين نحو الباب.حين يظهران في الساحة يراهما يوف حالاً.
يوف: يونس! احذر. هذا الشخص يريد أن يتخاصم طوال الوقت. وهو ليس عاقلاً تماماً.
يونس: نعم، لكنه الآن يتباكى.
يخطو “بلوغ” نحو يوف الذي يشحب من الخوف. يهدّده بيده.
بلوغ: أنا آسف إن كنت آذيتك. لكني مزاجي في غاية السوء كما تعرف. صافحني.
يمدُّ يوف يده بخوف ويصافحه ويعصره بقوة. وبينما يحاول يوف أن يقوّم أصابعه تأخذه نية طيبة كبيرة فيفتح ذراعيه.
بلوغ: احضني يا أخي الصغير.
يوف: شكراً، شكراً، ربما في ما بعد. لكننا الآن في عجلة من أمرنا.
يتسلق يوف العربة ويجلس على المقعد بسرعة وينخس الفرس.
الجماعة الصغيرة في طريقها إلى الغابة حين حلول الليل. كانت الغابة مظلمة. أولاً يأتي الفارس على حصان كبير. ثم يوف وميا تتبعه، يجلسون متقاربين في عربة الساحر.
تحمل ميا ابنها بيديها. يتبعهما يونس بحصانه المحمّل بحمل ثقيل. يسحب الحداد. الفتاة تجلس على قمة الحمل فوق صهوة الحصان، محدودبة كأنها نائمة.
رغم خطوات الأقدام ووقع حوافر الخيول على الممر الناعم، واللهاث الإنساني فإن الهدوء يسود. ثم يبحر القمر بين الغيوم. وفجأة تصبح الغابة حية بلا حقيقة الليل.
الضوء المبهر يسيل عبر أوراق شجرة الزان، عالم متحرك ومرتعش من الضوء والظل. يتوقف الجوالون. عيونهم معتمة نتيجة القلق والنذر. وجوههم شاحبة وغير حقيقية في الضوء العائم. الجو هادئ.
بلوغ: القمر الآن يظهر من السحب.
يونس: ذلك أمر جيد. بإمكاننا أن نرى الطريق بصورة أفضل.
ميا: لا أحب القمر الليلة.
يوف: الأشجار تقف ساكنة جداً.
يونس: لأنْ ليس هناك ريح.
بلوغ: أظن أنه يعني أنها تقف ساكنة جداً.
يوف: إنها هادئة جداً.
يونس: ليتنا نسمع عواء الذئب على الأقل.
يوف: أو نعيب بومة.
يونس: أو صوتا بشريا بالقرب منا.
الفتاة: يقولون إنه من الخطر البقاء واقفين في ضوء القمر.
فجأة، من خلال الصمت والضوء المعتم الساقط عبر طريق الغابة، تبرز عربة أشبه بالشبح. إنّها الساحرة التي أخذوها إلى مكان سوف تُحرق فيه. وبرفقتها ثمانية جنود يجرون أقدامهم مرهقين، ويحملون رماحهم على ظهورهم.
تجلس الفتاة في العربة، مقيدة بالسلاسل الحديد حول رقبتها وذراعيها. تحدق بثبات في ضوء القمر. ويجلس إلى جانبها شخص يرتدي الأسود، راهب قلنسوته مسحوبة للأسفل فوق رأسه.
يونس: إلى أين أنتم ذاهبون؟
الجندي: إلى مكان الإعدام.
يونس: نعم، أستطيع أن أرى الآن. إنها الفتاة التي فعلتها مع الشخص الأسود. هل هي الساحرة؟
يومئ الجندي برأسه بفظاظة. يتبعه المسافرون مترددين. الفارس يقود فرسه إلى جانب العربة. تبدو الساحرة نصف واعية، لكنّ عينيها مفتوحتان باتساع.
الفارس: أرى أنهم أضروا بيديكِ.
يستدير وجه الساحرة الشاحب الطفولي نحو الفارس وتهز رأسها.
الفارس: لديّ جرعة سوف توقف ألمك.
تهز رأسها مرة أخرى.
يونس: لماذا تحرقونها في هذا الوقت من الليل؟ فالناس لديهم القليل جداً من اللهو هذه الأيام.
الجندي: القديسون يحفظوننا، هدوء! يقال إنها تجلب الشر إلى أي مكان تذهب إليه.
يونس: إذن أنتم ثمانية جنود شجعان.
الجندي: حسناً، لقد تم دفعنا. وهذا عمل تطوعي.
يتكلم الجندي بهمس بينما ينظر بقلق إلى الساحرة.
الفارس (للساحرة): ما اسمك؟
تيان: اسمي تيان، سيدي.
