• English
  • 14 يناير، 2025
  • 7:22 ص

التايواني كاي مينغ ليانغ بأفلامه يمتحن صبر جمهوره

التايواني كاي مينغ ليانغ بأفلامه يمتحن صبر جمهوره

30 July، 2022

بقلم أمين صالح

كاي مينغ ليانغ Tsai Ming-Liang، المخرج التايواني، هو واحد من أكثر المبدعين أهمية في السينما العالمية المعاصرة. ومن أبرز مخرجي السينما التايوانية وأكثرهم شهرة. وهو يعد، مع هوْ شاو شين Hou Hsiao Hsien وإدوارد يانغ، من أعمدة السينما التايوانية الجديدة في التسعينيات، وبأفلامهم الرائعة والمدهشة استطاعوا أن يضعوا تايوان على الخريطة السينمائية العالمية، وفي الصفوف الأمامية في السينما الفنية الجادة والمبتكرة، حيث أحرزت ثناء النقاد في مختلف دول العالم، ونالت العديد من الجوائز في المهرجانات الدولية، رغم أنها جماهيرياً لا تزال تبدو مجهولة، غير منتشرة.

يقول الناقد جاريد رابفوغل (مايو 2002):”يحتل كاي مينغ ليانغ موقعاً خاصاً ومميزاً ضمن الكوكبة المتألقة، المتفتحة، من المخرجين التايوانيين الناجحين عالمياً. بينما ملحمة الحياة الحميمة والرحبة والمتعددة التوالد في تايوان الحديثة جعلت من إدوارد يانغ نجم الصالات الفنية، وبينما أفلام هوْ شاو شين التأملية والتاريخية في المقام الأول قد أكسبته موضعاً دافئاً وآمناً في قلب كل ناقد جاد تقريباً، فإن كاي مينغ ليانغ يبدو مستغرقاً، على نحو مكتفٍ وقانع بما لديه، في مجرّته الصغيرة، المحدودة، لكن المميّزة جداً، في الطرف الهادئ، الوحيد، والبعيد من السماء”.

كاي فنان متعدّد الأوجه والمواهب. هو كاتب، مخرج مسرحي وسينمائي، ممثل، حقّق العديد من الأفلام القصيرة، والأعمال الدرامية التلفزيونية، كما أخرج للمسرح عدداً من الأعمال، إلى جانب اهتمامه بالفن التركيبي installation المصوّر بالفيديو.

يقول عنه الناقد جاي ماكروي:”هو فنان بصري ذو رؤية فريدة واستثنائية، لا تحجم عن نقد قواعد السلوك والسلطات الاجتماعية الراسخة منذ زمن طويل. تركيز بؤرته على التحوّل يعمّق فهم جمهوره للتأثير الجمالي والسيكولوجي والثقافي لعالمه”.

شيء من السيرة

يمكن تتبّع عشق كاي للسينما، وأسلوبه الفريد في معالجة موضوعاته، بالعودة إلى سنوات التكوين الأولى من حياته في كوشينغ بماليزيا (التي وُلد فيها العام 1957)، حيث اختبر الإيقاع البطئ جداً للحياة هناك، وحيث كان جدّاه، من ناحية الأم، يأخذانه كل ليلة إلى السينما، فتتفتّح عيناه على تلك الأفلام الشعبية الرائجة آنذاك مثل أفلام الكونغ فو وأفلام هونغ كونغ والصين والهند وأميركا.

والداه من المزارعين الصينيين، واللذين كانا يديران كشكاً لبيع النودل في كوشنغ. لكنه منذ الثالثة من عمره نشأ عند جدّيه المدمنيْن على مشاهدة الأفلام بحيث كانا غالباً ما يشاهدان فيلمين كل ليلة. عن طفولته السعيدة نسبياً، وعن الحياة في تلك القرية الصغيرة، الهادئة، يتحدث كاي بولع، قائلاً:”الفائدة الرئيسية التي حصلت عليها من عيشي هناك، في كوشنغ، في تلك الفترة، ذلك الإيقاع البطئ جداً للحياة، والذي وفّر لي الوقت لتنمية اهتماماتي والتمتع بالحياة”.

