• English
  • 29 أبريل، 2025
  • 12:38 ص

أهم عشرة مشاهد في أفلام آندريه تاركوفسكي رحلة مع مفردات المشهد السينمائي لمعلم السينما الروسية

أهم عشرة مشاهد في أفلام آندريه تاركوفسكي رحلة مع مفردات المشهد السينمائي لمعلم السينما الروسية

4 January، 2023

الكسندرا فيسيلوفا

ترجمة وإعداد عن الروسية عبادة تقلا

يقول المخرج السويدي الكبير إنغمار بيرغمان: “بالنسبة لي، آندريه تاركوفسكي هو المخرج الأعظم، لأنه خلق لغة جديدة، تتناسب مع طبيعة السينما، مصورًا الحياة كانعكاس، الحياة مثل حلم”.

غني عن القول، إن آندريه تاركوفسكي يعدّ أحد المخرجين الرائدين في تاريخ السينما. اشتهر المخرج السوفييتي الراحل باستكشاف الموضوعات الميتافيزيقية في أفلامه، بالدرجة الأولى تفاعل الشخص مع بيئته، إضافة إلى الوقت والطبيعة والأحلام. طوال ربع قرن، صنع تاركوفسكي سبعة أفلام روائية طويلة من مختلف الأنواع، بما في ذلك الدراما الحربية، والسيرة التاريخية والخيال العلمي. لكنها جميعها مليئة بمواضيع مثل انعكاسات الأبطال، المياه، حرق المنازل، الرؤى والرموز الروحية.

صورة للفنان آندريه تاركوفسكي

بالنظر إلى مكانة تاركوفسكي كمخرج، والجودة الثابتة لسوية أعماله، فإن هذه القائمة لا تحوي أفضل مشاهد أعماله (علاوة على ذلك، هذه المشاهد ليست مرتبة)، بقدر ما هي مجموعة مختارة من تلك اللحظات والموضوعات والتقنيات والتكوينات، والمرافقة الموسيقية والسرد، تعكس كلها وبأفضل صورة، إبداع هذا المعلم الكبير. سيتم وصف كل مشهد بإيجاز، من ناحية السياق والتقنيات وأهميته.

يقول المخرج السويدي الكبير إنغمار بيرغمان: “بالنسبة لي، آندريه تاركوفسكي هو المخرج الأعظم، لأنه خلق لغة جديدة، تتناسب مع طبيعة السينما، مصورًا الحياة كانعكاس، الحياة مثل حلم”.

1. الشكل النازي في فيلم “طفولة إيفان” 1962

الشكل النازي في فيلم "طفولة إيفان" 1962

في فيلمه الروائي الأول الطويل “طفولة إيفان”، يستكشف تاركوفسكي الصدمات العاطفية الناجمة عن الحرب، المخاوف وأجواء رهاب الأماكن المغلقة. يتجسّد كل هذا بالكامل في مشهد ذي شكل نازي. هذا المقطع هو وجهة نظر ذاتية لصبي أُصيب بصدمة الحرب، على الواقع المحيط به، حيث تختفي الطفولة، لتحل محلها حروب العصابات، وبدلًا من الواقع هناك الهروب منه.

يزحف إيفان على الأرض، متخيلًا أنه يشارك في عملية تدمير الغزاة الفاشيين؛ إنه مثل جندي يسحب جسده من خلال الخنادق الكئيبة. يغرق إيفان في خياله، وتعزز الكاميرا هذا عندما يتحول إلى الوضع الذاتي؛ يبدو وكأننا ننظر إلى العالم من خلال عينيْ صبي. تدور الكاميرا من وقت لآخر، مما يعكس تحركات المصباح اليدوي لإيفان، الذي تتجلى صدماته في الرؤى: والدته المتوفاة، صبي محتضر وخوف إيفان نفسه. خارج الكادر، تُسمَع أصوات مكالمات إذاعية ألمانية، وبينها غناء، وبكاء وصراخ. ليصل الفيلم في هذا المشهد إلى ذروته. فجأة، تتوقف الحركات الحادة والأصوات الصماء، ويتبدد خيال إيفان المدفوع بالتوتر؛ يلتقي مع الغازي الفاشي، مع أنه في الواقع مجرد زي عسكري معلّق.

