• English
  • 4 نوفمبر، 2024
  • 4:00 ص

أفلام الغرب الأمريكي: تواريخ .. ومتكآت .. وتساؤلات

أفلام الغرب الأمريكي: تواريخ .. ومتكآت .. وتساؤلات

4 January، 2023

عبد الله حبيب

“يمكن للصورة أن تدوم بعد زوال ما تُمثِّله”
جون برغر John Berge

 

ثمة مقولة شهيرة تُلخّص بكثافة كبيرة أحد التجليَّات الوجوديَّة والميتافيزيقيَّة العليا للقدّيس أوغسطين St. Augustine في كتابه “اعترافات”.

يذهب القديس أوغسطين في تلك المقولة التي صارت مثلًا تقريبًا إلى أنه “إن لم يسألني أحد عن الزمن، فأنا أعرفه. أما إذا ما رغبتُ في أن أوضحه لمن يسألني عنه، فأنا لا أعرف ما الزمن”.

وفي الحقيقة، فإنه في ما يخص “الجنس السينمائي” أو النوع السينمائي “Film Genre”ها هو الناقد ستانلي جي سولومُن “Stanley J. Solomon” يبوح بدوره بقلقٍ أوغسطينيّ غامر حين يُقِرُّ بصريح العبارة بأن “مشكلة تعريف النوع لا تبدو كبيرة جدًّا، إلى أن يبدأ المرء في قراءة النُّقاد”.

وحقًّا، فإن كتاب سولومُن المؤلَّف بعناية كبيرة وشمائل فائقة في منتصف سبعينيَّات القرن الماضي، حتى وإن كانت النقاشات النظريَّة قد تجاوزته اليوم، والمعنون بـ “ما وراء الوَصْفَة الصِّيغيَّة: أجناس السينما الأميركية”، قد تنبَّأ على نحوٍ عميق بفيض الكتب والأنثولوجيَّات الأكاديمية الصارمة والدقيقة في ما يخص دراسات الجنس/النوع في السينما الأميركية التي صدرت في نهاية التسعينيات الآفلة ومع بزوغ فجر القرن الحالي، والتي يمكن للمرء اعتبارها رسالة إلى الألفيَّة الجديدة في ما يخص هذا الموضوع.

ومن ذلك، كتاب نِك براون “Nick Browne” المعنون بـ “إعادة تصوُّر الأجناس السينمائيةالأميركية: النظرية والتطبيق” (1998)، وكتاب رِكْ ألتمَن “Rick Altman” المعنون ب “السينما/النوع”، وكتاب ستيف نيل “Steve Neal” المعنون ب “النوع وهوليوود” (2000)، وكتاب ويلر وِنستُن دِكْسُن “Wheeler Winston Dixon” الموسوم ب ـ”النوع السينمائي: أبحاث نقدية جديدة” (2000)، إلى جانب عدد كبير من الأبحاث، والمقالات، والسِّجالات، والمناظرات الخاصة بالمسألة، المنشورة في دوريَّات سينمائيَّة وغير سينمائية، لكن أكاديميَّة، وكلها يقع في درجة الاحترام.

إن كل تلك الكتابات المهمة قد تم تذكّرها، وبحثها، والتنظير لها، ونشرها، بعد أن تأسست دراسات النوع السينمائي بصورة راسخة باعتبارها فرعًا مهمًّا من فروع النظرية السينمائية. والمثير للاهتمام حقًّا، أن تلك الكتابات معنيَّة بأجندات وهواجس مختلفة، ودرجات متفاوتة من التركيز الثِّيماتي، بتفكيك الأجناس التي ظهرت مؤخرًا في السينما الأميركية: “غياب الوجه” أو “Facelessness” كما يصف دِكْسُن الأمر بصورة دقيقة ورشيقة للغاية. والمهم في الأمر، كما أعتقد، أن شبح القلق الأوغسطيني الفلسفي الذي باح به سولومُن في منتصف السبعينيات الهالكة لا يزال يسكننا بصورة غائرة في الألفية الحالية أيضًا.