الفارس: كم عمرك؟
تيان: أربعة عشر عاماً سيدي.
الفارس: وهل صحيح أنك كنتِ في فريق الشيطان؟
تومئ تيان برأسها بهدوء وتنظر بعيداً. والآن يصلون إلى حدود الأبرشية. في سفح التلال القريبة يوجد تقاطع طرق. المحرقة قد جُهزت في مركز الغابة. يبقى المسافرون مترددين وفضوليين. يربط الجنود حصان العربة ويجلبون أعمدة خشبية طويلة. يدقون بالمسامير روافد عبر الأعمدة تشبه السلم. سوف تقيد تيان إلى هذا مثل سمكة تنشر لتجف.
صدى الدق يتردد عبر الغابة. يترجل الفارس ويمشي قريباً من العربة. مرة أخرى يحاول أن يمس عيني تيان ويلمسها برفق كأنه يوقظها. تدير وجهها ببطء نحوه.
الفارس: يقولون إنكِ كنت في فريق الشيطان.
تيان: لماذا تسأل؟
الفارس: بدافع الفضول، لكن لأسباب شخصية. أنا أريد أن أقابله أيضاً.
تيان: لماذا؟
الفارس: أريد أن أسأله عن الرب. يجب أن يعلم.
تيان: تستطيع أن تراه في أي وقت.
الفارس: كيف؟
تيان: يجب أن تفعل ما أقوله لك.
يمسك الفارس بالرافدة الخشبية للعربة بإحكام بحيث تبيضّ أصابعه. تميل تيان للأمام وتلتقي نظرته معه.
تيان: انظر إلى عينيّ.
الفارس ينظر في عينيها. يتبادلان النظرات لمدة طويلة.
تيان: ماذا ترى؟ هل تراه؟
الفارس: أرى الفزع في عينيك، خوف فارغ خدر. ولا شيء آخر.
يلفه الصمت. الجنود يعملون عند الأوتاد؛ ضربات مطارقهم يتردد صداها في الغابة.
تيان: لا أحد، كلا، لا أحد.
الفارس (يهزّ رأسه): كلا.
تيان: هل تستطيع أن تراه خلف ظهرك؟
الفارس (ينظر حوله): كلا، لا أحد هناك.
تيان: لكنه معي في كل مكان. عليّ فقط أن أمدّ يدي وأستطيع أن أشعر بيده. إنه معي الآن أيضاً. النار لن تؤذيني. سوف يحميني من كل شيء شرير.
الفارس: هل أخبركِ بذلك؟
تيان: أعرفه.
الفارس: هل قال لك؟
تيان: أعرفه، أعرفه. يجب أن تراه في مكان ما. يجب. الكهنة ليس لديهم صعوبة في رؤيته ولا الجنود. فهم خائفون منه ولا يجرؤون على لمسه.
يتوقف قرع المطارق. يقف الجنود مثل ظلال سود مغروسين في المستنقع. يتلمسون السلاسل ويسحبون النير الحديدي.
تئن تيان بوهن وكأنها كانت بعيدة.
الفارس: لماذا تسحقون يديها؟
الجندي: (بحزم) لم نفعل ذلك.
الفارس: منْ إذن؟
الجندي: اسأل الراهب.
يسحب الجنود النير والسلاسل. يتمايل رأس تيان الحليق ويومض في ضوء القمر. فمها المسودّ ينفتح كأنها تريد أن تصرخ، لكن لا صوت ينبعث. يأخذونها من العربة ويقودونها باتجاه السلم والوتد. يستدير الفارس إلى الراهب الذي يبقى جالساً في العربة.
الفارس: ماذا فعلت بالطفلة؟
يستدير الموت حوله وينظر إليه.
الموت: هلّا توقفتَ عن طرح الأسئلة؟
الفارس: كلا. لن أتوقف.
يقيّد الجنود تانيا في أوتاد السلم. تخضع لهم مستسلمة، وتئن بوهن مثل حيوان وتحاول أن تريح جسدها في المكان.
حين يثبتونها يمشون لكي يوقدوا المحرقة. يخطو الفارس ويميل عليها.
يونس: فكرتُ للحظة بأن أقتل الجنود، لكن لا فائدة، فهي ميتة مسبقاً.
يتقدم أحد الجنود. يتصاعد دخان كثيف من المحرقة وينتشر فوق الظلال الهادئة بالقرب من تقاطع الطرق والتل.
الجندي: لقد أخبرتك أن تكون حذراً. لا تقترب منها.
لا يبالي الفارس بهذا التحذير. يضم كفيه، ويملؤهما بالماء من القربة ثم يعطي جرعة إلى تانيا.
الفارس: خذي هذه وسوف يتوقف الألم.