عندما بلغ العشرين، في العام 1977، غادر موطنه ليستقر في تايبي، عاصمة تايوان، وليدرس الفيلم والدراما في الجامعة الثقافية الصينية. هناك اكتشف بزوغ جيل مأخوذ بالقيم الغربية في صخب عاصمة حديثة، في مجتمع متنام على نحو سريع، حافل بالتناقضات. كان لهذا الانتقال تأثيراً كبيراً على كاي، حسب تأكيده هو:”هذا مارس تأثيراً هائلاً على ذهني ونفسيتي. حتى يومنا، أشعر أنني لا أنتمي إلى تايوان ولا إلى ماليزيا. بمعنى ما، أستطيع أن أذهب إلى أي مكان أريد ويمكنني التأقلم والانسجام معه، غير أنني لا أشعر أبداً بحس الانتماء”.

خلال فترة وجوده في الجامعة، تعرّف على السينما الفنية الأوروبية وجمالياتها، من بينها أفلام الموجة الجديدة الفرنسية، حيث تأثر بمبدعين مثل فرانسوا تروفو، راينر فرنر فاسبندر، أنتونيوني، بريسون.

يقول كاي:”أعتقد أن الأفلام الأوروبية قريبة مني لأنها تتناول الحياة الحديثة والبشر العصريين، العاديين. إنها واقعية وصادقة أكثر”. بالنسبة لكاي، أفلام الموجة الجديدة الفرنسية والسينما الألمانية الجديدة، بوجه خاص، كانت تمثّل دليلاً مقنعاً لامكانية الفيلم كأداة نقل للتعبير الشخصي. لقد انبثق من تلك التجربة بحماسة جديدة للمخرج السينمائي بوصفه صوتاً فنياً هادياً ومؤثراً.

في تلك الفترة، سنوات الثمانينيات، كانت تايوان تشهد مرحلة الانفتاح السياسي والاقتصادي والثقافي بعد عقود من الحكم العرفي. لقد كانت تايوان تعيش حالة من التغيّر المتواصل، سائرة على مهل لكن تدرّجياً نحو الديموقراطية. ذلك التحوّل السياسي والاجتماعي وفّر الحرية النسبية في المجال الثقافي، وساعد الجيل الصاعد من الفنانين والسينمائيين على الوصول إلى موارد بديلة لتمويل أعمالهم، ولبروز نهضة سينمائية مستقلة.

كاي أصبح طرفاً في الموجة الجديدة من صناع الأفلام التايوانيين المعروفين، مثل أنج لي، هو شاو شين، إدوارد يانغ. هؤلاء لم يستفيدوا من ليبرالية تايوان فحسب بل أيضاً ساعدوا في حدوث ذلك. يقول كاي:”أنا والكثير من صناع الأفلام كنا نحارب النظام، محاولين جعله أكثر انفتاحاً. إذا نظرت إلى آسيا الآن، ستجد أن تايوان هي الأكثر انفتاحاً وترحيباً بكل طرائق صنع الأفلام”.  

طوال العقود الثلاثة الماضية، أصبح كاي مينغ ليانغ واحداً من أعظم فناني زمننا، المعلّم السينمائي الحقيقي، الذي يلهم جيلاً جديداً من صانعي الأفلام في القرن 21

بعد التخرج (في العام 1982) بفترة قصيرة، آثر كاي أن يبقى في تايوان. أسّس مسرحاً تجريبياً وبدأ في إخراج عدد من المسرحيات (ربما أربع مسرحيات)، التي كتبها أثناء الدراسة وبعد التخرّج، ومثّل في بعضها. من بينها مسرحيته “باب محكم الاغلاق في الظلام” (1983) عن نزيلين في زنزانة ينخرطان في منافسة على الملكية الخاصة حين يسرق أحدهما ملابس الآخر. ومسرحيته “خزانة ثياب في الحجرة” (1984 )، وهي عبارة عن مونودراما مثّلها كاي نفسه. عن كاتب ينهمك في كتابة سيناريو في حجرته الصغيرة، ويتعرّض لأزمة بعد أن يكتشف أن رجلاً كان يعيش في خزانة ثيابه. 

أعماله المسرحية ذات مسحة عبثية، وسمات تقشفية تقترب من نصوص صمويل بيكيت، بالذات في أعماله الأخيرة. من حيث المضمون، مسرحياته تعالج قضايا العزلة والمجتمع المعاصر، وهي الثيمة التي ستكون مهيمنة ودائمة في مسيرته الفنية. كما كتب سيناريوهات للتلفزيون وللسينما في هونغ كونغ، من بينها فيلم “الهروب” (1985) للمخرج تون وانغ.

