السينما الكردية: كردستان تتحول استديو كبير .. وبدايات نهضة فنية
13 June، 2023
إعداد سعيد محمود
في مراجعة لقائمة الأفلام العراقية التي كانت ضمن الترشيحات الأولية لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، خلال العشرين عامًا الماضية، نلحظ أن أغلب الأفلام المرشَّحة كانت من إقليم كُردستان العراق. آخرها كان فيلم “الامتحان” للمخرج شوكت أمين كوركي. وهو الفيلم الذي سيمثِّل العراق في الترشيحات الأولية لأوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام 2023. مع العلم أن أمين كوركي دخل هذه القائمة مرتين من قبل. كانت المرة الأولى عام 2016 عن فيلمه “ذكريات منقوشة على حجر”.
حتى لحظة كتابة هذا المقال، حقَّق فيلم “الامتحان” عشر جوائز عالمية. جميعها من مهرجانات كبرى، مثل مهرجان “كارلوفي فاري”، مهرجان “سانتا باربارا السينمائي الدولي” في أمريكا، مهرجان “القاهرة السينمائي”، وغيرها. كما شارك- الفيلم- في الدورة الأولى من مهرجان “البحر الأحمر السينمائي الدولي”.
قكيف حقَّقت السينما الكُردية هذا الحضور العالمي في العقدين الأخيرين؟ وكيف تمكَّن إقليم كردستان العراق من تقديم نفسه كدولة في السينما؟
البدايات
يذكر الباحث السينمائي إبراهيم حاج عبدي في كتابه “السينما الكردية”، الذي صدر عن مهرجان القاهرة السينمائي في دورته السادسة والثلاثين، أن “السينما الكردية” مصطلح إشكالي نتيجة للوضع الكردي المعقد سياسيًّا وجغرافيًّا، وانقسام الشعب الكردي بين أربع دول. هي: تركيا، إيران، العراق، سوريا.
الباحث الفرنسي بوريس جيمس، والباحث السويسري جوردي غورغاس يتفقان مع إبراهيم حاج عبدي حول إشكالية مصطلح “السينما الكردية”. لكنهما يضيفان أنها أكدت على فرادتها وتنوعها خلال 500 فيلم قدمته حتى عام 2018.
يتَّحدث حاج عبدي في كتابه عن أول فيلم سينمائي عن الأكراد، وهو فيلم “زاريا”، قائلًا: “في الاتحاد السوفييتي السابق. بعد الثورة البلشفية في مطلع عشرينيات القرن الماضي. بدأ السينمائيون السوفيت في آسيا الوسطى بتأسيس سينماهم القومية. ومن بين هؤلاء كان السينمائيون الأرمن يشقون طريقهم في أرض وعرة. وفي طليعة هؤلاء المخرج الأرمني المعروف آمو بيك نزاريان، الملقب بيك نزاروف. والذي يقترن اسمه بأفلام مهمة أُنجزت في هذه الجمهوريات خلال تلك الفترة. وذلك حسبما يقول الباحث برهان شاوي في كتابه “مدخل إلى السينما الكردية”.
ويرتبط اسم هذا المخرج الأرمني بأول فيلم سوفييتي عن الأكراد، اسمه “زاريا”. في العام 1926 توجه بيك نزارف مع فريق عمله إلى منطقة جبال “آراكاسي”، حيث يعيش الكرد؛ ليخرج هناك فيلمه الروائي “زاريـا”. ذلك الذي يتحدث عن حياة الأكراد قبل ثورة أكتوبر. كانت مهمته صعبة في ظل غياب المصادر. فقام بدراسة عادات الأكراد وتقاليدهم وتاريخهم وقبائلهم. كما أخذ يملي استمارة شخصية على عدد من الأكراد. تتضمن أسئلة عن معتقداتهم، وطريقة عيشهم، ومهنهم، وأعيادهم، وطقوسهم. ثم استند إلى إجاباتهم في بناء عوالم فيلمه الذي يتحدث عن قصة حب، على خلفية الصراع بين رجل إقطاعي وأحد الرعاة البسطاء. حول فتاة فقيرة اسمها “زاريا”.
كانت التجارب السينمائية التي قام بها مخرجون أكراد في الدول الأربع (تركيا وإيران والعراق وسوريا متواضعة). وذلك بسبب القمع الذي مورس ضدهم. ورفض هذه الدول لوجود أفلام سينمائية ناطقة باللغة الكردية. أو التي تطرح قضايا متعلقة بالأكراد. لكن الحال تغير بعد حصول المخرج الكردي التركي “يلماز غوناي” على السعفة الذهبية من مهرجان “كان” السينمائي عام 1982.