بداية، يمطر إيفان الفاشي المزعوم بالتوبيخ، لكن التعبير الشرير على وجهه يتحول تدريجيًا إلى تعبير حزين. في النهاية، يبدو هذا الزي المعلق مثل دليل على المواجهة الداخلية، التي تحدث عندما يدرك إيفان درجة معاناته الخاصة. في هذا المشهد، يُظهر تاركوفسكي مدى أهمية الإيقاع -تصاعد العناصر المرئية والصوتية، ثم غيابها- لخلق التأثير الضروري لسياق الفيلم.

2. حرق المنزل، في فيلم “القربان”، 1986

حرق المنزل، في فيلم "القربان"، 1986

هذا المشهد من فيلم تاركوفسكي الأخير “القربان”، مرعب ومثير للتفكير في الوقت نفسه، ويوضح أيضًا نقاط القوة في اللقطة الطويلة، المميزة لعمل المخرج.

ممتدًا لأكثر من خمس دقائق، يرينا هذا الكادر، العائلة التي تشعر بالفزع بعد أن قام ألكسندر، رب العائلة، بتقديم التضحية الكبرى، وإضرام النار في المنزل. طريقة بناء تاركوفسكي لهذا المشهد، تثير العديد من الأفكار والأسئلة. تكوين المشهد يضيف الواقعية إلى سلوك الشخصيات. علاوة على ذلك، يلقي هذا المشهد بظلال من الشك على موثوقية جنون آلكسندر، والغرض من فعله، كما يظهر مشاعر عائلته، وبخاصة زوجته، في ما يتعلق بالكمال. صورة البيت المحترق، تحمل في الوقت نفسه دوافع تنبؤية، وإحساسًا عميقًا بالواقع. كاميرا تاركوفسكي والمصور سفين نيوكفيست احترافية، تبقى في المكان نفسه، وتدور فقط لالتقاط الأبطال، ولا تدع المنزل المحترق بعيدًا عن الأنظار لفترة طويلة. أما في ما يخص الصوت، فإن صدع الشجرة التي تلتهمها النيران، يغرق في صرخات الأسرة ومراثيها.

يعطي تاركوفسكي انطباعًا عن المساحة المحدودة، وتبدو مشاهدة هذا المشهد اختبارًا للمشاهد، كما هي الحال بالنسبة للشخصية الرئيسية. يمكننا أن نقول إن تاركوفسكي يلتقط مأساة الأسرة بوسائل سينمائية حقيقية. هذا آخر مشهد رائع في رحلته الإبداعية، تعكس صوره النبويّة أفكارًا راديكالية ووجودية للغاية، وتمرد الفنان في وجه التغييرات الاجتماعية.

يعكس تاركوفسكي في صوره النبويّة أفكارًا راديكالية ووجودية للغاية، وتمرد الفنان في وجه التغييرات الاجتماعية.

3. شغف أندريه في فيلم “أندريه روبلوف”، 1966

شغف أندريه في فيلم "أندريه روبلوف"، 1966

يكمن الدافع التقليدي لمشاهد الحوار عند تاركوفسكي، في رغبة المخرج في متابعة التكوين، والصفات المميزة للوحات والبورتريهات على وجه الخصوص. عناصر أسلوب كهذا هي: حركة الجسد، حركة الممثلين في الكادر، والتباين بين الضوء والظل. لم يسبق لها أن تكون مصقولة، كما هي الحال في الحوار بين روبلوف (أناتولي سولانيتسين) وفيوفان غريك (نيكولاي سيرغييف). لا يتبع تاركوفسكي النمط المعتاد للموجّه والطالب، بل بدلًا من ذلك، يُظهِر رسامي الأيقونات أشخاصًا معقدين وعرضة للخطأ، يتجادلون حول الجهل الإنساني.

 يثابر فيوفان، وبنشاط يستخدم أسلوب البلاغة، الذي يتناقض تمامًا مع سلبية روبلوف وشكوكه. من وجهة نظر بصرية، يلتقط تاركوفسكي هذه اللحظات من السيطرة، عدم الإيمان والصراع من خلال توزيع حرفي للممثلين في الكادر، وتعارض قاماتهم. يصبح هذا الجدال نقطة الانطلاق لإعادة بناء مشهد الصَلب على خلفية منظر شتوي. في هذا المشهد، نرى الصليب الذي يحمل المسيح، والناس يسيرون به، ومن بينهم صورة مريم العذراء، يوحنا المعمدان ومريم المجدلية.