وسأجتهد في هذه المداخلة في إيضاح أن محاججات ألتمَن وغيره من الباحثين المهمين، الذاهبة إلى أن نتاج النوع السينمائي الأميركي كان هجينًا دومًا، هي محاججات ثريَّة ومُلْهِمة للغاية، لكنها لا تزال بحاجة إلى نوع من المراجعة النقدية تتيح درجة من النسبيَّة التي يمكن عبرها مقاربة “أفلام الغرب الأميركي” أو “أفلام الكاوبوي” أو “أفلام رعاة البقر”، كما نُعِتَت به الظاهرة في غير واحدة من الثقافات المستهلِكَة لهذا النتاج الثقافي الأميركي بامتياز: ال “Western”.

تطورات الجنس السينمائي

ليس علينا أن نتجادل كثيرًا حول ما أصبح معلومات عامة ومعرفة بدهيَّة. فالأجناس السينمائية، كما غيرها من الأجناس الفنيَّة والأدبية، ليست كيانات مغلقة ومحروسة على طريقة السجون، ولا جزرًا معزولة في محيطات متباعدة، لا علاقة لها بما يختلط في مياه الحياة، ويمتزج في تطورات المشروعات والمساعي الإبداعيَّة، بل والمشاعر الإنسانيَّة في المقام الأول. مع ذلك، فالراجح أن أفلام الغرب الأميركي الكلاسيكية هي الجنس السينمائي الأميركي الوحيد الأقل مُقاومَة للتعريف. طبعًا، مع وافر الاحترام للقلق الجليل الذي أبداه كل من القديس أوغسطين وسولومُن.وعلى الرغم من انحسار موجة أفلام الغرب الأميركي مع بداية السبعينيَّات الغابرة، فإن تاريخ ذلك النوع من الأفلام لم يوازِ تاريخ الأمَّة الأميركية السائد وتأريخها الرسمي، وكذلك تاريخ السينما الأميركية فحسب؛ لكن كذلك فإن تاريخ نقد النوع السينمائي نفسه ضارب الجذور في أسئلة أفلام الغرب الأميركي على نحوٍ لا يمكن اقتلاعه أو فصم عراه؛ حيث إن أي سؤال يمكن توجيهه إلى أصول السينما الأميركية إنما هو سؤال يوجَّه، في حقيقة الأمر وبالضرورة، إلى نشوء أفلام الغرب الأميركي وارتقائها. ويبدو خيال أفلام الغرب الأميركي مستجيبًا للمخيال الوطني والميثولوجي الأميركي بصورة تكاد تكون متطابقة تمامًا، بالمعنى الذي يستخدم به رولان بارت “Ronald Barthes” المفهوم الأخير “Myth”.

الأجناس السينمائية ليست كيانات مغلقة ولا جزرًا معزولة.

تعكس أفلام الغرب صورة الخيال الوطني والميثولوجي الأميركي بصورة متطابقة.

والحقيقة أن الفيلم الأسطوري “سرقة القطار الكبرى”، الذي أخرجه إدوَرد إس بورتر “Edward S. Porter”  في 1903، لم يدشِّن النوع السينمائي الذي صرنا نعرِفه ونعرِّفه بـ”أفلام الغرب الأميركي” فقط، لكن ذلك الفيلم قد أسس أيضًا، باتفاق يكاد يكون إجماعيًّا بين منظِّري ومؤرخي السينما، ما بتنا نعرِفه ونعرِّفه بـ”السينما السرديَّة” أو السينما الروائيَّة “Narrative Film” وإلى هذا، فإن أفلام الغرب الأميركي هي الأكثر أميركيَّة في الأجناس السينمائيَّة الأميركيَّة،  إنها “السينما الأميركيَّة بامتياز” كما يقول أندريه بازَن “Andre Bazin” بتوكيدٍ كبير.

فيلم سرقة القطار الكبرى - 1903

ومع ذلك، فإنه على الرغم من تلك الخصوصيَّة التاريخية والثقافية الأميركيَّة التي تتسم بها أفلام الغرب الأميركي، فقد لاقت تلك النصوص السينمائية قبولًا استهلاكيًّا عالميًّا، لدرجة تبرع البعض في أقطار شتى من العالم، بما في ذلك بلدان من العالم الثالث، باستيراد ذلك الجنس من الأفلام وقصْر روحه على الثقافات المحليَّة، التي لا يوجد فيها مُقابلٌ لتلك القصص والسَّرديات، وذلك عوضًا عن الاحتفاء بما هو موجود فيها أصلًا. 