لكن بدءاً من العام 1989، شرع كاي في إخراج أفلامه التلفزيونية، مثل: حب لا ينتهي (1989) الحائك السعيد (1989) بعيداً (1989) كل زوايا العالم (1989) اسمي ماري (1990) الحب الأول (1990) أعطني بيتاً (1991) فتيان (1991) مهْر شاو يوه (1991) أصدقائي الجدد (1995) وهو الآن ينظر إلى تلك الفترة كمرحلة تدريب أساسي خلالها عثر على صوته كمخرج.

هناك، على سبيل المثال، اكتشف للمرة الأولى التوترات اللافتة للنظر التي يخلقها الدمج بين الممثلين المحترفين والهواة. وهناك أيضاً تحرّى للمرة الأولى استخدام توظيف العمل الوثائقي في الأفلام السردية.

يقول الناقد كريس فوجيوارا في تعليقه على فيلم كاي مينغ ليانغ التلفزيوني “كل زوايا العالم“: “الفيلم، الذي هو عبارة عن دراسة لعائلة تبيع تذاكر السينما في السوق السوداء، يقدّم المسودات المبكرة للصور والحالات التي سوف تتكرر في أفلامه اللاحقة”.

كاي خلق مجموعة متماسكة وملتحمة، على نحو فذ، من الأعمال السينمائية، انطلاقاً من رؤية إنسانية عميقة، من خلالها استطاع أن يعبّر عن أفكار ومفاهيم مطلقة كالرغبة والفقد والاغتراب والانسلاب والعزلة والإفلاس العاطفي.

العلامات المضيئة

 في العام 1992 حقق أول أفلامه السينمائية “ثوار إله النيون” Rebels of the Neon God .. وهو عن قلق الشباب في تايبي، وتمردهم على واقع لا يشعرون بتوافق معه. وقد حاز على الجائزة البرونزية في مهرجان طوكيو. وجائزة أفضل مخرج وممثل في مهرجان نانت.

بعده حقّق الأفلام التالية:

يحيا الحب (1994) Vive L’Amour .. عن ثلاثة أشخاص، امرأة وشابين، يقطنون في شقة من دون أن يعلم أحدهم بأمر الآخر. يتميّز الفيلم ببطء الإيقاع، وقلة الحوار، والثيمة الأساسية هي العزلة والاغتراب.. هذه السمات سوف تصبح من العلامات أو المظاهر التي تتميّز بها أفلامه. لقي الفيلم ترحيباً من النقاد، وحاز الجائزة الكبرى في مهرجان فينيسيا، وجائزة أفضل فيلم في مهرجان سنغافوره، وجائزة أفضل فيلم وأفضل مخرج في مهرجان تايبي.

أصدقائي الجدد (1995) My New Friends .. وثائقي تلفزيوني عن الأيدز.

النهر (1996) The River.. عن أب وأم يتعيّن عليهما أن يخففا من أوجاع ابنهما الذي يعاني من ألم شديد في الرقبة. العائلة ذاتها، والممثلون أنفسهم، يكررون أدوارهم في “ثوار إله النيون”. حصل الفيلم على الجائزة الفضية في مهرجان برلين، وجائزة في مهرجان شيكاغو، وأخرى في مهرجان سنغافوره.

الثقب The Hole (1998) .. عن امرأة تسكن في شقة ورجل يسكن في الشقة الواقعة في الأسفل، يتواصلان عبر ثقب في الأرضية. حاز على جائزة النقاد العالميين في مهرجان كان، وجائزة أفضل فيلم في مهرجان شيكاغو.

كم الساعة هناك؟ What Time Is It There? (2001) .. عن امرأة تلتقي ببائع ساعات قبل أن تسافر إلى باريس. في انتظارها، هو يعدّل كل ساعات المدينة لكي تتطابق مع الوقت في باريس. حاز على جائزة أفضل تقنية في مهرجان كان، وأفضل فيلم ومخرج في مهرجان  Asia Pacific، وأفضل إخراج في مهرجان بانكوك، وجائزة تحكيم مهرجان شيكاغو.

في العام 2003، اختارته جريدة الجارديان البريطانية في المرتبة 18 من بين أفضل 40 مخرجاً في أنحاء العالم.