تتجمع سحب الدخان فوقهم ويبدؤون يسعلون. يخطو الجنود للأمام ويرفعون السلّم بالقرب من شجرة الزان. تُعلّق تيان هناك بلا حركة وعيناها مفتوحتان باتساع.
ينهض الفارس ويقف ساكناً. يونس خلفه. صوته مختنق تقريباً بسبب الغضب.
يونس: ماذا ترى؟ هل تستطيع أن تخبرني؟
الفارس (يهز رأسه): لم تعد تشعر بالألم بعد الآن.
يونس: لم تجب على سؤالي. من يراقب تلك الطفلة، الرب أم الملائكة أم الشيطان، أم الفراغ فقط؟ الفراغ، سيدي!
الفارس: لا يمكن أن يكون.
يونس: انظر إلى عينيها، سيدي. إن دماغها المسكين يكتشف تواً الفراغ تحت القمر.
الفارس: كلا.
يونس: نقف عاجزين، أذرعنا معلقة على جوانبنا، لأننا نرى ما تراه، ورعبنا ورعبها هو نفسه. (منفجراً) تلك الطفلة المسكينة. لا أستطيع أن أتحمل، لا أستطيع..
صوته يلتصق بحنجرته وفجأة يمشي مبتعداً. يركب الفارس حصانه. يغادر المسافرون تقاطع الطرق.
تغلق تيان عينيها. الغابة الآن مظلمة. والطريق يدور بين الأشجار. العربة تصلصل فوق الأحجار والجذور. يغرّد طائر فجأة. يرفع يوف رأسه ويستيقظ. لقد نام وذراعاه حول كتفيْ ميا. وكان ظل الفارس ينعكس بحدة إزاء جذوع الأشجار. صمته يجعله يبدو غير حقيقي. يونس و”بلوغ” ثملان قليلاً ويسند أحدهما الآخر. كان على “بلوغ” أن يجلس فجأة. يضع يديه فوق وجهه ويئن بشكل يرثى له.
بلوغ: الآن ظهرت لي مرة أخرى!
يونس: لا تصرخ. من التي ظهرت لك؟
بلوغ: زوجتي. إنها غاية في الجمال. جميلة جداً بحيث لا يمكن وصفها دون مصاحبة القيثارة.
يونس: والآن بدأتَ من جديد.
بلوغ: ابتسامتها مثل مذاق البراندي. وعيناها مثل حبتي توت..
يبحث “بلوغ” عن كلمات جميلة. يومئ متحسساً بيديه الكبيرتين.
يونس (يتنهد): انهض، أنت أيها الخنزير. سوف تفقد الآخرين.
بلوغ: نعم بالتأكيد. أنفها مثل بطاطة وردية صغيرة؛ مؤخرتها مثل أجاصة مثمرة، المرأة بأكملها مثل حقل فراولة. أستطيع أن أراها أمامي، بذراعين مثل خيار مدهش.
يونس: يا للقديسين العظماء، قف! إنك شاعر رديء جداً، على الرغم من حقيقة أنك ثمل، وحديقة خضرواتك تضجرني.
يسيرون عبر المرج المفتوح. وهنا الجو أكثر إشراقاً والقمر يومض وراء سماء رقيقة. وفجأة يشير “بلوغ” بأصبع كبير إلى حافة الغابة.
بلوغ: انظروا هناك.
يونس: هل ترى شيئاً؟
بلوغ: هناك، هناك!
يونس: لا أرى شيئاً.
بلوغ: تتمسك بشيء ما، يا أصدقائي. الساعة قريبة! من تلك التي عند حافة الغابة سوى حبيبتي العزيزة يرافقها الممثل؟
العاشقان يكتشفان “بلوغ” وكان الأوان قد فات. فهما لا يستطيعان أن ينسحبا. ينقلب سكات فجأة على عقبيه. “بلوغ” يتعقبه، وهو يؤرجح مطرقته ويجأر مثل خنزير. وبعد لحظات مربكة يتعثر المتنافسان بين الصخور والشجيرات في العتمة الرمادية للغابة. يبدأ الرجلان في النظر بلا وعي لأنّ كليهما خائف.
يراقب المسافرون بصمت ما يحدث من تشوش. تصرخ ليزا أحياناً بداعي الواجب وليس الحافز.
سكات (يلهث): أنت أيها النغل ذو الرأس المنزوع المولود من سبع عاهرات وضيعات، لو كنت في أسمالك المقملة سوف أصاب بالعار الأبدي بسبب نفسي وصوتي وذراعيّ وساقيّ، وباختصار، جسدي كله لأطرد الطبيعة من ذاتي المرتبكة.