ولقد اقترح علينا فرانسوا تروفو “Truffaut Francois” ذات مرة أنه “عندما يحرز فيلمٌ ما نجاحًا معيَّنًا فإنه يصبح حدثًا سوسيولوجيًّا”. ويجوز لي، بتلك العلامة نفسها، أن أوسِّع مقولة تروفو هذه لأقول بثقة غير مهزوزة إن الجنس السينمائي الذي ندعوه “أفلام الغرب الأميركي” لهو حَدَثٌ سوسيولوجيٌّ أيضًا، بالمعنى الأعمق للعبارة.

لقد شهد تاريخ هذا الجنس السينمائي، كما شهدت تواريخ غيره من الأجناس السينمائيَّة، العديد من التطورات المنبثقة من نتاجات الصناعة السينمائيَّة نفسها، وكذلك تلك الناجمة من مألوفيَّة جمهور المتفرجين لـ “ألاعيب” الأجناس السينمائية عبر المراس، والتجربة، واكتساب المناعة البصريَّة، والقدرة على هضم وإعادة إنتاج “السَّرد المَحْض”، وذلك إذا اتفقنا مع محمد القاضي وآخرين في “معجم السرديَّات” (دار محمد علي للنشر، تونس، 2010) في تعريب مفهوم الـdiegesis””، أو “العالم السردي الداخلي في النص”، كما قادني فهمي من خلال قراءات أخرى حول المفهوم ذاته. ومع ذلك فقد تدبَّر نوع أفلام الغرب الأميركي طريقه بصورة مستمرة لأن يكون نوع الأفلام الأميركية “الواضح بصورةٍ زائدةٍ” أو “excessively obvious”، إذا جازت لي استعارة عبارة ديفد بوردوِل “David Bordwell” في سياق محاججاته ذائعة الصيت حول سينما هوليوود الكلاسيكية.

حظيت أفلام الغرب الأميركي بقبول استهلاكيّ عالميّ واسع النطاق.

صراعات وتناقضات

والحقيقة أن ذلك “الواضح بصورة زائدة” إنما يرتبط بنيويًّا بصورة لا تستحيل على التحليل بعلاماتٍ أيقونوغرافيَّة، وكذلك باهتمامات ثيماتيَّة يرتبط فيها التوتُّر الذي يميِّز “السرد المحض/العالم السردي الداخلي في النص” في أفلام الغرب الأميركي بصراعات ممهورة بالتناقض الحاد بين تقابلات جذريَّة: “الصالح” في مقابل “الطالح”، و”الحضارة” في مقابل “الهمجيَّة”، و”النَّبيل” في مقابل “الوغد”، و”النار” في مقابل “الماء”، و”الصحراء” في مقابل “المروج”، و”السماء” في مقابل “الأرض”، وهكذا. وإن كان هناك قليلٌ نادرٌ من أفلام الغرب الأميركي يخلط هذا بذاك، فتلك نزعة محدودة لم تتطور كثيرًا في هذا الجنس من الأفلام.

فيلم الباحثون - 1956

والحقيقة أن الخط الدقيق المُفتَرَض الفاصل بين “الصالح” و”الطالح” قد يصيبه الغَبَشُ أحيانًا كما في حالة فيلم كلاسيكي هو “الباحثون”، الذي أخرجه جون فورد “John Ford” في عام 1956، وذلك من حيث إن الشخصية التي قام بدورها جون وين “John Wayne” إنما تتبدى وتفعل ما تفعل بوصفها شخصية سايكوباثيَّة وفصاميَّة من الطراز المتطرف، ولا أمل يرجى في احتمال شفائها.

والحقيقة أن تومَس شاتز “Thomas Schatz” قد أورَدَ، بصورة كلاسيكيَّة، في الأدبيات الأكاديمية الأميركية، قائمة منهجيَّة للصراعات التي تدور في أفلام الغرب الأميركي التي يَسِمها بـ”نوع/ جنس” النظام “Genre OF Order”، وذلك في أمثلة من قبيل:  الفرد في مُقابِل المجتمع، الشرق الأميركي في مقابل الغرب الأميركي، رُعاة البقر في مقابل الهنود الحُمر، المدينة في مقابل البريَّة، الحديقة في مقابل الصحراء، القانون والنظام الاجتماعي في مقابل الفوضى وانعدام القانون، المعلِّمة الوقور المُحْتَرَمة في الفصل الدراسي مقابل الراقصة الرخيصة في قاعة الرقص، وهكذا.

