• English
  • 20 يناير، 2025
  • 4:18 ص

السينما والبحر حكايات إنسانية مُبلَّلة بطعم الغرق

السينما والبحر حكايات إنسانية مُبلَّلة بطعم الغرق

عبد الله صرداوي

12 August، 2024

عبد الله صرداوي

لطالما كان البحر ملاذ الفنانين، ومصدر إلهامهم، ومعين إبداعهم، منه يمتحون شعورهم بالأشياء، ويستقون إبداعهم الذي لا يستفزه أحيانًا غير القرب من البحر، هو نهج صار على خطاه صناع الفيلم من كتاب السيناريو ومخرجي الأفلام، في هذا المجال من الاشتغال ثمة خيط رفيع مغزول بعناية خاصة، ينظم علاقة السينما بالبحر كيفما كان نوعها (روائية/وثائقية)، فتمثل البحر على الشاشة تحكمه دلالات مغايرة تتفرَّد بها السينما، كفنٍّ قائم على خصوصية الصورة/الصوت بشكل أساسي، دلالات تخضع لمنطق الألوان والضوء والظلِّ والفراغ وعمق المجال والإطار والصوت … بالتالي يكون حتمًا لكل فيلم/مخرج تصوُّره الخاص، وبحره الخاص أيضًا.

سنحاول الاشتغال على تيمة البحر بشكل من الأشكال، سنقارب عملين إبداعيين احتفيا بالبحر ورجاله ومحيطه وظلماته وطقوسه، حيث لا تكاد الكاميرا تغادر البحر لتعود إلى البر، إلا لتفتح ثقوبًا سوداء، نرى من خلالها مصائر الشخصيات ومعاناتهم  (الهجرة/معاناة الصيد)، سنفتح نافذة على هذه المعاناة  المتكررة من خلال فيلمين وثائقيين لمخرجين مهمَّين، بصما على شكل فني فريد، في توسل موضوع البحر بالنظر إلى نوعية وطريقة اشتغالهما، حتى انتمائهما الجغرافي يفصل بينهما بحر أبيض متوسط، هو بلا شك ظل خزان لا ينضب من حكايا العابرين والباحثين عن لقمة العيش، وهما المخرج المغربي جواد غليب بفيلمه “معذبو البحر”، والمخرج الإيطالي جيانفراكو روزي بفيلمه “نار في البحر”.

تبدو حكايات البحر حكايات أثيرة لدى المخرجين الوثائقيين، فلطالما شغلت اهتمامهم وسحبتهم إلى الإبحار نحوها، بحيث قدمت نفسها وكأنها حكايات لا ينضب معينُها، وما زالت تتجدد بتجدد تحركات وتقلبات موج البحر، ومعها تتجدد الحكايات، وتتشكل رؤى المخرجين وتصوراتهم دون توقف. ثمة دائمًا مد وجزر في عملية إنتاج السينما لحكايات البحر، وفي كل مرة لا تعيد نفس الحكاية، فغالبًا ما تتشكل رؤية المخرج وتصوره في قالب زمني ومكاني مغاير، له إمكانية احتواء حكاية لها علاقة حتمية مع البحر، يكون أبطالها أناسًا في رحلة بحث مضنية- وأحيانا مميتة- عن النجاح والصعود من القاع الاجتماعي والاقتصادي، ومحاولة إدراك ركب حياة أفضل.

تمثُّل البحر على الشاشة تحكمه دلالات مغايرة تتفرَّد بها السينما كفنٍّ قائم على خصوصية الصورة/ الصوت بشكل أساسي.

في هذا المجال من الاشتغال ثمة خيط رفيع مغزول بعناية خاصة، ينظم علاقة السينما بالبحر، سواء كانت روائية أو وثائقية.

معذبو البحر

وقبل الخوض في غمار أحداث الفيلم الوثائقي الأول “معذبو البحر”، نقرُّ بأن المخرج جواد غليب قدم نفسه كمخرج وثائقي ذي حساسية فنية عالية، وهو من بين المخرجين المتنوعين، الذي بصم في كل فيلم جديد على تجربة مغايرة. مخرج موهوب، يملك رؤيته الخاصة التي تراهن على الحقيقة، مما جعله جديرًا بموضوعات مهمة يختارها بعناية، دقيقًا في تقديم نماذج فردية وحكايات إنسانية غاية في الصدق، يعرف كيف يحوك حبكة أفلامه بخبرة وحرفية بالغة، إنه واحد من الكبار المنزاحين عن النمطي والسائد، يسعى دائمًا إلى توسل تصورات نابعة من خصوصية ثقافته وبلده.

