تامر كروان: الموسيقى التصويرية فنٌّ وأصلٌ من أصول الصناعة السينمائية
12 August، 2024
حاوره: عبد الكريم قادري
تمتلك الموسيقى التصويرية في الأفلام مقدرة رهيبة على شحن مشاعر المـُتلقّي وتوجيهها، وبالتالي يظهر هذا المعطى مدى أهميتها في رسم معالم أبعاد العمل، وفي نفس الوقت تؤكد بأن هذا الحضور ليس مجرد توظيف اعتباطي لا يحمل معنى، بل هو ركيزة مهمة جدًّا، يمكن أن تعلي من شأن الفيلم أو تضعفه، ويمكن للموسيقى التصويرية أن تؤدي في الفيلم أكثر من وظيفة، من بينها مدُّ جسور التواصل بين موضوع العمل والجمهور، وخلق مقاربة فنية عن طريق المشاعر، وتسليح المشاهد بالأدوات الحسية المناسبة لفهم العمل وهضمه بطريقة جيدة، مع تعبيد الطريق الصحيح للذهاب إلى الأهداف التي يريد المؤلف الموسيقي أن ترسو ألحانه فيها، وفقًا لتوجيهات ورؤى المخرج، وهذه التوجيهات ليست أوامر بقدر ما هي إيضاح رؤى؛ لأن المؤلف الموسيقي هو الآخر فنان بطريقته، ويرتكز عادة على موهبة مصقولة، وكمٍّ هائل من الأحاسيس التي يعرف كيف يوظفها ويزرعها في متون الفيلم.
ولفهم هذا الفن ودوره المحوري في صناعة السينما، اقتربنا من أحد أهم مؤلفي الموسيقى التصويرية في العالم العربي، وهو المصري تامر كروان الذي بدأ رحلته المهمة في هذا المجال بداية من سنة 1998، مع المخرج المهم يسري نصر الله في فيلمه “المدينة”، وقد توالت بعدها تجاربه التي أثبت من خلالها علو كعبه في هذا المجال، حين خاض تجربة أخرى مع مخرج مهم ومختلف، وهو رأفت الميهي في فيلم “عشان ربنا يحبك” سنة 2000، إضافة إلى تعاونه العميق مع المخرج الكبير محمد خان في فيلميه “بنات وسط البلد” 2005، و”في شقة مصر الجديدة” 2007، وفيلم “كباريه” 2008 للمخرج سامح عبد العزيز. كما جمعه تعاون مع المخرج أسامة فوزي في فيلم “بالألوان الطبيعية” 2009.
لكن يبقى تعاونه مع المخرج يسري نصر الله من أكثر التجارب خصوبة وكثرة واختلافًا، إذ عمل معه أيضًا في أفلام “جنينة الأسماك” 2008، و”احكي يا شهرزاد” 2009، و”باب الشمس” 2004 الذي يرى تامر كروان أنه حمل أكبر تحدٍّ له في الموسيقى التي قام بوضعها، لكونه فيلمًا موجهًا إلى الجمهور العالمي بجوار المشاهد العربي.
كما ألَّف كروان موسيقى العديد من الأفلام الوثائقية والمسلسلات الدرامية، أظهر فيها موهبته الكبيرة في هذا المجال، خاصة وأن لديه مرجعية مهمة ومختلفة، نهل من خلالها من خلفيات موسيقية عالمية ومتنوِّعة، مثل موسيقى الجاز والروك والكلاسيكيات؛ لهذا اتجه دائمًا إلى مزج هذه الأنواع بالموسيقى المصرية، وقدم نموذجًا موسيقيًّا جديدًا ومتميزًا.
وقد جاء هذا التنوع من خلال الطفولة التي عاشها في لندن، تأثر خلالها بموسيقي تلك الحقب وطبوعها المختلفة، ومع دخوله في مجال الموسيقى التصويرية، قرر أن يستخدم هذه الخبرة في التعبير عن الحياة المصرية المعاصرة، مع عدم الانغماس في الزخرفة المبالغ فيها بالموسيقى العربية. في هذا الإطار كان لـ “كراسات سينمائية” معه هذا الحوار.