وبصورة معروفة، فإن الصراع يُحْسم أخيرًا في التقليد الأكثر نموذجيَّة ومألوفيَّةً في أفلام الغرب الأميركي: “إطلاق النار”، العنيف في الغالب، والذي فيه أيضًا مَكْرٌ ومخاتلة شديدان، بين الخصوم اللَّدودِين، لحسم موضوع الحسابات والتصاريف المؤجَّلة في نهاية الفيلم بطريقة ينتظرها المُشاهدِ بتحَرُّقٍ شديد، يضمن له أن سعر التذكرة الذي أنفقه لأجل مشاهدة الفيلم لم يذهب هباء منثورًا.

والحقيقة، في نظري، أن المؤسسة الزمانيَّة “temporal” والميثولوجيَّة، بالمعنى الذي قصده رولان بارت، لأفلام الغرب الأميركي، إنما ترتبط على نحوٍ مباشر بسرديَّةٍ ثنائيَّةٍ هي “الترويض” والانطلاق في تنفيذ مهمة “القَدَرُ المُتَجَلِّي” أو “manifest destiny”، التي غرضها النبيل هو “حَضْرَنَة” الهنود الحُمر، حتى إن تطلب الأمر إبادتهم بأبشع الطرق الممكنة، وذلك في زحف الرجل الأبيض نحو الغرب بين نهر المِسسيبي وساحل كاليفورنيا. وهذا خَطْبٌ جَلَلٌ حَدَثَ منذ نهاية الحرب الأهلية الأميركية حتى بدايات القرن العشرين. حسن جدًّا، لقد تم نقل الهنود الحمر إلى “الحضارة” بتوفيقٍ ونجاح باهرين؛ وذلك لأنهم، ببساطة شديدة، لم يعودوا موجودين إلا في الكتب وبعض المحميَّات المبعثرة.

وفي هذ الإطار، فإن أفلام الغرب الأميركي قد واصلت وصقلت تقليدًا بدأ أصلًا في أشكال ثقافية متعددة مثل الأدب الشعبي، والموسيقي الكولونياليَّة الفولوكلوريَّة، و”قصص الأَسْر الهنديَّة”، نسبة إلى سكان أميركا الأصليين الذين سماهم كرِستُفر كولومبُس “Christopher Columbus” الهنود الحمر زورًا وبهتانًا.

وقصص الأسْر الهنديَّة” هذه أسسها وجذَّرها جيمس فِمِنور كوبر (1798-1851) “James Fenimore Cooper” في أعماله، التي منها روايته الشهيرة “آخر المهيقانيّين”، الذين هم من شعوب السكان الأميركيين الأصليين. ولذلك، فإن هالة أفلام الغرب الأميركي مرتبطة مباشرة بالطريقة التي كُتِبَت بها الهويَّة الأميركيَّة في صفات وخصائص من قبيل الحذق، والبراعة، والاعتماد على النفس في مسعى تنفيذ مهام “القَدَر المُتَجَلِّي” المَنوط بها نقل “الهنود الحمر” إلى “الحضارة”.

أما تشَكْ بيرغ  “Chuck Berg”، فإنه يتتبع جذور أفلام الغرب الأميركي ليجد أنها ضاربة في الحرب الإسبانيَّة – الأميركية، وإغراق المدمرة الأميركية “مين” في مرفأ هافانا الكوبي في 15 فبراير/ شباط 1898، وفي الصور الفوتوغرافية التي التُقطت للحدث الجَلَل، والتي ستشكل لاحقاً أفلام الغرب الأميركي حيث: المشهد الساحر والغريب لمكان بعيد، المشهد المثير لرجال يمتطون صهوات الخيول، الانطلاق للقيام بالإنقاذ، صورة الرئيس الأميركي روزفِلت “Roosevelt”، الذي كان قد شارك في الحرب الإسبانيَّة – الأميركية في العمليات التي دارت عقب إغراق المدمرة الأميركيَّة “مين”، باعتباره رجلًا أكبر من الحياة ويجسِّدُ الحقيقة، والعدالة، ونشر طريقة الحياة الأميركية.