فيلم “معذبو البحر” لا يتكئ على الترفيه والإبهار البصري ومحاولة تقديم أجوبة جاهزة، ولا يستغل المشاهد الكاملة للكارثة والوجع والحرمان والقهر، بل يقدم الحكاية ذهابًا وإيابًا بين سواحل مدينة الداخلة المغربية، حيث بحَّارة تقليديون يعانون قلة الحيلة، وضيق الرزق بين أعماق البحر، حيث وحوش الصيد/سفن الصيد في أعالي البحار، بالتالي ثمة خيط ناظم لحكاية الفيلم، يؤثثها هذا الرابط غير المتوازن، إذ يبدو الفيلم منذ بدايته، كما لو أنه يلتقط شتات حكايات إنسانية قاهرة، تطفو فوق أمواج البحر، اختارت بعناد أن تحافظ على بللها، بالرغم من الظلم والتضييق والقهر. يتعامل الفيلم بحياد غامض، ربما تبرره أخلاقيات صناعة الفيلم الوثائقي، حيث اكتفى بنقل وضع البحَّارة الذين يرضخون تحت وطأة  الفقر؛ نتيجة تراجع فرص الصيد البحري، الذي هو رزقهم الوحيد، يتابع معيشهم وسط البطالة، وانعدام شروط العيش الكريم، وينقل حقائق مهمة هي سبب مباشر في تفاقم وضعهم المعيشي، وضع محير لا يفسره غير ارتباطهم بالبحر، وثقتهم فيه، وإيمانهم بأنه قادر أن يسع الجميع بفضله وخيراته، لولا جشع الإنسان وتطاوله واستغلاله المفرط، فعلى طول الجزء الأول من الفيلم يحقق المخرج بؤرة صراع غاية في البراعة والإتقان، حيث عرف كيف يستفيد من وضع فئة من المجتمع المنسي/البحَّارة أمام المجهول الذي يبدو أن له فاعلية فنية كبيرة، ساعدت كاميرا المخرج على الكشف عن نوازع وخوالج نفوس إنسانية محرومة ومقهورة، يشهد على مأساتها بحرٌ تجمعهم معه علاقة حب وشراكة وعيش وخدلان أيضًا، وبالرغم من ذلك يرابطون بقربه، ينتظرون أن يصل صوتهم المبحوح والمجروح، في المقابل يبحر المخرج مع سفينة للصيد في سواحل الداخلة، ينقل لنا أجواء الصيد وكيف يعيشون معاناة أخرى بلا اتصال –في رأيهم- مع ما يقع في الشواطئ القريبة منهم، ينقلون لنا حكاية عشق أخرى مغايرة مع البحر.

ثمة حساسية مفرطة تلتقطها عين الكاميرا لبيئة متوحشة، تفترس حيوات كاملة لفئة من الناس، مأخوذة بأجواء الأمل، وانتظار انفراج الأزمة، زفرات موجعة، وابتسامات حزينة، ووجوه بكيمياء قاسية، أجواء مؤثرة تشكل مفتاح تأمل الفيلم، وتفتح نافذة التعامل الفني للمخرج، مع تصوره في لحظة انصهار الشخصيات وتماهيها مع البحر، تفتح هذه الأجواء باب التعامل مع ماضٍ جميل، في محاولة ربط متقشفة وهشة مع واقعهم الحالي المضغوط والقابع في الحضيض.

يبدو فيلم “معذبو البحر” كما لو أنه يلتقط شتات حكايات تطفو فوق أمواج البحر، محافظة على بللها، رغم ما بها من ظلم وتضييق وقهر.

لا يعتمد المخرج جواد غليب في فيلمه على الترفيه والإبهار البصري، بل يقدِّم حكاية بحارة تقليديين، يعانون قلة الحيلة، وضيق الرزق بين أعماق البحر.

حريق في البحر

بين المخرج جواد غليب والمخرج جيانفراكو روزي أكثر من خيط ورابط، طموحهما الشخصي والمهني في الفيلم الذي يتكئ على طموح الناس، ودافعهم القهري لمعانقة ومجابهة البحر، دون اعتبار لما تؤول إليه النهايات، إذ يحكم تصورهما نفس المخاوف والانتظارات، وأحيانا نفس النتائج والمصائر، إما الموت أو انتظار فرج بعيد، وفي لحظة الانتظار ثمة موت آخر يخنقهم كل يوم، وفي النهاية تطغى حقيقة ثابتة ومؤلمة، وهي أن الجميع ضحايا.