بلوغ (غاضباً): احذر أيها الممثل القذر أن أطلق ريحي عليك، وسوف أنفخك حالاً إلى الجحيم الحار الأحمر، إذ تستطيع أن تجلس وتروي مونولوجات إلى الشيطان حتى يخرج الغبار من أذنه.
ثم تلقي ليزا نفسها حول رقبة زوجها.
ليزا: اغفر لي، زوجي العزيز. لن أكررها ثانية، أنا آسفة جداً ولك أن تتصور كيف خدعني بشدة ذلك الرجل هناك.
بلوغ: سوف أقتله على أية حال.
ليزا: نعم اقتله. إنه ليس بشراً.
يونس: يا للجحيم، إنه ممثل.
ليزا: إنه مجرد لحية، وأسنان وابتسامات مزيفة يرتجل الأبيات وهو فارغ مثل وعاء. اقتله.
ليزا تنتحب بسبب الحماس والحزن. ينظر “بلوغ” حوله، مضطرباً قليلاً.
ينتهز سكات الفرصة. يسحب خنجراً ويضعه أمام صدره.
سكات: إنها على حق. اقتلني. إذا اعتقدت بأني قادم على الاعتذار فإنك على خطأ.
ليزا: انظر كم هو مريض. وكيف يجعل من نفسه أحمق، وكيف يتصرف بطريقة زائفة. اقتله عزيزي “بلوغ”.
سكات: أصدقائي، عليكم أن تدفعوا وسوف تتحول لا حقيقتي حالاً إلى حقيقة جديدة صلبة. جثة حقيقية تماماً.
ليزا: افعل شيئاً إذن. اقتله.
بلوغ (مرتبكاً): عليه أن يقاتلني وإلا فلن أقتله.
سكات: خيط حياتك الآن معلق بقطعة ممزقة. أحمق سيكون يومك قصيراً.
بلوغ: عليك أن تغيظني أكثر لتجعلني غاضباً كما من قبل.
ينظر سكات إلى المسافرين بتعبير مؤلم ثم يرفع عينيه نحو السماء المظلمة.
سكات: أغفرُ كل ما بدر منك. ادعُ لي.
يطعن سكات صدره بالخنجر و يهوي إلى الأرض ببطء. يقف المسافرون مضطربين. يندفع “بلوغ” للأمام ويبدأ بجذب يدي سكات.
بلوغ: آه، عزيزي. لم أقصد أن تهلك بتلك الطريقة! لا حياة فيه. بدأت أحبّهُ، وفي رأيي أن ليزا كانت حاقدة جداً.
ينحني يوف فوق زميله.
يوف: إنه ميت تماماً. في الحقيقة لم أر من قبل ممثلاً ميتاً.
ليزا: هيا نذهب. لا يحتاج لنقيم له الحداد. فعليه أن يلوم نفسه فقط.
بلوغ: وعليّ أن أظلّ متزوجاً بها.
يونس: يجب أن نستمر.
سكات يستلقي في العشب والخنجر مغروز عميقاً في صدره. يغادر المسافرون وسرعان ما يختفون داخل الغابة المظلمة على الجانب الآخر من المرج. حين يكون سكات متأكداً من أن لا أحد يراه، ينهض ويرفع الخنجر من صدره. إنه خنجر مزيف وشفرته تدفع داخل المقبض. يضحك سكات مع نفسه.
سكات: كان هذا مشهداً جيداً الآن. فأنا حقاً ممثل ماهر. مع ذلك لماذا لا أكون مسروراً في نفسي؟ لكن أين أذهب؟ سوف أنتظر حتى ينكشف النهار ثم سوف اتخذ الطريق الأسهل خارج الغابة. سوف أتسلق شجرة لكي أتجنب الدببة والذئاب أو الأشباح.
سرعان ما يعثر على شجرة ويتسلق وصولاً إلى أوراقها السميكة. يجلس مرتاحاً ما أمكن ويمد يده إلى حقيبة طعامه.
سكات (يتثاءب): غداً سأعثر على يوف وميا ثم سأذهب إلى وليمة القديسين في السينور. سوف نحصل على الكثير من المال هناك. (يتثاءب). والآن سوف أغني أغنية صغيرة لنفسي. (يغني): أنا طير صغير يغني ما يريد، وحين أكون في خطر أُطلق زغاريد كثيرة. (يتكلم) من المضجر البقاء وحيداً في الغابة الليلة. (يغني) الليلة المفزعة لا تخيفني..
يقطع أغنيته ويصغي. يسمع صوت قطع خشب مستمر من خلال الصمت.
سكات: عمال في الغابة. آه، حسناً! (يغني) الليلة المفزعة لا تخيفني.. (يتكلم) أنتم، ماذا تفعلون بحق الشيطان.. إنها شجرتي التي تقطعونها.