كانت هذه السعفة كينبوع النور المنبثق من جهاز العرض السينمائي. ذلك الينبوع الضوئي الذي يشق ظلام الصالة، ويعرض السحر مفرودًا على شاشة كبيرة. أصبحت سعفة يلماز غوناي نورًا وطاقة إيجابية دعمت السينمائيين الكرد في كافة أرجاء العالم. حتى أن بعضهم اتخذ السينما سلاحًا للدفاع عن قضيته. هذا ما نقرؤه في رواية “بندقية أبي” للمخرج الكردي الفرنسي “هنر سليم”، على لسان بطل الرواية الذي يجسد طفولته ومراهقته. حيث يقول إن نضال والده البيشمركة ببندقيته القديمة “البرنو” لم يعد مجديًا للدفاع عن القضية الكردية؛ لذلك اختار هو سلاح الكاميرا للدفاع عن قضيته. اختار السينما.
لا بدَّ من شرح جغرافي وسياسي وتاريخي موجز لإقليم كردستان العراق. وذلك لفهم النتائج السينمائية التي نراها اليوم. ففي عام 1991 حصل الأكراد على استقلالهم، بعدما فرض المجتمع الدولي حظر طيران على الإقليم، فجعله ملاذًا آمنًا للكرد. حدث ذلك بعد انتفاضة الكرد، وبعد مجازر الأنفال التي قام بها نظام صدام حسين ضد الشعب الكُردي في (شمال العراق) حسب تسمية نظام البعث. أو في كردستان العراق حسب تسمية الكرد أنفسهم.
وبعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 حصل الكرد العراقيون على استقلالية أكبر في مناطقهم، وظهر دعم أكبر للسينما الكردية من قبل حكومة إقليم كردستان العراق، والتي شاركت بشكل رسمي في إنتاج أفلام سينمائية كردية على المستويين المحلي والعالمي. وقد أسست الحكومة مديرية خاصة بالسينما تتبع وزارة ثقافة كردستان. لا تزال هذه المديرية مستمرَّة في دعم الإنتاج السينمائي والمخرجين الكرد.
كانت التجارب الكردية ضعيفة؛ بسبب رفض الدول المحيطة وجود أفلام ناطقة بالكردية أو طارحة لقضايا الأكراد، لكن الحال تغيَّر بعد فوز “يلماز غوناي” بالسعفة الذهبية.
أصبحت سعفة يلماز غوناي نورًا وطاقة إيجابية دعمت السينمائيين الكرد في كافة أرجاء العالم.
مهرجانات كردية
ظهر العديد من المهرجانات السينمائية المتنوِّعة كدعم للسينما في كردستان العراق بعد عام 2003. أغلب هذه المهرجانات لم يكن احترافيًّا. بل كان ضمن هياج وطني، وبشعارات كبيرة وأسماء كمهرجانات تختص بمجازر الأنفال، أو العنف ضد المرأة، أو الأفلام الوثائقية التي توثق قضايا الكرد.
توجَّه قسم كبير من الشباب المتحمس، خريجي معاهد الفنون، لتصوير وإنتاج أفلام قصيرة. تم تقديمها في هذه المهرجانات للحصول على جوائز مادية، وبعض الشهرة تحت كاميرات التلفزة والصحافة التي تغطي المهرجانات. استمرت المهرجانات وتعدَّدت ضمن فورة زائدة عن الحاجة. فكانت مهرجانات كثيرة وإنتاج سينمائي قليل!
في عام 2014 بعد هجوم داعش واندلاع الحرب، توقفت كافة المهرجانات السينمائية في إقليم كردستان العراق. وبعد التحرير وانتهاء الحرب استمرت المهرجانات الكبيرة، مثل “دهوك السينمائي الدولي”. والذي يعد أكبر وأقدم المهرجانات السينمائية في إقليم كردستان العراق. وقد أنهى فعاليات دورته التاسعة مؤخرًا. كما ظهر مهرجان آخر كبير، هو مهرجان السليمانية الذي عقدت دورته الأولى عام 2016. وبالطبع استمرَّت مهرجانات أخرى، أو ظهرت بأشكال محتلفة. لكن انتهت فورة المهرجانات الكثيرة التي كانت ظاهرة واضحة قبل 2014.