وفي مرحلة السينما الصامتة، كان نتاج أفلام الغرب الأميركي مرتبطًا كثيرًا بممثلين من قبيل وِلْيَم إس هارت “William S. Hart” وتوم مكس “Tom Mix” اللذين كانت الشخصيات السينمائية التي أدَّيا أدوارها على طرفي نقيض؛ فأسسا بذلك الثنائية الضديَّة لهذا النوع السينمائي الأميركي. أما في الثلاثينيَّات والأربعينيَّات من القرن الماضي، فقد انسحبت أفلام الغرب الأميركي لصالح العروض النهاريَّة لأفلام من النوع ذاته، لكنها أفلام تقع تحت تصنيف فيلم من الدرجة الثانيَّة “B Movie” الأقل كلفة واحترافًا.

النزعة الإمبريالية

وفي رأيي، أنه بينما حظيت أفلام الغرب الأميركي من الدرجة الأولى باهتمام التحليل النقدي الوافر، فإن العديد من أفلام الدرجة الثانية من النوع ذاته بحاجة إلى اكتراث نقدي تأخر أكثر مما ينبغي، وذلك من جهة الطموحات النوعيَّة والتنويعات الثيماتيَّة. فعلى سبيل المثال، لم يمر بي حتى الآن أي نقاش يُحْفَلُ به حول الفيلم الذي أنتجه استوديو باراماونت والمعنون “الخارجون على القانون في الصحراء”، من إخراج هوَرْد برِثِرتُن “Howard Bretherton” في 1941. هذا الفيلم يوسِّع “الحدود” التقليدية في أفلام الغرب الأميركي إلى مدى بعيد خارج الفضاء الأميركي، وهنا مكمن الأهمية والخطر أيضًا.

يَحْبِكُ هذا الفيلم “وليم بويد”، الذي قام بدوره هوبَلونغ كاسِدي “Hopalong”، و”آندي كلايد”، الذي قام بدوره كالِفورنيا كارلسُن “California Carlson” و”جوني نِلْسُن”، الذي قام بدوره براد كنغ  “Brad King”، بالإضافة إلى شخصيات أخرى، في مهمة إلى الصحراء العربية، غرضها الابتياع وجلب قطيع من الجياد العربية الأصيلة لصالح سلاح الفرسان في الجيش الأميركي.  ولذلك فإن شكل الأرض “اللاندسكيب”، من الناحية المبدئية، هو الفضاء النموذجي للغرب الأميركي بما في ذلك أيقوناته الكلاسيكية.

 لكن مع وصول المجموعة إلى الصحراء العربية، فإن الفيلم يتحرك إلى تسجيل توقيعٍ جديد، كولونيالي وإمبريالي بصورة صريحة؛ وذلك هو أن الفضاء النوعي “generic space” والأيقونوغرافيا في أفلام الغرب الأميركي الكلاسيكية يُبْقَى عليها من ناحية، ولكنها تُستَبدَلُ حرفيًّا من ناحية أخرى ضمن معطيات الوظيفة الدراميَّة.

ومن أمثلة ذلك أن الراقصة العربيَّة في خيمة في الصحراء تحل محل الراقصة في قاعة الرقص في الغرب الأميركي، وقُطَّاع الطُّرق العرب يحلون محل “الهنود الحُمر”، والـ”وحشيَّة” العربيَّة تحل محل الـ”همجيَّة” المُلصَقة بـ”الهنود الحُمر”، والشيخ العربي يحل محل الزعيم “الهندي الأحمر”؛ وبذلك تتخذ الثنائيَّة الضديَّة “شرق/ غرب” معنى جديدًا. وبالنسبة لي يمثِّل فيلم
“الخارجون على القانون في الصحراء” حالة تؤكد النموذج الذي طرحه شاتز، الذي سبقت الإشارة إليه، من ناحية. لكنه أيضًا، أي الفيلم، لا يقبله بالكامل، بل يفاوضه، ويزحزحه.