ينظر من خلال الأوراق. فيرى أسفله شكلاً أسود واقفاً وهو منهمك في قطع الشجرة بالمنشار من أسفلها. يصبح سكات خائفاً وغاضباً.
سكات: أنت! هل تسمعني أيها النذل المحتال؟ ماذا تفعل بشجرتي؟
يستمر قطع الأشجار دون توقف. يصبح سكات أكثر خوفاً.
سكات: ألا تستطيع في الأقل الإجابة؟ الأدب لا يكلف سوى القليل؟ من أنت؟
الموت يستقيم جذعه وينظر إليه. يصيح سكات برعب.
الموت: أنا أقطع شجرتك لأن أجلك حان الآن.
سكات: لم يحن. ليس لديَّ أجل.
الموت: إذن ليس لديك أجل.
سكات: كلا، لديّ تمثيل.
الموت: لقد أُلغي بسبب الموت.
سكات: وعقدي؟
الموت: لقد أُلغي عقدك.
سكات: أطفالي وعائلتي.
الموت: العار لك يا سكات!
سكات: نعم أنا أشعر بالعار.
الموت يبدأ بالقطع مرة ثانية.
الشجرة تصرّ.
سكات: هل ثمة طريقة للخلاص؟ هل هناك أي قوانين خاصة بالممثلين؟
الموت: كلا، ليس في هذه الحالة.
سكات: لا منفذ ولا آمال؟
الموت يقطع.
سكات: النجدة!
الموت يقطع.
سكات: النجدة! النجدة!
تسقط الشجرة.
يعم الصمت في الغابة ثانية.
يحل الليل ثم الفجر.
توصل المسافرون إلى نوع من التسوية وانهاروا على العشب. يستلقون بهدوء ويستمعون إلى أنفاسهم ودقات قلوبهم والريح في أعالي الشجر. هنا الغابة برية ولا يمكن سبرها. ثمة حصى ضخم يلتصق بالأرض مثل رؤوس العمالقة السود. تستلقي شجرة ساقطة مثل حاجز ضخم بين الضوء والظل.
ميا ويوف وطفلهما يجلسون متفرقين عن الآخرين. ويبدون في ضوء القمر، الذي لم يعد بدراً وراح يذوي لكنه غامض وغير مستقر. يجلس الفارس منحنياً فوق رقعة الشطرنج. ليزا تبكي بهدوء وراء ظهر “بلوغ”. يونس يستلقي على الأرض ويتطلع إلى السماء.
يونس: سرعان ما سيهبط الفجر. لكن الحرارة ستستمر معلقة فوقنا مثل وقاء خانق.
ليزا: إنا خائفة جداً.
بلوغ: نشعر بأن شيئاً ما سيحدث، لكن لا نعرف ما هو.
يونس: ربما هو يوم الحساب.
بلوغ: يوم الحساب؟
الآن يتحرك شيء ما وراء الشجرة الساقطة. ثمة صرير وغمغمة تبدو آتية من حيوان جريح. الجميع يصغون بانتباه، كل الوجوه انتبهت للصوت القادم من الظلام.
رافال: هل لديكم ماء؟
وسرعان ما يصبح وجه رافال العرقان مرئياً. يختفي في الظلام لكن صوته يُسمَع مرة أخرى.
رافال: هل لكم أن تعطوني قليلاً من الماء؟ (وقفة) أنا مصاب بالطاعون.
يونس: لا تأتِ هنا. إذا ما اقتربت سوف أقطع رقبتك. ابق في الجانب الآخر من الشجرة.
رافال: أنا خائف من الموت.
لا أحد يجيب. ثمة صمت تام. يتنفس رافال بصعوبة.
حفيف الأوراق يتساوق مع حركاته.
رافال: لا أريد أن أموت! لا أريد!
لا أحد يجيب. يظهر وجه رافال فجأة عند أسفل الشجرة.
تتسع عيناه وفمه مليء بالزبد.
رافال: ألا تشعرون بالعطف عليّ؟ ساعدوني! في الأقل تكلموا معي.
لا أحد يجيب. الأشجار تغمغم. يبدأ رافال بالبكاء.
رافال: سوف أموت! ما الذي سيحدث لي! ألا من أحد يقدم لي العزاء؟ ألا تمتلكون الشفقة؟ ألا ترون أنني..
تختنق الكلمات بصوت غرغرة. يختفي في الظلام وراء الشجرة الساقطة. يعم الهدوء للحظات.
رافال (يهمس): ألا يستطيع أحدكم أن يمنحني ماءً؟
تنهض الفتاة فجأة بحركة سريعة، تلتقط قربة يونس وتركض بضع خطوات. يمسكها يونس ويمنعها بشكل سريع.
