الذاكرة التاريخية: السينما الإسبانية تفتح ملفات الذاكرة التاريخية
4 January، 2023
أحمد عبد اللطيف
ربما منذ بداية الألفية، وفي تزايد عامًا وراء عام، بدأ سؤال الذاكرة التاريخية يشغل السينما الإسبانية وسينما أمريكا اللاتينية. المصطلح يعني العودة إلى التاريخ القريب وتسجيله سينمائيًّا عبر أحداث تتضح من خلالها قسوة الماضي وأخطاؤه، لكنه يتطلع إلى ما هو أبعد: تجنب تكرار هذه الأخطاء في المستقبل، بوعي أن الماضي جرح لا يصح أن يغلق دون تنظيفه، وإلا تسبب في صديد وتاليًا البتر.
وإذا كانت الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) وما تلاها من فرانكوية، هي الحدث الأبشع في تاريخ هذا البلد، فالديكتاتوريات اللاتينية الممتدة على طول القرن العشرين خصوصًا في منتصفه، سلسلة من المآسي والخروقات لكرامة الإنسان وتهديد أمنه ومستقبله.
وإذا كانت السينما الناطقة بالإسبانية قد سجلت على مدار عقود هذه التراجيديا، إلا أنها في الألفية الجديدة راحت إلى تفاصيل أكثر وأدق، لم يكن الحدث الكبير هو بطلها، وإنما التفاصيل الصغيرة والفرعية التي تؤثر على الفرد، وعلى المجتمع، باعتباره مجموعة أفراد.
من هنا جاء المشروع الإسباني المعنون بـ”إحياء الذاكرة التاريخية”، وهو مشروع اجتماعي/تاريخي ظهر في العقد الأخير، وسعى إلى رصد الانتهاكات التي أحدثها النظام الفرانكوي على مدار ما يقرب من أربعين عامًا، ولعل أفظعها المقابر الجماعية المجهولة التي ضمت رفات معارضين وأبرياء لم تعرف عنهم عائلاتهم شيئًا. هذا المشروع الممول من قبل الدولة الإسبانية بدأ رحلة اكتشاف هذه المقابر وإجراء تحاليل كشف الهوية من قبيل احترام مشاعر عائلات المتوفين من ناحية، ومحاولة للاعتذار من ناحية أخرى، والأهم الاعتراف بأخطاء فرانكو ورجاله.
انطلاق المشروع الذي يقدّر المعرفة كقيمة يدخل في بنودها الكشف التاريخي والسياسي، تبعه مشروع آخر سينمائي أسهم بقدر كبير في تسليط الضوء على مقابر منسية وأناس منسيين، وإذ تفعل ذلك تطلق جرس إنذار للمجتمع بأن البلد الذي يخوض حربًا أهلية يظل هشًّا ومهددًا بحرب أخرى مهما مر الزمن، متكئًا على جماليات فنية تكسر الرسالة المباشرة وتعيد للفن مجده كوسيلة لفهم العالم والفرد.
أفلام الذاكرة التاريخية أسهمت بقدر كبير في تسليط الضوء على مقابر منسية وأناس منسيين من الحقبة الفرانكوية
إرهاصات عن الذاكرة
ظهرت الإرهاصات الأولى لهذا النوع من الأفلام في فترة سابقة، ففي 1979 عُرِض فيلم “7 أيام في يناير” للمخرج خوان أنطونيو بارديم، وتناول المجزرة التي حدثت في شارع أتوتشا بوسط المدينة في يناير عام 1977، إذ جرى اعتداء إرهابي قامت به مجموعة من اليمين المتطرف على مكتب محامين عماليين على صلة بالحزب الشيوعي بأتوتشا، راح ضحيته أربعة محامين وموظف وأصيب أربعة محامين آخرين. هذه المجزرة هي الأخطر في مرحلة حرجة في تاريخ إسبانيا: الفترة الانتقالية التي يعاد فيها تشكيل البلد سياسيًا ودستوريًا.