فن تعاوني
كيف يتم التفاهم بين المؤلف الموسيقى ومخرج الفيلم أو المسلسل؟
السينما في أصلها فنٌّ تعاوني، إذًا التعاون هو الأساس في العلاقة ما بين المخرج ومؤلف الموسيقى. التعاون هنا يكمن في شرح المخرج لمتطلباته من الموسيقى في الفيلم أو المسلسل ودورها في الدراما. والمؤلف الموسيقي من خلال هذه المعلومات ومعايشته للعمل نفسه، يعمل على تأليف موسيقى تحقق رؤية المخرج ورؤيته الموسيقية معًا.
وهنا لا بدَّ ألا تطغى رؤية أحد منهما على الآخر، بل يعمل المخرج على التوجيه للمؤلف الموسيقي، مع ترك المساحة الإبداعية الكافية للخروج بالموسيقى المناسبة للعمل. ويجب أيضًا على المؤلف الموسيقي التحلي بقدر كافٍ من المرونة في التعامل مع أفكار ورؤية مخرج العمل.
التعاون هو الأساس في العلاقة ما بين المخرج والمؤلف الموسيقي. التعاون هنا يكمُن في شرح المخرج لمتطلباته من الموسيقى في الفيلم أو المسلسل ودورها في الدراما.
ما دور الموسيقى التصويرية في العمل، وكيف تؤثر في المشاهد ؟
الموسيقى لها أدوار كثيرة منها الأساسي؛ وهو لفت نظر المشاهد للتغيير في الدراما، وأيضًا التأثير النفسي والعاطفي الذي قد تعجز عنه عناصر الفيلم الأخرى. وهناك أيضًا أدوار أخرى منها مثلًا التوجيه العكسي، بأن تكون الموسيقى في مشهد ما عكس أحداثه؛ لتضفي تضادًا في المشاعر يفيد في تلقي المشاهد لما هو آت في العمل.
متطلبات المخرج
من خلال تجربتك الشخصية؛ كيف يتم وضع الموسيقى التصويرية للعمل؟
العمل يبدأ بجلسات مع المخرج لشرح متطلباته كما قلت سابقًا. في حالة الأفلام يتم وضع حصر لكل مواضع الموسيقي في الفيلم، تكون بمثابة الدليل للمؤلف الموسيقي. يتم بعد ذلك الاتفاق على نوع الموسيقي، ومن ثم يبدأ التأليف. تتم عدة جلسات للمشاهدة والمراجعة، وبعد موافقة المخرج يتم تسجيل ومكساج الموسيقى، لتكون جاهزة لوضعها على الفيلم.
نفس الخطوات يتم اتباعها في المسلسل، ما عدا الاتفاق على مواضع الموسيقي، ففي المسلسل يقوم المؤلف الموسيقي بتأليف عدَّة مقطوعات يتم وضعها في مرحلة المونتاج، وتوليفها بحيث تناسب المشاهد المتنوعة.
في حالة الأفلام يتم حصر كل مواضع الموسيقى في الفيلم، والاتفاق على نوع الموسيقى، بعدها يبدأ التأليف.
كيف ينظر إلى الموسيقى التصويرية في الدراما، هل على أنها ندٌّ قوي كما في الأغاني والسمفونيات، أم أنها مجرد حالة عابرة فقط؟
الموسيقى التصويرية فن مرتبط بفن آخر، لكنها ليست حالة عابرة، فهي أصل من أصول الصناعة منذ اخترع الأخوة لوميير هذا الفن. في أيام السينما الصامتة كان الصوت الوحيد للفيلم هو صوت الموسيقى.
ما الفارق بين الموسيقى التصويرية في الفيلم السينمائي والأعمال الدرامية؟
الفرق بين التلقي للموسيقى في السينما عنها في الأعمال الدرامية أن الفيلم مكثف دراميًّا، وكذلك الموسيقى ومساحة التأثير للموسيقى في العمل الدرامي أقوى، بسبب المساحة والتكرار الموسيقي في العمل. وهنا يجب على المؤلف الموسيقي أن يراعي هذه الفوارق في تأليفه الخاصِّ بكل نوع.