يونس: لا فائدة. أعرف أن لا فائدة. إنه أمر بلا معنى. ألا تسمعين أني أواسيك؟
رافال: النجدة! النجدة!
لا أحد يجيب أو يتحرك. تنهدات رافال جافة ومتشنجة مثل طفل خائف. تنقطع صرخته فجأة في المنتصف. ثم يصبح صامتاً.
تنهار الفتاة وتغطي وجهها بيديها. يونس يضع يده على كتفها.
لم يعد الفارس وحيداً. يأتي الموت له ويرفع يده.
الموت: ألا نلعب لعبتنا حتى النهاية؟
الفارس: لك النقلة!
يرفع الموت يده ويضرب قطعة “وزير” الفارس.
أنطونيوس بلوك ينظر إلى الموت.
الموت: ها أنا قتلت وزيرك.
الفارس: لم ألحظ ذلك.
يميل الفارس فوق الرقعة. يتحرك ضوء القمر على قطع الشطرنج، التي تبدو وقد مُنحت الحياة الخاصة بها.
ينام يوف لبضع لحظات وفجأة يستيقظ. ثم يرى الفارس والموت معاً. يصبح خائفا جداً ويوقظ ميا.
يوف: ميا!
ميا: نعم، ما الأمر؟
يوف: رأيت شيئاً مرعباً. إنه شيءٌ لا أستطيع التكلم عنه.
ميا: ماذا رأيت؟
يوف: الفارس جالس هناك يلعب الشطرنج.
ميا: نعم، بمقدوري أن أراه أيضًا ولا اعتقد أن الأمر مرعب.
يوف: لكن، هل ترين مع من يلعب؟
ميا: إنه وحده. لا يجب أن تخيفني بهذه الطريقة.
يوف: كلا، إنه ليس وحده.
ميا: مع مَنْ إذن؟
يوف: الموت. إنه يجلس هناك يلعب الشطرنج مع الموت نفسه.
يوف: يجب أن نجرّب الهرب.
ميا: لا يمكننا أن نفعل ذلك.
يوف: يجب أن نجرّب. إنهما مشغولان جداً بلعبتهما بحيث أننا لو تحركنا بهدوء فلن يلاحظانا.
ينهض يوف بحذر ويختفي في الظلام وراء الأشجار.
تبقى ميا واقفة، كأنها مشلولة بسبب الخوف. تحدّق بثبات إلى الفارس ولعبة الشطرنج. تحمل ابنها في ذراعيها. الآن يعود يوف.
يوف: لقد ربطت الفرس. العربة واقفة بالقرب من الشجرة الكبيرة. أنتِ تذهبين أولاً وسوف أتبعكِ بالأمتعة. احذري أن لا يستيقظ مايكل.
تنفذ ميا ما قال لها يوف. في الوقت نفسه، يتطلع الفارس من مكان لعبته.
الموت: لك النقلة، أنطونيوس بلوك.
يبقى الفارس صامتاً. يرى ميا تذهب عبر ضوء القمر باتجاه العربة. يوف ينحني ليلتقط الأمتعة ويتبعها من بعيد.
الموت: هل فقدت اهتمامك باللعبة؟
تصبح عينا الفارس مرتعبتين. ينظر الموت له بانتباه.
الفارس: فقدت اهتمامي؟ بالعكس.
الموت: أراك قلقاً. هل تخفي شيئاً؟
الفارس: لا شيء يفلت منك، أليس كذلك؟
الموت: لا شيء يفلت مني. لا أحد يهرب مني.
الفارس: حقاً إني قلق.
يتظاهر بكونه أخرق ويضرب قطع الشطرنج بحاشية معطفه. يتطلع إلى الموت.
الفارس: نسيت وضعية القطع سابقاً.
الموت (يضحك مبتهجاً): لكني لا أنسى. لا تستطيع أن تهرب من ذلك بسهولة.
يميل الموت فوق الرقعة ويعيد ترتيب القطع. ينظر الفارس نحو الطريق. كانت ميا قد ركبت في العربة تواً. يأخذ يوف الحصان من عنانه ويقوده إلى الطريق. لا يلاحظ الموت أي شيء؛ فهو مشغول تماماً بإعادة ترتيب اللعبة.
الموت: والآن أرى شيئاً مثيراً للاهتمام.
الفارس: ماذا ترى؟
الموت: أنك ستهزم في النقلة التالية يا أنطونيوس بلوك.
الفارس: ذلك صحيح.
الموت: هل تمتعت بفترة إرجاء تنفيذ الحكم عليك؟
الفارس: نعم.
الموت: أنا سعيد بسماع ذلك. الآن سوف أغادرك. حين نلتقي ثانية يكون أجلك وأجل جماعتك قد انتهى.