 هذه اللقطات الطويلة، مع عبور يسوع وأتباعه التلال، السهول والجبال، مصنوعة بطريقة مذهلة، تذكرنا بلوحات بريغيل، “الصيادون في الثلج”، و”المناظر الطبيعية الشتوية”. إن خطاب روبلوف القوي حول علاقة يسوع بأحبائه، وكذلك التأكيد على أن صَلبه كان بمثابة طاعة لله، لا يتحدى مذاهب الدير فحسب، بل يجسد أيضًا فكرة أن اللاهوت والعظمة والمجد يكمن في عيوب عالمنا.

4.حلم غسيل الشعر في فيلم “المرآة”، 1975

حلم غسيل الشعر في فيلم "المرآة"، 1975

يرجع الجو الغريب لهذا المشهد أحادي اللون، إلى الانزياح في الزمان والمكان.

 في الحلم، يلتقي الصبي مع والدته ماريا (مارغريتا تيريخوفا)، وهي في قميص نوم؛ تغسل شعرها، ثم ترتفع ببطء من ركبتيها. نسمع أصوات قطرات الماء؛ الشعر الرطب يغطي وجه المرأة. ترفع يديها، ويصبح جسمها على شكل صليب.

تبتعد الكاميرا ببطء، لنكون بعدها مع قطع مونتاجي حاد؛ الغرفة نفسها أمامنا لكنها تبدو فارغة، وتنهار أمام أعيننا. يسقط الجص من السقف، ببطء، تحت أصوات طنين.. نحن مفتونون بهذا التحول الزمني، هذا النسيج، وهذا الحدث. في الحقيقة، يتحدث هذا المشهد عن عدم قدرة الصبي على فهم والديه، والنظر إليهم كأفراد لديهم مخاوفهم، شغفهم وشكوكهم. ينتهي المشهد بشكل بانورامي؛ تدور الكاميرا، وترينا العديد من صور ماريا المنعكسة في المرآة، الصورة الأخيرة منهم لامرأة عجوز (أم المخرجة الحقيقية، ماريا تاركوفسكايا).

بغض النظر عما إذا كان هذا المشهد هو تفكيك الأمومة من خلال الجنس، وما إذا كان انعكاس المرأة العجوز في الوقت نفسه واقعًا وذاكرة، سواء كان تكريمًا لوالدة المخرج نفسه، فإن تاركوفسكي نجح بكل تأكيد في نقل دوافع حياته الخاصة إلى الشاشة، وإنشاء صورة متعددة الطبقات، حنينية وغريبة لأمه.

5. مفرمة اللحم أو غرفة الرمل في فيلم” المرشد”، 1979

مفرمة اللحم أو غرفة الرمل في فيلم" المرشد"، 1979

نفق “مفرمة اللحم”، هو موقع الذروة العاطفية لواحدة من الشخصيات الرئيسية الثلاث، وهو الكاتب (أناتولي سولانيتسين)، وربما المشهد الأكثر توترًا في الفيلم. يركز تاركوفسكي بشكل كامل على مشاعر الكاتب، عندما يجتاز اختباره في “مفرمة اللحم”، وهو نفق صناعي داكن ومتأرجح، وبالتالي يخلق التأثير الضروري بأقل الوسائل.

تقنيًا، تم تصميم هذا المشهد ليعطينا الشعور بالتجربة الحسيّة للكاتب؛ تراقب الكاميرا عن كثب كل حركة وكل ردود أفعاله، التي بترافقها مع أصوات الماء المتساقط، والخطوات الصاخبة عبر الوحل والبرك، تؤمّن الانغماس الكامل في الحدث.

الغرفة الرئيسية “مفرمة اللحم”، عبارة عن مساحة مغطاة بالرمل، مع ضوء علوي يؤكد على ملامح وتركيب السطح. عن بعد، تشبه غرفة الرمل هذه لوحات كاسبار ديفيد فريدريش، وخاصة لوحة “الراهب على البحر”، مع لمسة من السوريالية.

يتكلم الكاتب، وهو رجل فخور، بمونولوج مرير يعترف فيه بخطاياه، ويتحدث عن لا جدوى شخص، عاجز عن تغيير العالم، ويعبّر عن خيبة أمله تجاه عمله.