تدور أحداث “حريق في البحر” فوق جزيرة «لمبيدوسا» الإيطالية، وتارة أخرى في أعماق البحر، على مدار سنين طويلة تتلقف الجزيرة أشلاء الهاربين من جحيم الفقر والقهر والبؤس، ولطالما اعتبرت أرض خلاص وملاذ المطحونين وغير المرغوب فيهم، ومقصد قوارب الموت/الهجرة عبر بحر عريض، هو جسر عبورهم الوحيد نحو العيش الكريم والنجاح.

منذ البداية يبدو قدر الشخصيات مترابطًا، وبينهم روابط يتحكم في تشكيلها البحر، حيث يبدو أن مصائرهم واحدة، وإن تعددت ظروف عيشهم. ثمة سحر فني بالغ الجمال، ينثره المخرج بجرأة بالغة، حيث يضع المشاهد أمام ينبوع من المتتاليات المرتبة بعناية، والتي تتشكل في إيقاع سلس ومنظم يقود إلى نتائج واضحة بلا تعقيدات، هو توسل قاده إلى تقوية الفيلم على المستوى الدرامي، الشيء الذي جعل الفيلم ينبض على إيقاع أمواج البحر، وموجات راديو الإغاثة منذ البداية، ما جعل حكايات الناس في علاقتهم بالبحر تبدو مؤثرة وصالحة للتأمُّل والتفكُّر، يتوسل في ذلك بلُحمة من المشاهد البحرية المهمة التي تؤدي دورًا رئيسًا في وضع المشاهد أمام تصور عام للفيلم، تنحصر في المشاهد الأولى، وهو إجراء أتاح للمخرج أن يضع المشاهد مباشرة في عرض البحر، حيث فئات من الناس تعاني جحيم الغرق، والموت بردًا وجوعًا، ومهَّد له بشكل سلس للانتقال إلى الخطوات الأخرى الداعمة لتصوره للأحداث وتتابعها، ليصل بنا المخرج في لحظة معيَّنة إلى ذروة الفيلم، حيث يرغم كاميرته على دخول غمار تجربة بحرية مؤثرة ومؤلمة، سيبحر مع طاقم إنقاذ إلى عرض البحر، لنقف على مأساة إنسانية حقيقية، دون مواربة أو تواطؤ، وبشفافية غالبة (مشاهد الموتى من المهاجرين ملفوفة في أكياس بلاستيكية، بطن يهتزُّ من الهلع وأنفاس متقطعة، غناء بلحن البكاء، ألم، قسوة وسجن وجوع وعطش …)، لحظات قاسية أشبه بالمحاكمة، فالشخصيات عوض أن تتطور داخل فضاء مؤطر جزئيًّا بواسطة الكاميرا، تحسُّ بأن حدود هذا الإطار تتحول إلى حدود فيزيقية، تمنعها من حريتها، وتجعل المشاهد سجين قسوة حقيقية، إذ يبدو أن تضييق الإطار على الوجوه يخلق رابطًا بين هذه الوجوه، والمشاهد لا يستطيع أن يتحرر منه ولو بعد حين، هكذا نرى أن تضييق الإطار على بعض الشخصيات يعكس من خلاله المخرج قمعها وبؤسها وظلمها.

لقد نجح المخرج جيانفراكو روزي من خلال فيلمه “حريق في البحر”، في تقديم مداخلة عشق في فن السينما الوثائقية، وأبدع فيلما آخر بديعًا في انحيازه لما هو إنساني، وعميقًا في طرحه، ومؤثرًا إلى زمن طويل جدًّا، فعلى مدى الدقائق التي تشكل زمن الفيلم (109 دقيقة)، يغزونا صدق ثابت لا يزعزعه شيء، ويفيض علينا الفيلم بأحاسيس تعكس واقعًا في أقصى مداه الإنساني، فيلم يخلق له القدرة على نحت ذكريات يستعصي نسيانها، يؤكد من خلاله مخرج عبقري كيف تكون السينما معبرة وعظيمة، عن مثل هذه السينما قال جون لوك غودار يومًا، وهو يقارنها بالتلفزيون: “السينما تخلق الذكريات، فيما التلفزيون يفبرك النسيان”.

في فيلم “حريق في البحر” يبدو قدر الشخصيات منذ البداية مترابطًا، حيث إن مصائرهم واحدة، وإن تعددت ظروف عيشهم.

نجح المخرج جيانفراكو روزي في تقديم مداخلة عشق في فنِّ السينما الوثائقية، حيث على مدار الفيلم يغزونا صدق لا يزعزعه شيء، وأحاسيس تعكس واقعًا في أقصى مداه الإنساني.

فاصل اعلاني