معطيات الأجيال
هل تعتقد أن لكل عصر أو جيل موسيقى تصويرية خاصة به، بمعنى هل يتم تأليف الموسيقى التصويرية للأفلام بنفس معطيات ومنطلقات فيلم “العراب” الذي ألف موسيقاه “نينو روتا” ووزعها “كارلو سافينا”؟ أو موسيقى فيلم “سينما بارادسيو” التي ألفها “إنيو موريكوني”، أم أن المعطيات تغيرت وشروط التلقي اختلفت؟
طبعًا لكل عصر أدواته، والموسيقى التصويرية مرت بالعديد من المدارس في التأليف الموسيقي، بالتزامن مع التغيير في المدارس وفي الصناعة نفسها.
أثبتت الموسيقى التصويرية أهميتها في تحديد وصناعة عواطف الجمهور، لكن لا يتم التعامل مع المؤلف الموسيقي بنفس القيمة التي يتم التعامل فيها مع الممثل أو كاتب السيناريو، فأين يكمن السبب في نظرك؟
أعتقد هذا شيء طبيعي، فالموسيقى جزء أساسي من العمل، لكن أول من يراه المشاهد على الشاشة هو الممثل، وثم فلا بدَّ أن يكون مصدر الاهتمام الأول، ومن بعده المخرج والمؤلف.
لكني أعتقد أن درجة الوعي لدى المشاهد قد تطورت بشكل كبير وأصبح من بين نجومه (إلى حدٍّ ما) مؤلف الموسيقى التصويرية.
من الطبيعي أن يحصل الممثل على أجر أعلى، فالموسيقى جزء أساسي من العمل، لكن الممثل هو أول من يراه المشاهد على الشاشة.
خصوصية التجربة
هل تعتقد أن هناك خصوصية لكل تجربة سينمائية؟ وهل ترى أن هناك فارقًا بين التجربة السينمائية المصرية والعربية وحتى العالمية؟ وإلى أي مدى تراعي هذا الاختلاف؟
طبعا هناك خصوصية لكل تجربة سينمائية، وتاريخ المخرج وأسلوبه في السرد يؤثران عليّ كمؤلف موسيقي للعمل. والتجربة المصرية متفردة في العالم العربي؛ كونها بدأت وما زالت صناعة متكاملة الأركان. الشيء الوحيد الذي تأخرت فيه صناعة السينما المصرية هي الموسيقى التصويرية، لكن سرعان ما تم تدارك هذا التأخير، وأصبح الآن لدى أي مخرج العديد من المؤلفين الموسيقيين للاختيار من بينهم.
التجربة المصرية متفردة في العالم العربي؛ كونها بدأت كصناعة متكاملة الأركان. لكن الشيء الوحيد الذي تأخرت فيه هو الموسيقى التصويرية.
وهل يملك كل مؤلف موسيقى تجربة خاصة يفرضها في أي عمل؟
إن مؤلف الموسيقى التصويرية لا بدَّ وأن يكون لديه قدر كبير من التنوع والتلون، ولكن هذا لا يمكن أن يطغى على شخصيته الموسيقية. هذه الشخصية وهذه التجربة المتفردة هي التي تضفي الصدق في موسيقاه، وتجعله متميزًا متفردًا عن أقرانه.
ما أهم التجارب التي خضتها في هذا المجال، وما أقرب الأفلام التي عملت عليها؟ وهل يمكن أن تقدم شهادة حولها؟
في رأيي فيلم “باب الشمس” ليسري نصر الله أحد أهم الأعمال التي أثرت بقوة في تجربتي الموسيقية. فهو فيلم يحكي عن القضية الأم في الوطن العربي من منظور إنساني وفلسفي. وكان نقطة انطلاق لعرض شخصيتي الموسيقية السينمائية.