في العقد الأخير، تحول كردستان العراق إلى أستديو كبير. مدن أربيل ودهوك والسليمانية استقبلت طواقم تصوير العشرات من الأفلام السينمائية. بعضها أفلام سينمائية كردية لسينمائيين كورد قادمين من أوروبا مع فرق عملهم، لتصوير أفلامهم في كردستان، مثل أفلام “هنر سليم”، و”مانو خليل”. وبعضها الآخر أفلام أوروبية تتناول موضوعات كردية. لا سيَّما الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي. مثل فيلم “أخوات السلاح” للمخرجة الفرنسية كارولين فوريست، الذي صُورت مشاهده بين كردستان والمغرب. وتم تقديمه في افتتاح مهرجان السليمانية الدولي في نسخته الرابعة عام 2019، بحضور المخرجة وبطلات الفيلم.
وبسبب توافر الأمان والخدمات، لم يتوقف الأمر عند تصوير الأفلام السينمائية. حيث بدأ تصوير بعض المسلسلات السورية في إقليم كردستان العراق كمسلسل “ليلة السقوط”، إنتاج 2023 للمخرج ناجي طعمة. كما أن بعض المنتجين والمخرجين السوريين يقومون باستطلاعاتهم في الإقليم حاليًّا؛ بهدف تصوير أعمال قادمة.
إعادة الأمل
الأفلام السينمائية تنتج ويصرف عليها مبالغ ضخمة لتحقيق الأرباح في النهاية من شباك التذاكر، والصناعة السينمائية ليست مجرد نشاط خيري أو دعائي أو “بريستيج”!، والصالات السينمائية القديمة في كردستان العراق تم إغلاق أبوابها بسبب خلوها من الرواد. بعض هذه الصالات القريبة من قلعة أربيل، ما زالت موجودة، لكنها مهجورة. عليها بقايا أفيشات أفلام قديمة شاهدة على عصر مضى. والصالات السينمائية الجديدة في المولات الحديثة، أغلبها فارغ. كما أن رواد هذه الصالات المعتادين في غالبيتهم من الأجانب، وليسوا من السكان المحليين.
حول المشكلات التي تواجه السينمائيين في كردستان يقول لنا المخرج شوكت أمين كوركي: “يمكن تلخيص المشكلات في عدم وجود صناعة سينمائية حقيقية في كردستان. لا يوجد سوق سينمائي في الإقليم، ولا في العراق بشكل عام. صالات السينما لدينا خالية من الرواد. من ناحية أخرى نعاني من قلة المحترفين كتقنيين في المجال السينمائي، خاصة في مجال الأفلام الفنية “آرت هاوس”؛ لذلك نضطر لطلب تقنيين وكوادر من الخارج للعمل أمام وخلف الكاميرا. كما أن العمليات الفنية فيما بعد الإنتاج، تتم بمجملها خارج إقليم كردستان. في أوروبا غالبًا”.
في السنوات الأخيرة، تخرَّج عدد لا بأس به من الشبان والشابات الكرد في المعاهد السينمائية بالإقليم كتقنيين ومخرجين وممثلين. كما اكتسب آخرون خبرات لا بأس بها من خلال العمل في الأفلام التي تم تصويرها في كردستان. من ناحية أخرى، حقق كل من مهرجان “السليمانية” ومهرجان “دهوك” حضورًا جماهيريًّا متزايدًا في الدورات الأخيرة. وهو ما يعيد الأمل في بث الروح في الصالات السينمائية من خلال تزايد الحضور الجماهيري. العديد من الأفلام التي عرضت في مهرجان “دهوك” لم يستطع الكثيرون حضورها؛ بسبب نفاد البطاقات قبل العرض بأيام. كما أن ممثلين محليين تكرسوا بقوة كنجوم سينمائيين. مثل بانكين علي، وحسين حسن، اللذين تقاسما جائزة أفضل ممثل في الدورة الأخيرة من مهرجان “دهوك” السينمائي الدولي، وسط عاصفة من التصفيق، وهيجان الجمهور.
ربما تكون هذه المؤشرات بدايات نهضة فنية أكبر. وصناعة سينمائية كردية حقيقية في قادم الأيام.
حقق مهرجان “السليمانية” ومهرجان “دهوك” حضورًا جماهيريًّا متزايدًا في الدورات الأخيرة، ما يعيد الأمل في بث الروح في الصالات السينمائية.