الفارس: وسوف تفشي أسرارك.
الموت: ليس لديَّ أسرار.
الفارس: فإذن أنت لا تعرف شيئاً.
الموت: ليس لديّ شيء لأقوله.
يريد الفارس أن يكلمه، لكن الموت مضى. غمغمة تُسمع من قمة الشجرة. ينبلج الفجر، ضوء وامض دون حياة، تبدو الغابة مهدِّدة وشريرة. يسوق يوف فوق الطريق المتعرج. تجلس ميا بجانبه.
ميا: يا لها من ليلة غريبة.
يوف: أظن أن العاصفة الرعدية تأتي مع الفجر.
ميا: كلا. إنه شيء آخر. شيء مروّع. هل تسمع الهدير في الغابة؟
يوف: من المحتمل أن تمطر.
ميا: كلا، لن تمطر. لقد شاهدَنا، وهو يتبعنا. سوف يدركنا؛ إنه قادم نحونا.
يوف: لن يدركنا على أية حال.
ميا: أنا خائفة جداً.
تصرّ العربة فوق الجذور والصخور وتتمايل وتقعقع.
والآن يتوقف الحصان ويرخي أذنيه فوق رأسه. تتنهد الغابة وتتحرك بشكل رتيب.
يوف: ميا، ادخلي في العربة. ازحفي بسرعة. سوف نستلقي مع مايكل بيننا.
يزحفان داخل العربة ويجثمان حول الطفل النائم.
يوف: إنه ملاك الموت الذي مرّ بنا يا ميا. إنه ملاك الموت. فهو كبير جداً.
ميا: هل تشعر كم الجو بارد؟ إني أتجمد من البرد.
ترتجف كأنها في حمى. يجذبان البطانيات فوقهما ويستلقيان معاً. وقاء العربة يهفهف ويضرب في الريح. الهدير في الخارج مثل عملاق يجأر. ينعكس ظل القلعة مثل حجارة سوداء إزاء الفجر الثقيل. الآن تتحرك العاصفة هناك، وهي تضرب بقوة الجدران والدعامات.
السماء تظلمُ مثل الليل تقريباً.
يجلب أنطونيوس بلوك جماعته معه إلى القلعة. لكنها تبدو مهجورة. يسيرون من غرفة إلى أخرى. لا يوجد سوى الفراغ والأصداء الهادئة. المطر يُسمع في الخارج وهو يهدر صاخباً.
فجأة يقف الفارس وجهاً لوجه أمام زوجته. ويتبادلان النظرات بهدوء.
كارين: سمعت من الناس الذين عادوا من الحملة الصليبية أنك كنت في طريقك للوطن. لقد كنت في انتظارك هنا. الجميع هربوا من الطاعون.
الفارس صامت. ينظر إليها.
كارين: ألم تعد تتعرف عليّ؟
الفارس يومئ برأسه صامتاً.
كارين: أنت أيضاً تغيرت.
تمشي قربه وتنظر بدقة في وجهه. الابتسامة تتلبث في عينيها وتمس يدها بخفة.
كارين: الآن أنا متأكدة منك. في مكان ما من عينيك ووجهك مع إنه مخفي ومخيف، ذلك الصبي الذي رحل بعيداً قبل سنين عديدة.
الفارس: انتهى الأمر الآن وأنا مرهق قليلاً.
كارين: أرى أنك مرهق.
الفارس: هناك يقف أصدقائي.
كارين: اسألهم. سوف يكسرون الصيام معنا. إنهم يجلسون عند المائدة في الغرفة التي تُضاء بالمشاعل على الجدران. يأكلون بصمت الخبز اليابس واللحم المحفوظ بالملح.
تجلس كارين في مقدمة المنضدة وتقرأ عالياً من كتاب سميك.
كارين: “ولما فكّ الحَمَل الختم السابع، ساد السماء سكوتٌ نحو نصف ساعة. ورأيتُ الملائكة السبعة الواقفين أمام الرب؛ وقد أُعطوا سبعة أبواق. ثم جاء آخر…”.
صوت ثلاث ضربات قوية على البوابة الكبيرة. تقطع كارين قراءتها وتتطلع من فوق الكتاب. ينهض يونس بسرعة ويذهب لكي يفتح الباب.
كارين: “ولما نفخ الملاك الأول في بوقه، إذا بردٌ ونارٌ يخالطهما الدم يسقطان إلى الأرض، فاحترق ثلث الأرض وثلث الأشجار مع كل عشب أخضر”.
الآن أصبح المطر هادئاً. وهناك حلّ فجأة صمت مخيف واسع في الغرفة الكبيرة المظلمة إذ تلقي المشاعل المحترقة ظلالاً على السقف والجدران. الكل يصغي بانتباه إلى السكون.