 مشوشًا ومرتبكًا، ينظر الكاتب مباشرة إلى الكاميرا، مظهرًا إهانته، ومعترفًا بضعف شخصيته وإبداعه. كما في المشهد، حيث يقوم المرشد (ألكسندر كايدانوفسكي) بإراحة الكاتب، ويخبره كم هو محظوظ ليعيش مائة عام، فيلتفت الكاتب إلى الكاميرا ويتمتم: “نعم، لكن لمَ ليس إلى الأبد؟”. يصبح المشهد مع “مفرمة اللحم” تجسيدًا مثاليًا لأحد الصراعات المركزية للفيلم؛ خيبات الأمل في الشخص.

6. انعدام الوزن في فيلم “سولاريس”، 1972

انعدام الوزن في فيلم "سولاريس"، 1972

يعدّ مشهد انعدام الوزن في فيلم الخيال العلمي لتاركوفسكي “سولاريس”، مثالًا رائعًا على موهبة المخرج في الجمع بين مختلف أشكال الفن –الموسيقى، الرسم، النحت والرقص- ودمجها في السينما.

 في هذا المقطع، لا يقتصر الدور الذي تؤديه أعمال بريغل أو باخ على الإشارة إلى فقدان الحضارة للإنسانية، ولكنها تَظهر أيضًا كأعمال فنية بالمعنى الحقيقي، تثير العواطف وتكشف عن الشخصيات. الميزانسين: غرفة دائرية منسّقة بالخشب، ومزينة بلوحات فنية قماشية، تتناقض مع العناصر المعدنية “الاصطناعية” التي تهيمن على تصميم بقية السفينة. زُينت مشاهد الغرفة بلوحات عدة من سلسلة المناظر الطبيعية لبريغل، “أوقات السنة”. على وجه الخصوص، ينجذب انتباه هاري (ناتاليا بوندارتشوك) -وهي نسخة، توأم شخص حقيقي- إلى لوحة “الصيادون في الثلج”؛ بمساعدتهم تتذكر مقطع فيديو لكريس، الطفل المحترق في النار شتاء. “مقدمة” باخ، تؤكد وتكمل نشوة عناق بلا وزن، بين هاري وكريس (دوناتاس بانيونيس)، إضافة إلى ذلك، يشير تمثال أفلاطون في الكادر إلى تعليمه الأفكار، التي تردد صدى التباين بين واقع كريس، وخيال كوكب سولاريس.

خلال انعدام الجاذبية، تنظر الكاميرا عن كثب إلى لوحة بريغل “صيادون على الثلج”، مما يخلق اتصالًا عاطفيًا بين الإنسان والفن. من خلال الجمع بين الصورة وذاكرة هاري، فإن الأخيرة، كونها نسخة من شخص، تنتقل إلى مستوى جديد وأعمق من الوعي الذاتي و”التزامن” مع حبيبها.

يعدّ مشهد انعدام الوزن في فيلم الخيال العلمي لتاركوفسكي “سولاريس”، مثالًا رائعًا على موهبة المخرج في الجمع بين مختلف أشكال الفن –الموسيقى، الرسم، النحت والرقص- ودمجها في السينما.

7. التحريك الذهني عند ماتريشكا، في فيلم “المرشد، 1979

التحريك الذهني عند ماتريشكا، في فيلم "المرشد"، 1979

لا تكمن أهمية هذا المشهد في القوى الخارقة التي تمتلكها ماتريشكا، ابنة المرشد، وحسب، بل في مدى الغموض الذي تبدو عليه في سياق الفيلم بأكمله. تقنيًا، هذا مشهد طويل، دون أي قطع مونتاجي، حيث تقرأ ماتريشكا كتابًا، ثم نسمع صوتها من خارج الكادر، وهو يتلو قصيدة فيودر تيوتشيف “أحب عينيك يا صديقي…”.

حقيقةُ أنها لا تقرأ القصيدة بصوت مسموع (شفتاها لا تتحركان)، وتعيد إنتاج أبياتها ذهنيًا فورًا بعد إغلاق الكتاب، تقترح أن الفتاة مرتبطة بالقصيدة عبر التخاطر.

