• English
  • 4 نوفمبر، 2024
  • 5:11 ص

أحلام العصر وصراع الأزمنة

أحلام العصر وصراع الأزمنة

12 August، 2024

يزيد السنيد

علينا أن نعترف بداية بأن النقد فضلًا عن كونه ضروبًا عدة، فهو يمر منذ بداية القرن العشرين تقريبًا بأزمةً لا مناص منها، ليس النقد الفني فحسب؛ إذ إن هذا النوع من النقد لطالما كان إشكاليًّا، بل نحن بصدد مفهوم النقد عامةً، فلم يعد العلم التجريبي أداة لتصدير المطلقات، والفلسفة بوصفها عِلمًا كليًا انقضى زمانها، والفن منذ قديم الزمان وهو يجاهد جوار الحقيقة المطلقة؛ حتى يجد لهُ كرسيًا في الأبدية، أو عرشًا لاتاريخيًّا على غرار حقائق المـُثل وغيرها، لا أدلَّ على ذلك من تلك القائمة الطويلة بالميتات، حتى صار الإنسان الحديث في حالةٍ مستمرة من الحداد والتأبين: مات الفن، مات المؤلف، ماتت الفلسفة، مات الإنسان، وغير ذلك من الميتات التي تعني بشكل ما استحالة قيام نقدٍ مطلق. ذلك النقد الذي يرتكن إلى قواعد متعالية لتقييم الأعمال الإبداعية، هذه المقدمة تُريد أن تقول شيئًا في غاية البساطة، وهو أن قوانين اللعبة تغيرت، فهل نحن مستعدون لذلك؟

لا أذكر اللعبة هنا عبثًا، بل لهذه المفردة دلالات مهمة تُعيننا على فهم آخر ما يمكن للنقد فعله، وأعني الاعتقاد بأن لكل عمل فني قوانينه المستقلة بذاته، كما أن لعبة البلياردو لها قوانينها، ودون هذه القوانين لن تكون اللعبة لعبة. الفن في كل ضروبه هو لعبة الإنسان الأزلية عندما التصق بالأرض، وصار شجرةً متحركةً!

 السينما هي أحد الفنون، والفن مهما استقل وارتفع، يظل وثيقة عصرٍ ما، أو وثيقة لعصرٍ يشبه أحلام العصر. مع ذلك لستُ من أنصار نظرية الانعكاس كما في نسختها الماركسية؛ لأن هذه النظرية تزعم واقعها وتفرضه على العمل، ومن ثم تقوم بتقييمه.

 مع ذلك فإن الفن يعكس أحلام عصرٍ بكامله، ونحن اليوم لا نستطيع الحديث عن انعكاس لمجتمع ما، وكأنه في معزلٍ عن العالم؛ لأن المجتمعات تداخلت في زمن العولمة وما بعد العولمة، وصرنا إمبراطورية واحدة، وهذه الإمبراطورية هي- كما سوف أزعم في هذه المقالة- بأنها أحلام العصر، أو هذا ما يليق بتسميتها، دون السقوط في أي حكم أخلاقي، بل نحن معنيون بالوصف والتوصيف، أما التقييم فهو مسألة تعتمد بدرجةٍ كبيرة على ملكة الذوق، وفي ملكوتها تموت الكثير من الأشياء، من أهمها الناقد. نعم نحن في عصر موت الناقد.

صراع الأجيال

أحلام العصر وصراع الأزمنة

هناك صراع أجيال في كل العصور، كما أن لعصرنا هذا صراعه الخاص به، ونحن علينا أن نفهم اللعبة حتى نلج أرض المعركة مسلحين، أو ننضم بسلام للأجيال القادمة، ليس بين حقبةٍ وأخرى تفاضل وتمايز إلا باعتبار غائية مطلقة تحكم هذا التاريخ؛ وعليه نجد في توصيف هذه اللعبة أفضل ما يمكن فعله من أجل صناعة فنية وسينمائية أكثر خصوبةً وجرأة.

لنبدأ من البعد الاقتصادي، كان هناك جيل حين يسعى للثرا،ء يلجأ لكرة القدم، فنحن لا نتحدث فقط عن ثراء مادي، بل امتيازات عدة تأتي مع هذه المهنة، ولكن الأهم هو أن تحقيق الرضا المادي يقوم منذ الأزل على مبدأ بسيط “زيادة في العمل، زيادة في الدخل”، لذلك كانوا يعملون بجهد لا نظير له، بل وفوق ذلك بعضهم يلجأ للدخل الإضافي من خلال أعمال جانبية خارج ساعات العمل، هذه الوضعية تبدو لي توصيفًا مناسبًا لشخصية صمدو (صهيب قدس)، محترف كرة قدم يعاني من ماضيه، كما أنه يعاني من آلام الفقد لموت زوجته، مدمن على الكحول، وهو قرار لاواعٍ يشير إلى تعطل هذا الجسد عن مشاركته في لعبة العالم، أو لعبة العصر الحديث.