التناسق الداخلي

كاي مبدع بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. من جهة، الذاتية الخلاقة تلعب دوراً مهماً طوال مسيرته الفنية: الموتيفات أو الموضوعات الخاصة بالسيرة الذاتية في قصصه وحالاته تبدو جلية في كل أفلامه تقريباً. إن تجارب اللامنتمي من الموضوعات المتكرّرة التي تعيّن مناخ سينماه. من جهة أخرى، تماسك وترابط الموضوعات والشخصيات وخطوط الحبكة يجعل كل أعماله دفقاً موحّداً، متواصلاً، من الأفلام. بمشاهدة أفلامه عبر التسلسل الزمني لتاريخ صنعها، سوف تخلق قيمة إضافية للتجربة الإجمالية لفنه.    

من الخطأ الإيحاء بأن كاي يكرّر نفسه. وليس صحيحاً، بشكل مطلق، الزعم بأن كاي يصنع الفيلم نفسه المرّة تلو الأخرى. أو القول أن أفلامه مجرد فصول من وحدة كاملة. إذا كنت حسن الاطلاع على كل أفلامه فسوف تلاحظ أن ثمة تماسكاً وتناسقاً داخلياً يخلق تنويعات مرتبطة عضوياً على ثيمات محورية. كما ستلاحظ وجود تماثلات وتشابهات بين كل أفلامه.. ليس فقط في اختياره الممثل كانغ شينغ لي، الذي ظهر في كل أفلامه، إنما أيضاً في الثيمات التي تظل نفسها. 

يقول الناقد جاريد رابفوغل (مايو 2002):”العديد من المخرجين العظام يعودون، على نحو إلزامي، لتناول ثيمات سبق أن عالجوها في أعمالهم السابقة، مستخدمين ذخيرةً من الأدوات الأسلوبية المميّزة. لكن ارتقاء كاي الفني هو أكثر فرادة وخصوصية. مجموعة أعماله لا تتألف من أفلام منفصلة ومستقلة بل عبارة عن فيلم واحد لكنه مرئي من عدة زوايا مختلفة، أو مدرَك تحت تأثير حالات وأمزجة مختلفة. هذا أشبه بلوحات بايت موندريان التي تماثلاتها، من اللمحة الأولى، أكثر إدهاشاً من اختلافاتها. لكن لأنها متماثلة إلى حد بعيد فإن الاختلافات والفوارق تتخذ دلالة عظيمة”.

أفلامه ليست مريحة، وسهلة المشاهدة، بالنسبة للمتفرج. وهي ليست معنية بأن تكون سهلة ويسيرة وسلسة وممتعة.

من الثيمات المتكررة في أفلام كاي تسرب الماء داخل المساكن بطريقة لا يمكن السيطرة عليها، والتسرب يأتي من الحمّام أو المطبخ أو مصرف المياه أو من السقف أو عبر الجدران، وذلك على نحو فجائي ومزعج. ربما لهذا دلالة مجازية. لكن المؤكد أن التسرّب أمر مخيف ومقلق بقدر ما هو هزلي، وهو يوحي بأن أمراً خطيراً يحدث وينبغي تداركه.  

تمازج التراجيديا والدعابة

أفلام كاي مينغ ليانغ

كاي خلق مجموعة متماسكة وملتحمة، على نحو فذ، من الأعمال السينمائية، انطلاقاً من رؤية إنسانية عميقة، وعبر لغة سينمائية جديدة وملفتة، من خلالها استطاع أن يعبّر عن أفكار ومفاهيم مطلقة كالرغبة والفقد والاغتراب والانسلاب والعزلة والإفلاس العاطفي، متناولاً هذه المفاهيم بمزيج من الحس التراجيدي والدعابة العبثية. إنها تضفي على الرؤية التراجيدية للإنسان وللعالم لمسات من الخفّة، من الفكاهة الخفيفة غير المفتعلة، من الكياسة والجمال. في حين أن أفلامه غالباً ما تشير، على نحو يائس، إلى كليّة وجود الاغتراب، والحضور المهيمن الذي لا مفرّمنه للعزلة، إلا أنها أيضاً تحتوي على جانب هزلي في غاية الرهافة والحساسية.