 في موازاة ذلك، ماتريشكا -بسبب الملل على ما يبدو- تضع رأسها على الطاولة، وبواسطة التحريك الذهني، تحرك الأوعية الزجاجية الموضوعة عليها. في نهاية هذا الفعل، يدور الجزء الرابع من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، وبسبب القطار الذي يمرّ خارج الكادر، تهتز الجدران والسقف، لكن ماتريشكا تبقى بلا حراك. تقترب الكاميرا ببطء من وجهها، وبالتوازي، تهدأ جميع الأصوات والضوضاء. بهذه الحركة، يحوّل تاركوفسكي انتباهنا من قدرات الفتاة الخارقة إلى الفتاة نفسها، إلى ما تشعر به.

في هذه اللقطة الأخيرة، يوحّد تاروفسكي بين النغمة أحادية اللون للعالم الحقيقي، واللون الأخضر للمنطقة، وبالتالي يظهر اندماج الواقع والخيال. إن هذه “الطفرة” ماتريشكا (ناتاشا أبراموفا) تجسد التحالف بين الأفكار “المادية” و”الروحية” التي سعى المرشد، الكاتب والبروفيسور لتحقيقها، لكنهم استسلموا في النهاية. لذلك، لا ينبغي تفسير هذا المشهد في إطار الأخلاق، ولكن كعلامة على آفاق جديدة، وإمكانيات مجهولة، وحدود مفتوحة وتغيير عام.

8. اللوحات الجدارية لروبلوف في فيلم”آندريه روبلوف”، 1966

اللوحات الجدارية لروبلوف في فيلم"آندريه روبلوف"، 1966

هناك عدد من المشاهد القوية في فيلم تاركوفسكي، المصوّر بالأبيض والأسود: غارة، رنين الجرس، مقطع مع الساحرة. لكن إذا كان هناك واحد يَبرز -بالمعنى الحرفي- في مقابل بقية المشاهد، فهو مشهد ختام الفيلم، مع اللوحات الجدارية لروبلوف.

على نقيض ما سبق من نغمة لونية أحادية، لا تُظهر هذه اللوحات الملونة الرؤية البارزة للفنان نفسه، لكن، ما هو أكثر أهمية من ذلك، مدى تجذّر الفن في كل الصعوبات والعلاقات والملاحظات التي يختبرها الإنسان، ويكتسبها في حياته.

كاسرًا نذر الصمت، روبلوف (أناتولي سولانيتسين)، يهدّئ نحيب بوريسكا: “سأرسم أيقونات، وتصب أنت الأجراس”. تركّز الكاميرا على الفحم المشتعل، ثم تغرق الصورة في الظل، وتظهر الأيقونات. تتبدى الخاتمة كسلسلة من الصور البانورامية، كاميرا بزوايا مختلفة، ولقطات قريبة، تركز على وجوه وتفاصيل أعمال روبلوف، لكن الكاميرا لا تُظهر الأيقونة بالكامل أبدًا. في كل هذا، هناك درجة معينة من الانغماس، وتأسيس اتصال أوثق مع الأعمال الفنية.

عندما تبتعد الكاميرا عن الأيقونة الأخيرة في سلسلة روبلوف “المخلّص العظيم”، وتتلاشى موسيقى الملحن آفتشينيكوف، لتستبدل بها أصوات المطر (تذكّر بالمشهد الأخير من فيلم “نوستالجيا”)، يأتي التنفيس. الكادر الأخير -الخيول تحت المطر، باعث تاركوفسكي، الذي يرمز إلى الحياة– يأخذ فيلم آندريه روبلوف إلى أبعد من العنوان كسيرة رسام أيقونات، ويمثل تجسيدًا سينمائيًا حقيقيًا لحاجة الشخص للتعبير الفني.

9. مرور مع شمعة، في فيلم “نوستالجيا” (1983)

مرور مع شمعة، في فيلم "نوستالجيا" (1983)

“إظهار حياة الإنسان كلها، في كادر واحد، دون مونتاج، من البداية إلى النهاية، من الولادة حتى لحظة الموت نفسها”. وفقًا لأوليغ يانكوفسكي، هذا بالضبط ما اقترحه تاركوفسكي خلال اجتماعهم الأول، قبل تصوير فيلم “نوستالجيا”.