 هنا يأتي الصراع الأول داخل الحبكة بين الأب وابنته، بين صمدو وأحلام (نجم)، حيث تريد هذه الأخيرة مشاركة الحُلم العصري بأدواته، تريد الشهرة وما يأتي تباعًا لها. الشهرة لفظ متغير، أن تكون مشهورًا يعني أنك مشهورٌ بشيءٍ ما، وفي عصرنا هذا صارت كلمة “شيء” في غاية الاتساع، ولا جدال في ذلك.

“صمدو” اللاعب المعتزل لن يقتنع بذلك بدايةً، وطول مسيرة الفيلم يَظهر لنا أنه يفعل ما يفعله من أجل ابنته فحسب، إلا أن الحاصل هو مشاركة هذه الأسرة في لعبة المشاهير، ومن ثم تبدأ حفلة الحبكة تنسدل علينا تباعًا، نشاهد شخصيات بماضي معقد، وشخصيات صنمية تُضيف لمسةً سحرية للمشهد، هنا ينكشف لنا أن البعد الاقتصادي لم يكن كما هو عليه الأمر سابقًا، فالقوانين تبدَّلت، وكل ما عليك هو أن تضع عدسة أمامك وتبدأ الرحلة. الفن هنا، وهو في هذه الحالة فيلم “أحلام العصر” يقول لنا بصريح العبارة إن العملية الإبداعية لم تعد مجدية، أو أن مفهوم الإبداع تغير كثيرًا عما هو عليه في السابق.

 نحن نتحدث عن عصرٍ فيه السينما، ودخل أحد المشاهير الذي يصور من داخل بيته على عتبة المساواة. كما أن الذي يكتب سيناريو لخلق عالمًا بذاته، أو يكتب روايةً ما وغير ذلك، لا ينال شيئًا منها، بل ومحكومٌ عليه بالفقر. الكاتب الدعائي يستفيد أكثر بكثير من العالم والفنان، هذه هي قوانين عصرنا، وهذه هي أحلامه. كذلك ثمة بعدٌ مهمٌّ يتَّصل بعملية الإخراج أو الشكل الذي وضع فيه هذا المضمون.

 شخصيًّا فيلم “أحلام العصر” ذكرني بالفيلم الرائع “Amelie” من حيث تكوين الصورة وحركة الكاميرا، وكذلك من جهة الفتاة التي تُخاطب جمهورها، هذا الأسلوب في الإخراج يُحيلني مباشرة إلى استثمار مقولات عريقة في أدبيات الفن والفلسفة، وأعني خدعة الصورة أو المصطنع إذا استخدمنا لفظ بودريار.

 كتبت سونتاغ كتابًا حول الصورة وكيف تخدعنا، وتحدث بازان عن الوضعية السلبية عند لقاء المتفرج للصورة، والمصطنع هو نسخة بلا أصل مرجعي أو هو عالمٌ لا يحيل إلى العالم الفعلي. وهذا هو عالم أحلام في الفيلم، أنه من جهة اسمها، فهي على علاقة قوية بمفهوم الأحلام، ومن جهة أخرى هي قائدة الأب نحو معركة أحلام العصر، وهي أخيرًا الحالمة. ومن ثم فهي مَن تصنع عوالم لا وجود لها في الحقيقة، وأعني غرفتها، حيث تقوم هناك بتصوير عالم أحلام في مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن بقية البيت لا يعدُّ مرجعًا لهذا العالم. هذه حيلة ذكية تصنعها الصورة، وهي قوة هائلة على توليد هالة المشاهير، أي تلك الهالة التي تجعل شهرتهم ممكنة. فمثلًا لو صور أحدهم كلَّ لحظات ضحكه الهستيري، لقال الناس عنه كم هو شخص لطيف وكثير الضحك! ما بين النصِّ (المقطع) والمتلقِّي نوعٌ عجيب من المونتاج التخيلي، وهو موضوع يطول الحديث فيه.

 على كلٍ وصل لي حُلمية الفيلم، وأحلام أحلام ذاتها، كما وصلتني هذه اللفتة الذكية فيما يخص العوالم المصطنعة، والتي يجب على المتلقي أن يكون حذرًا في التعاطي معها، رغم يقيني بأن المصطنع السحري، إذا كان يجعل الفرد أكثر سعادة، جائز. فالحقيقة هي ما يجعلنا سعداء، وليست شيئًا أخر.

إن هذا الانزياح في قوانين العالم الاقتصادية والاجتماعية، وما يكون بين الأجيال من صخب وعنف، هو دون شك أحلام العصر، ونحن في زمن نجد أنفسنا في أمسِّ الحاجة للأحلام؛ فالعالم بحاجة إلى كثيرٍ من السحر.