وبينما تقيم أفلام الغرب الأميركي، بصورة تقليدية في نفس الحي الذي تقطن فيه أجناس فيلميَّة أخرى مثل: أفلام الرفيق العزيز “Buddy Movies”، وأفلام المغامرات”Adventure Movies”، وأفلام الجريمة “Crime Movies” ، وأفلام الطريق “Road Movies” ، فإن فيلم “الخارجون على القانون في الصحراء” يمثِّل حالة مزج لأفلام الغرب الأميركي وأفلام الليالي العربية “Arabian Nights Movies” التي لا تشكل، في رأيي، نوعًا سينمائيًّا مستقلًّا، وإنما يمكن اعتبارها فرعًا نوعيًّا “subgenre” من نوع راسخ ومؤسَّس هو الأفلام الاستشراقيَّة  “Orientalist Movies”، التي بدورها لم يُنَظَّر لها بما فيه الكفاية حتى الآن. وطبعًا لا بد من الإشارة هنا إلى كتاب ماثيو برنستاين “Mathew Pernstein” وجين ستدلر “Gaylyn Studlar” الثمين “رؤى الشرق: الاستشراق في السينما” بوصفه عملًا تأسيسيًّا كبيرًا في هذا المجال.

وفي أية حال، فإن النجاح الهائل الذي حققه فيلم “مَرْكَبَةُ الجياد”، من إخراج جون فورد “John Ford”، في عام 1933، قد أعاد إنتاج أفلام الغرب الأميركي من الدرجة الأولى (A) إلى الواجهة. وحقًّا، فإن هذا الفيلم كان نقطة تحول في المسيرة المهنيَّة الزاخرة لكل من جون فورد وجون وين “John Wayne”.

فيلم مركبة الجياد لجون فورد

ولقد دشَّن فيلم “مركبة الجياد” العصر الذهبي لأفلام الغرب الأميركي في الأربعينيَّات والخمسينيَّات من القرن الماضي. وفي ذروته، مثَّل ذلك النوع من أفلام السينما الغربية الأميركية حنينًا مُريحًا، من خلال “استيراد” أسطورة “الغرب القديم” ومخياله إلى المجتمعات المتعددة، التي كانت تشكل نسيج المجتمع الأميركي، والتي كانت تعيش أشكالًا متعددة من الانتزاع، والاقتلاع، والإزاحة، والخلخلة البنيويِّة العميقة بسبب التسارع الهائل في التصنيع والتحديث. وأفضّل هنا استخدام مفردة “حنين”، حيث لا أفهم سبب حذلقة الكُتاب العرب في القول “نوستالجيا”؛ باستدعاء “nostalgia” الإنجليزية، التي أخفقُ في فهم دقتها التقنية وأفضليتها البلاغيَّة على “حنين” العربية.

أما في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بكل مصائبها ونتائجها الثقافية والنفسية، فقد تحول فيلم الغرب الأميركي إلى “بالغٍ”، بل “وبالغ مشاكِس” أحيانًا، ولذلك فقد نَزَعَ هذا الفيلم إلى أن يكون سايكولوجيًّا أكثر، موجهًا خطابه، ضمن أشياء أخرى، إلى أسئلة الهوية، ومآزق الاختلاف، وأزمات الجندر، والموضوعات السياسية المعاصرة والملحَّة بطريقة تبدو راديكاليَّة، أو في الأقل ليبراليَّة، أحيانًا، وعلى نحوٍ غير معهود سابقًا في أفلام الغرب الأميركي، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، فيلم “مُلاحَق” لراؤول والش “Raul Walsh”، عام 1947، وفيلم “عزُّ الظهيرة” لِفْرِدْ  زِينمَن “Fred Zinnemann” عام 1952.

دفعت الحرب العالمية الثانية فيلم الغرب الأميركي إلى طرح أسئلة الهوية ومآزق الاختلاف.

وقد شهدت الستينيَّات تطورًا مهمًّا في تاريخ أفلام الغرب الأميركي، هو بلوغ نجم الاستوديو الهوليوودي طور الأفول؛ وهذا أدى إلى منافسة شرسة فرضتها الأفلام الأوروبيَّة، بخاصة ما عُرِف منها بأفلام الفن “Art Films”، ما أدى بدوره إلى ما يشبه النزوح الجماعي للمواهب السينمائية الأميركية إلى القارَّة العجوز. وضمن هذا الخضم وفي هذا السياق وُلِدَ فيلم الغرب الأميركي السباغِتِّي “Spaghetti Western”. وأفضل من يمثِّل هذا النوع السينمائي الأميركي المتفرع هو سيرجيو ليون “Sergio Leon” في “ثلاثيَّة الرجل الذي لا اسم له”، التي أسست نجوميَّة كلِنْتْ إيستوُد “Clint Eastwood”.