في سينما كاي مينغ ليانغ تتعايش التراجيديا والكوميديا على نحو مريح. التراجيديا، في أفلامه، جلية وتتضح في طبيعة الشخصيات التي هي وحيدة وتعيسة. الكوميديا تكمن في الطريقة التي بها يُظهر لنا كاي ما لا تستطيع شخصياته أن تراها.. مع أنها قد تشعر بالوحدة إلا أنها في الواقع ليست متباعدة في ما بينها كما تعتقد هي.

فضاء بين الاتصال والانفصال

في تصويرها للحيوات الوحيدة بعمق، المنجرفة والمتنقلة على غير هُدى، فإن هذه الأفلام تقتفي بعناية شبكات سريعة الزوال، يصعب التنبؤ بها، من الأماكن أو المساحات المهجورة، والمسارات اللامرئية تقريباً، والطقوس الصغيرة التي، بطريقة ما، تربط الناس معاً. شخصيات تتواجد في المكان أو الفضاء نفسه لكن من دون أن يكون بينها اتصال حميمي. إنها تستغرق في مهماتها الخاصة، وقد تتعاون في ما بينها، لكننا لا نشعر بذلك الرباط العاطفي الذي يوحّدها. وجوه جامدة خالية من التعبير.

الأماكن المدينية الضيقة تشجع المجهولية والعزلة بدلاً من العيش الاجتماعي. وحتى لو يختار الأفراد العيش في عزلة إلا أنهم يتوقون للحب والتفاعل الاجتماعي. هذا التعارض أو التناقض، بشكل طبيعي، يثير معضلات كثيرة.

أفلام كاي تحكي عن الأماكن بقدر ما تحكي عن الأفراد: الشقق المتصلة ببعضها، البيوت المهجورة، صالة السينما. يقول الناقد أ. سكوت:”كاي، على نحو نموذجي، يستخدم السرد كوسيلة لتحرّي الحالات والمعاني التي تربط شخصياته بعضها ببعض، وبالمدينة التي توقظ رغبات الشخصيات وتكبحها وتثبّطها. الشخصيات تبدو عالقة جداً في عالمها”. الشخصيات تحاول أن تتكيّف مع الأماكن التي تجد نفسها ضمنها. الأفعال اليومية تصبح تجارب حسيّة وعاطفية.

هامشية الشخصيات

افلامه مأهولة بأناس صامتين. غرباء أو أفراد مهمَلين حتى داخل العائلة الواحدة. شخصياته تقطن في عالم يثير الذعر والقلق، ويفضي بالفرد إلى الانفصال عن الآخرين. هي هامشية، ليس لديها حس الانتماء.

ما هو لافت للنظر في أعماله، معالجته وتصويره للعزلة والتوق. أغلب شخصياته تعاني من الوحدة. لهذا يركّز كاي على تصوير شخصياته في عزلتهم، راصداً حركاتهم وأفعالهم، الطبيعية والشاذة والسريّة، في غياب أي رقيب. هكذا نراهم يغتسلون، يتناولون طعامهم وشرابهم، يتبولون، يبكون، يمارسون أفعالاً لا يجرأون على ممارستها في حضور الآخرين.

إنهم وحيدون مع أنفسهم. هذا يفسّر الخاصية السكونية لأفلامه. إنه يريد تصوير الوحدة، لذلك نجد أن مثل هذه المشاهد لا تتضمن إلا القليل من الدراما ولا تتنامى إلا في حدود ضيقة. وكاي يرصد شخصياته، في هذه الحالة، بمزيج من الحنو والخشونة، الشفقة والحيادية. والجنس طاقة مهمة في أفلامه لكنه نادراً ما يكون مرتبطاً بالحب.

إن كاي يولي أهمية كبيرة لعرض الطريقة التي بها يتصل الشخص بشخص آخر، أو بعمل ما، أو بحدثٍ ما، وذلك في زمن حقيقي. يقول كاي: “الأمر الحاسم هو أن تكون في اللحظة، في تلك اللحظة الخاصة تماماً … في ذلك المكان، مع تلك الشخصيات (..) أريد من الجمهور أن يكون قادراً على الإحساس بالعاطفة، فيما هي تتنامى بينما هذا الجمهور يشاهد الفيلم”.