كارين: “ولما نفخ الملاك الثاني في بوقه، أُلقي في البحر ما يشبه جبلاً عظيماً مشتعلاً، فصار ثلث البحر دماً…”.
تُسمع خطوات على السلّم. يرجع يونس ويجلس بصمت في مكانه لكنه لا يستمر بالأكل.
الفارس: هل هناك أحد؟
يونس: كلا، سيدي. لا أرى أحداً.
ترفع كارين رأسها للحظة لكنها تميل مرة أخرى على الكتاب الكبير.
كارين: “ثم نفخ الملاك الثالث في بوقه، فهوى من السماء نجمٌ عظيم كأنه شعلة من نار، وسقط على ثُلُث الأنهار وينابيع المياه؛ واسم هذا النجم العلقم”.
يرفع الجميع رؤوسهم ويرون الآتي نحوهم من خلال الغروب في الغرفة الكبيرة، ينهضون من المنضدة ويقفون صفاً واحداً.
الفارس: صباح الخير سيدي النبيل.
كارين: أنا كارين زوجة الفارس ومرحبا بك في بيتي.
بلوغ: أنا مهنتي الحدادة وجيد نوعاً ما في تجارتي. زوجتي ليزا، انحني احتراماً للسيد الكبير يا ليزا. إنها أحياناً صعبة المعاملة قليلاً ولدينا مشاحنة صغيرة، لو جاز التعبير، لكن لسنا أسوأ من أغلب الناس.
يخفي الفارس وجهه في يديه.
الفارس: من ظلامنا ندعوك يا إلهي. ارحمنا لأننا صغار وخائفون وجهلة.
يونس (بمرارة): في الظلام الذي يُفترض أن توجد فيه، وحيث من المحتمل أن نكون فيه.. في الظلام لن تجد أحدا يستمع إلى صرخاتك أو يتأثر بمعاناتك. اغسل دموعك وانظر لنفسك في مرآة لا مبالاتك.
الفارس: أيها الرب الذي في مكان ما، الذي لا بدّ من أن يوجد في مكان ما، ارحمنا.
يونس: يمكن أن أعطيك عشباً لتطهّر نفسك من قلقك حول الخلود. لكن الوقت متأخر الآن. على أي حال حاول أن تحسّ بالانتصار في هذه اللحظة الأخيرة إذ تستطيع أن تدوّر عينيك وتحرك قدميك.
كارين: هدوء، هدوء.
يونس: سوف أصمت، لكن احتجاجاً.
الفتاة (تجثم): إنها النهاية.
يوف وميا يجلسان متقاربَيْن ويصغيان إلى المطر وهو يدق بخفة على وقاء العربة، صوت يختفي حتى تكون هناك قطرات مفردة فقط.
يزحفان خارج مكان اختفائهما. العربة تقف في أعلى منحدر، محمية بشجرة ضخمة. ينظران عبر الأخاديد والغابات والسهول الواسعة والبحر الذي يتلألأ في ضوء الشمس المنكسر عبر الغيوم.
يمد يوف ذراعيه وساقيه. تجفف ميا مقعد العربة وتجلس بالقرب من زوجها. يزحف مايكل بين ركبتي يوف. طير وحيد يجرّب صوته بعد العاصفة. الأشجار والأكمات تقطر. تأتي من البحر ريح قوية محملة بالعبير.
يشير يوف إلى السماء المظلمة المنسحبة إذ يومض برق الصيف مثل إبر الفضة فوق الأفق.
يوف: رأيتهم يا ميا. رأيتهم! هناك فوق، إزاء السماء العاصفة المعتمة. كلهم هناك. الحدّاد وليزا والفارس ورافال ويونس وسكات، والموت، السيد الشديد، يدعوهم إلى الرقص. يخبرهم بإمساك الواحد بيد الآخر ثم يجبرهم على أن يطؤوا الأرض ويرقصوا في صفّ طويل. في بدايته يمضي السيد بمنجله وساعته الرملية، لكن سكات يتمايل في النهاية بقيثارته. إنهم يرقصون منذ الفجر، وإنها لرقصة هادئة نحو الأراضي المظلمة، بينما المطر يغسل وجوههم وينظف ملح الدموع عن خدودهم.
إنه صامت. يخفض يده. ابنه مايكل يصغي إلى كلماته. والآن يزحف نحو ميا ويجلس في حضنها.
ميا (مبتسمة): أنت تظل في رؤاك وأحلامك.
انتهى
تمت ترجمة السيناريو من كتاب:
Four screenplays of Ingmar Bergman
Clarion Book Published By SIMON AND SCHUSTER