ثلاثية الرجل الذي لا اسم له

ومن ناحية الشكل، فأهم ما يميز هذا النوع الجديد المتفرع من فيلم الغرب الأميركي “الأب” هو الإسراف البصري “visual access”، الذي يصل حد البذخ والترف كما يحدث في أفلام الميلودراما الباهرة تقريبًا. أما من ناحية المضمون، فقد استجاب النوع المتفرع “الابن” للمناخ السياسي والثقافي المعارِض الذي أنتجته ثقافة الشباب المتمردة في ستينيَّات وسبعينيَّات القرن الماضي. وهكذا فقد أصبحت أفلام الغرب الأميركي “بوليدها الجديد” فجأة نوعًا سينمائيًّا أميركيًّا “بديلًا”، و”تخريبيًّا”، و”تدميريًّا”، يقوِّض ما بناه هو نفسه طوال عقود من الزمن في أكبر مفارقاته. وفي البال، مثلاً، فيلم “الرجل الصغير الكبير” لآرثر بِنْ “Arthur Penn” عام 1970.

والآن، تجدر بنا العودة مرة أخرى إلى النظرية في ما يخص أفلام الغرب الأميركي “أبًا ونجلًا”؛ فستيف نيل، الذي سبقت الإشارة في هذه المادة إلى كتابه “النوع وهوليوود”، يقترح علينا، هذه المرة، في بحثه “أسئلة النوع”
مفهومًا يدعوه: النوع بوصفه سلسلة من العمليات المتعاقبة “Genre as Process” ومن أجل أجل دعم محاججته ومؤازرتها، فإنه يلجأ إلى تبني النموذج التاريخي الذي قدَّمه الشَّكلانيون الروس، والذي يذهب إلى مَوقَعَة تاريخ الأنواع المنفردة في الأدب، وفي المسرح، وفي التشكيل، الخ، ليس فقط في تاريخ التحولات النوعيَّة “generic transformations” من الداخل، وإنما أيضًا في التشَّكلات الثقافية الأكبر والخطابات المؤسَّساتيَّة.

ولذلك فإنه يستعير مفهوم: التَّعاقب/ التَّوارث/ التَّوالي “succession”.  لكن ينبغي ألا تفوتني الإشارة فورًا إلى أن ذلك المفهوم لا تضمينَ داروِنيًّا فيه، نسبة إلى تشارلز داروِن “Charles Darwin”، كذلك الذي اقترحه تومَس شاتز الذي سبق التعرض إلى محاججته في مكان سابق من هذه المادة، والذي يصفه رِك ألتمَن، ربما في نفحة خفيفة من السخرية بالموديل الشَّعائري “ritualistic model”، وذلك لأن “التَّعاقب/ التَّوارث/ التَّوالي” ليس “نشوئيًّا/ تطوُّريًّا” لكنه بالأحرى ناجم عن انفصالات “breaks” وصراع “struggle” بين القديم والجديد ضمن معطيات النوع نفسه.

وهكذا فإن “التَّعاقب/ التَّوارث/ التَّوالي” كما يسميه الشكلانيون الروس هو تعميد الفرع الفرعي “canonization of the junior bracnch” الذي يصفه فِكْتُر شكلوفسكي “Viktor Shklovsky” هكذا: “عندما تصل الأشكال الفنيَّة المُعَمَّدة إلى طريق مسدود، فإن الدرب يكون مُعَبَّدًا لاختراق عناصر الفن
غير المُعَمَّد، التي، بحلول هذا الوقت، تكون قد تدبرت أمرها في استنباط اختراعات فنيَّة جديدة”.  ولا شك في أن في هذا ما يفسر مآلات أفلام الغرب الأميركي.

لعل نقاشي المتواضع هذا يسعف، ولو قليلًا، في فهم خلفية أفلام الغرب الأميركي، وأسئلتها التي تفرضها علينا.

فاصل اعلاني