الفن في فيلم “أحلام العصر”، يقول لنا بصريح العبارة إن العملية الإبداعية لم تعد مجدية، وأن مفهوم الإبداع تغير عما هو عليه في السابق.

فيلم “أحلام العصر” ذكرني بالفيلم الرائع “Amelie ” من حيث تكوين الصورة وحركة الكاميرا، وكذلك من جهة الفتاة التي تُخاطب جمهورها.

المعجم الأخلاقي

كما استثمرنا البعد الاقتصادي ومعضلة المصطنع وكذلك تراتبية القيمة الإبداعية ودرجتها في زمننا هذا، أجد نفسي مضطرًا للكشف عن البعد الأخلاقي كما تم عرضه، والأخلاق هنا لا تعني سلوك الإنسان الفاضل من عدمه، بل تعني معجم من القيم يُسقطها الإنسان على العالم وعلى الآخرين، ويتصل ذلك أيضًا بسلوكيات الإنسان، وكيف يُريد استعراض ذاته في الفضاء العمومي.

 الشخصيات داخل الفيلم ليست محكومة تمامًا بطبقتها الاقتصادية، إذا فهمنا أن الاقتصاد هو ما يشكل ثقافة الفرد، ما بين صمدو وأحلام فرقٌ قيمي ليس باليسير، وهو ما استعرضناه فيما يسمى صراع الأجيال؛ لذلك لا يمكن في هذا المقام عرض علل تأثر الأفراد وكيف تتشكَّل ثقافتها، إلا أن الانفتاح الإمبراطوري كما ذكرنا ساهم بشكل كبير على تشكيل ذواتنا الحديثة. المهم هو أن الفيلم نجح إلى حدٍّ ما في استعراض صراع القيم، وهو صراع بين معاجم مختلفة.

 الملمح الأول هو التحدُّث من خلال الجمع بين لغتين: الإنجليزية والعربية، وقد يبدو هذا للمشاهد منفرًا، إلا أنه حقيقي. فهو يصف بدقة وضعية جيل، وكذلك قوة الإنجليزية في قدرتها على الهيمنة بهذه الطريقة العجيبة. الأهم من ذلك تلك الثقافة التي تجمع حكيم جمعة وفاطمة البنوي، وتحديدًا قائمة المفاهيم المستجدة، مثل الطاقة والهالة والتأمل وغير ذلك. هذا المعجم لمن يُدقق النظر يمثل جيدًا شريحة كبيرة من الجيل القادم. وهنا مجددًا كما في البداية صراع أجيال عنيف، فهناك جيل يستخدم معجمًا شديد الاختلاف، مثل العين والحسد والسحر، بينما نجد معجمًا آخر لا يقل حظوة عن معجم الطاقة، وأعني المعجم الفرويدي-النفسي، كالقول إن فلانًا نرجسي وحدِّي وعصابي إلخ، اليوم نشهد كثيرًا وتحديدًا في بعض المناطق استخدامًا كبيرًا لمفهوم الطاقة والهالة، لتحديد نوع العلاقة بين كائن وآخر. ومن الأشياء الملفتة في أفلام العصر أنه لم يكن يقدم معجمًا أحاديًّا، بل هناك تعدد فيه الكثير من الطرافة. ومن هنا نفهم قوة الفن في تقديم وثائق ممتازة لتوصيف حال عصرٍ ما، وهذا التوصيف يقودنا إلى أسئلة لا يجوز التعاطي معها بالمطرقة، بل من داخل البعد الإستطيقي أو الجمالي: أيُّ معجمٍ أخلاقي أفضل من الآخر؟، وما هو معيار أفضلية معجم ما؟ كيف يمكن استيعاب جيل له قوانين تختلف عن جيل سابق؟ هل علينا أن نستوعبه أصلًا؟ وماذا يعني استيعاب شيءٍ ما؟ هل نواجه صراع الأجيال بالحب أم بالغضب؟

أخيرًا كيف لموت النقد أن يُقدم قراءةً نقدية؟ إن الموت لا يعني العدم، الموت يعني موت شيءٌ ما. وما نراه قد مات هو النقد المتعالي، ذلك المقنَّع بالسلطة وتقييم الآخرين، والناقد اليوم هو مُتفرج كغيره، إلا أنه يملك الرغبة والفراغ في أن يُحوِّل ثقافة العين إلى ثقافة يدوية، أي من اليد إلى العين. وكل قرار يتَّخذه الإنسان المعاصر يكون مدفوعًا بهاجس: إلى أي حد يشبه هذا القرار أحلام العصر؟

الشخصيات داخل الفيلم ليست محكومة تمامًا بطبقتها الاقتصادية، إذا فهمنا أن الاقتصاد هو ما يشكِّل ثقافة الفرد.

فاصل اعلاني