يمتد هذا الكادر لأكثر من تسع دقائق، ويتكون من محاولات متكررة قام بها آندريه غورتشاكوف (يانكوفسكي) لجلب شمعة مضاءة من أحد طرفي حوض سباحة فارغ إلى الطرف الآخر. في المحاولة الثالثة، تمكن آندريه من القيام بذلك، لكن في النهاية سقط، وصدر عنه أنين مؤلم. من أجل هذا المشهد، أمر تاركوفسكي بتثبيت قضبان آلة التصوير، لتتابع الكاميرا البطل، وتقترب منه تدريجيًا عندما يصل إلى هدفه.

 تفاصيل الخلفية -جدار حجري، واجهة مسبح، طحالب- تم تصميمها بشكل لا يصدق، ولها تركيب وقوام مختلف. عندما يصل آندريه إلى نهاية طريقه تقريبًا، يبدأ بترديد “قداس” جوزيبي فيردي، وفي نهاية الكادر، تركز الكاميرا على الشمعة المشتعلة بلقطة قريبة.

قصد تاركوفسكي في هذا المشهد إظهار دورة الحياة: الولادة والنمو والموت. وعدم انقطاع الكادر وطوله، يجسد تمامًا فكرة الحياة البشرية، وكذلك مرور الوقت.

يد آندريه، التي تغطي النار من الهواء، تمثّل التغلب على الصعوبات التي نصادفها على طريق الحياة. يمكن القول إن تاركوفسكي في هذا المشهد، يرفض الرمزية المجردة، ويُظهر جوهر ومسار الحياة في حركة واحدة.

10. الحظيرة المحترقة في فيلم “المرآة” 1975

الحظيرة المحترقة في فيلم "المرآة" 1975

شِعر، لقطات طويلة، تشويه الزمن، التناسق بين الماء والنار. يضم هذا المشهد مع الحظيرة المحترقة، موضوعات المخرج الرئيسية وبواعثه، في شكل رؤية صافية وشاعرية. تقنيًا، يتكون المقطع كله من خمسة كوادر فقط. يبدأ بمرور ماري المتأملة (مارغريتا تيريخوفا) عبر المنزل، هيكل خشبي جميل، مضاء بضوء برتقالي باهت. هذا المنزل هو نسخة طبق الأصل من منزل طفولة تاركوفسكي، تقوم الكاميرا بمسحه ببطء، مظهرة كل الزوايا وتفاصيل الحياة اليومية.

تتيح لك النوافذ المفتوحة تقدير التباين البصري النادر، بين المساحات الخضراء في الخارج، واللون البرتقالي الساطع للأشجار والشموع. في المشهد نفسه، يخرج صوت أرسيني تاركوفسكي، الشاعر الروسي ووالد المخرج، قارئًا قصائده الخاصة عن الذاكرة، الألم والمصير. لكن المقطع يذكّر عبر شكله البصري، وفي الوقت نفسه بالحياة والتواريخ من خلال منظور الوقت المشوه.

 بدلًا من متابعة الأبطال فورًا في موقع الحدث، تمسح كاميرا تاركوفسكي فضاء المنزل ببطء، تحطّ على الزجاجات المتساقطة، وفي النهاية، تتوقف على صورة مرآة، محاولة ألا تدفع باتجاه أي تفسيرات تتعلق بالمفاهيم، بل تستحضر العواطف والشعور بالحميمية. في الانعكاس، نرى أولًا صورة ضبابية، ولكنها مشرقة، تتوضح بعد ذلك، وتُظهر لنا طفلين، ينظران إلى الحظيرة المحترقة. ظلال من اللونين البرتقالي والأصفر على خلفية زرقاء، تأطير غير عادي، حركة الكاميرا، تركيز يخلق صورة وهمية، تبدو غير تقليدية إلى أبعد حد، حتى بالنسبة لتاركوفسكي.

نهاية المشهد عبارة عن تركيبة قوية للغاية: ماريا، شخص آخر وطفل، واقفون على خلفية الحظيرة المشتعلة في منتصف الكادر. هذه الصورة، مترافقة مع أصوات المطر، تتكشف مثل نشوة onirisme، التي تسحر الأفكار وتثيرها.

إذا كان فيلم السيرة الذاتية الغامض لـتاركوفسكي، مكرسًا للذكريات والأوهام وأجزاء من ذاكرة الشخص، المتعلقة بالمقربين، فإن هذا المشهد هو تتويج بصري لهذه الصورة، بما في ذلك أقوى عناصرها: الحنين، سذاجة الطفولة، أم شابة ومرآة كرمز حرفي لتشظي الذاكرة.

فاصل اعلاني