وفي تشيلي عام 2006، عُرِض الفيلم الوثائقي “مدينة المصورين الفوتوغرافيين”، للمخرج سيباستيان مورينو، ويتناول المصورين والصحفيين الذين سجلوا الإضرابات والمظاهرات وضحوا بحيواتهم خلال فترة حكم بينوتشيه. وفي 2018 جاء فيلم “بيتوريا، 3 مارس” للمخرج الإسباني بيكتور كاباكو، لتناول مذبحة 3 مارس لعام 1976.
مع ذلك، ففكرة تسجيل الذاكرة عبر السينما تأكدت بعد وصول اليسار إلى السلطة الإسبانية عام 1982، وكان الهدف إحياء ذكرى الحرب الأهلية. هكذا ظهر فيلم “قداس من أجل فلاح إسباني” (1985) للمخرج فرنسيس بيتريو، المأخوذ عن رواية سيندير، ويطرح نقدًا للكنيسة الإسبانية؛ و”مذكرات الجنرال إسكوبار” (1985)، عن قتل الجنرال إسكوبار رميًا بالرصاص عام 1940؛ و”حرب المجانين” (1986) لمانويل ماتخي؛ و”لوركا: موت شاعر” (1987)؛ “لو قالوا لك إني مت” لبيثنتي أراندا، المأخوذ عن رواية خوان مارسيه. بالإضافة إلى أفلام وثائقية عن شخصيات عامة مثل رامون ميركادير، بلاس إنفانتي، أجيري.
تأكدت فكرة تسجيل الذاكرة عبر السينما بعد وصول اليسار إلى السلطة الإسبانية عام 1982.
الذاكرة التاريخية كتنظير
مع ذلك، لا يمكن اعتبار الأفلام السابقة من ضمن الأفلام المقصودة في هذا المقال، حتى وإن تلاقت معها في نقد الفرانكوية أو رصدت حادثة من حوادثها المؤسفة. فتصنيف أفلام الذاكرة التاريخية في السينما الإسبانية يبدأ من بداية الألفية، حين قرر إميليو سيلبا وسانتياجو ماثياس تأسيس جمعية من أجل استعادة الذاكرة التاريخية وطالبوا بدعم للبحث عن المقابر الجماعية لضحايا الحرب الأهلية. في العام نفسه، وافق البرلمان الكتالوني على قانون لتعويض ضحايا القمع الفرانكوي. وفي 2003 أقرت مقاطعة أندالوثيا عمل دراسة شاملة لاستعادة الذاكرة التاريخية لما حدث تشمل المختفين خلال الحرب الأهلية وما بعدها. وفي 2005 تأسس المركز الوثائقي للذاكرة التاريخية في سلامنكا، وفي جامعة كومبلوتنسي بمدريد تأسس كرسي فوق العادة للذاكرة التاريخية في القرن العشرين. وفي 2007 تمت الموافقة من قبل الدولة على قانون الذاكرة التاريخية لصالح من تعرضوا للمطاردة أو العنف خلال الحرب الأهلية والديكتاتورية.
جاء دور السينما مواكبًا لهذا الحراك المجتمعي، وتناول الكثير من الأفلام موضوع قوانين الذاكرة. نقطة الانطلاق كانت فيلم “لغة الفراشات” (1999) للمخرج خوسيه لويس كويردا وسيناريو رفائيل أثكونا، المأخوذ من “كتاب القصص” لمانويل ريباس. يبدأ الفيلم مع المدرس جريجوريو وهو يركب شاحنة متوجهًا إلى مصيره التراجيدي. تلاه فيلم “الصمت الممزق” (2001) لمونتشو أرمنداريث، وطرح وضع النساء في فترة ما بعد الحرب. و”قلم النجار” لأنطون ريكسا، المأخوذ من رواية لمانويل ريباس، ويحلل القمع في جاليثيا وحالة السجون. ثم “حتى لا تنساني” (2005) للمخرج باتريثيو فيريرا، وهو فيلم طالب بتأسس ذاكرة لفترة ما بعد الحرب.
بداية من 2007، تتزايد الأفلام التي تعالج القمع الفرانكوي بطريقة قاسية. يطرح فيلم “13 وردة لمارتين لثارو” (2007)، المأخوذ من دراسة لكارلوس فونسيكا، قصة موت 13 فتاة تابعة للشباب الاشتراكي الموحد في مدريد ما بعد الحرب. فيما يتناول “الجديدة الطيبة” (2008) للمخرجة هيلينا تابيرنا جهودات كاهن لمواجهة موجة جرائم. في العام نفسه أخرج خوسيه لويس كويردا “عباد الشمس الأعمى”، ليسلط الضوء على المختفين قسريًا بعد الحرب. وفي “نجمات تُطال”، لمايكل رويدا، وصف تفصيلي لسجن النساء في ساتوراران.
في إطار مشابه، يأتي “الصوت النائم” (2011) لبينيتو ثامبرانو، المأخوذ عن رواية دوكلي تشاكون، ليتناول السجن النسائي. غير أن أجوستي بيارونجا يرسم في “أسود” (2010) كتالونيا ما بعد الحرب. أما في “السنوات الوحشية” فيعكس فرناندو كولومو مشكلة وادي الساقطين، الذي شيده فرانكو مقابر لأتباعه، ويسلط الضوء على هروب سانتشيث ألبورنوث ومانويل لامانا. ويتناول “سلفادور” (2006) لمانويل ويرجا، إعدام الشاب الأناركي الكتالوني سلفادور بويج.
جرأة في الطرح
في السنوات الأخيرة، ثمة جرأة لافتة فرضت نفسها. هكذا نجد “صمت الآخرين”، وهو فيلم وثائقي طويل للمخرج ألمودينا كاراثيدو وروبيرت بهار (2018) يبحث في جرائم الفرانكوية. وفي “فيما تستمر الحرب” (2019) تناول تحليلي لحالة المفكر الكبير ميجيل دي أونامونو. وفي “القبو اللانهائي” (2019) لجون جارانيو، طرح لمسألة المعارضين المختبئين في بيوتهم من خلال قصة زوجين شابّين قضيا ما يزيد على ثلاثين عامًا في حياة سرية؛ الزوج محبوس فلا يرى الشارع، والزوجة تخرج لقضاء حاجاتها. وحين تحمل المرأة تضطر للوضع في مدينة أخرى وتعود بوليدها باعتباره ابن أختها. وفي 2021 أسهم المخرج الشهير بدرو ألمودوفار في هذه الموجة بواحد من أكثر أفلامه نجاحًا “أمهات موازيات”، وتناول فيه تحريك أهالي ضحايا الحرب المختفين للبحث في المقابر الجماعية والعثور على ذويهم. ورغم أن ألمودوفار مخرج جمالي ونادرًا ما يذهب لتناول السياسة، فإنه استجاب لمشروع الذاكرة التاريخية كالتزام لا فرار منه.
في سينما هذه السنوات، يتراجع القمع الجمهوري إلى حد ما. ومن الأفلام الفارقة في تناول هذه الثيمة “جنود سالامينا” (2002) للسيناريست والمخرج دابيد ترويبا، المأخوذ عن رواية خابيير ثيركاس. يتناول العمل إعدام رفائيل سانتشيث ماثقس رميًا بالرصاص. كذلك فيلم “إله محرّم” (2013) لبابلو مورينو، ويصف استشهاد 51 عضوًا من طائفة الكلاريتين المسيحية، ويتناول قصة بدرو بوبيدا، وهو كاهن تربوي ذو هم اجتماعي لقي مصرعه في مدريد عام 1936.