لا مفاتيح لفك ألغازه

كم الساعة هناك؟

كاي فنان استثنائي، في ما يتعلق بنوعية أفلامه وخاصياتها الجمالية. كذلك في توظيفه لجغرافيا المكان في توصيل الإحساس بالاغتراب، بالعزلة، بالانفصال. الإحساس بكون المرء مختلفاً، غريباً، مبعداً. أفلامه معبّرة جداً، محركة للمشاعر، عميقة وتمس الشغاف، وتحث المتفرج على تأمل محيطه وعالمه وما يزخر به من علاقات.

في ما يتصل بعملية المشاهدة السينمائية، أفلامه ليست مريحة، وسهلة المشاهدة، بالنسبة للمتفرج. وهي ليست معنية بأن تكون سهلة ويسيرة وسلسة وممتعة.

هناك مخرجون يصرون على عدم تقديم تفسيرات وأجوبة جاهزة لما يطرحونه في أفلامهم من مسائل غامضة، مكتفين بتقديم مفاتيح قد تساعد المتفرج على التأويل واستنباط المعنى. أما كاي مينغ ليانغ فإنه لا يقدّم أي مفتاح، تاركاً المتفرج بلا عون أمام ألغازه ومظاهره الغامضة.

كمثال، ليس هناك أي تفسير منطقي لآلام العنق التي يعانيها بطل فيلم “النهر“. كذلك لا يوضح كيفية حدوث الثقب في فيلم “الثقب“. ولا نعرف سبباً لهوس بائع الساعات في تغيير التوقيت المحلي بحيث يتطابق مع توقيت باريس في فيلم “كم الساعة هناك؟“.

البطء كعنصر مهيمن

إضافة إلى موضوعاته الصعبة والمعذّبة، فإن أفلامه متقشفة وذات إيقاع بطئ جداً، تمتحن صبر وطاقة المتفرج. فهي تحتاج من المتفرج أن يتحلى بالكثير من الصبر والتحمّل. أن يتمهل، وأن يختبر بطول أناة حياة أفراد آخرين يعيشون تجارب مختلفة، بالتالي يتفادى استبدادية المونتاج التقليدي الذي يعتمد الترابط والمتواصلية، والذي يفضي على نحو محتوم إلى التأويل السطحي لتعقيدات الحياة.

منذ التسعينيات، بدأت المهرجانات ترحّب بالأفلام التأملية التي تتسم بالبطء، والتي تتعارض مع الأفلام ذات البنى المألوفة والحبكات التقليدية. بالطبع هذا الاتجاه كان موجوداً في السابق في تاريخ السينما، لكن ليس بهذه الكثافة التي نلحظها في أماكن مختلفة من سينمات العالم، وهذا الإفراط في توظيف العناصر البطيئة بحيث يتحدى الفيلم قوة احتمال جمهوره.. كما الحال مع أفلام بيلا تار وكاي مينغ ليانغ.

المخرج التيواني كاي مينغ ليانغ

عناصره الفنية

تكوينات كاي البصرية مصقولة فنياً، وذات جمال فاتن. إن كاميرا كاي تتلبّث في سكون قرب شخصياته وموضوعاته بطريقة وثائقية تقريباً، راصداً سلوكها بموضوعية نسبية. اللقطات مديدة ومن زوايا ثابتة، وهي إما متوسطة أو عامة. سيناريوهاته تتألف عادةً من خمسين صفحة، مكتوبة وكأنها قصائد. وهناك تقليص واختزال للحوار، وأحياناً غيابه، مما يحرم المتفرج من أحد عناصر الشرح والتفسير والتوضيح، بالتالي يجد المتفرج نفسه مضطراً لأن يقرأ ويؤول المشهد حسب اللغة البصرية المتوفرة له.  

إن استغراق كاي في تصوير عزلة الشخصيات يعلّل سبب غياب الحوار أو اختزاله، إضافة إلى عجز الشخصيات عن التعبير عن ذواتهم ومشاعرهم، وبالتالي عجزهم عن الاتصال. في فيلمه “يحيا الحب” نسمع أول حوار بعد مرور 30 دقيقة من زمن الفيلم، وبعد 30 دقيقة آخرى نسمع أول محادثة بين الشخصيات الرئيسية.. التي هي وحيدة وخجولة.

افلامه مأهولة بأناس صامتين. غرباء أو أفراد مهمَلين حتى داخل العائلة الواحدة. شخصياته تقطن في عالم يثير الذعر والقلق، ويفضي بالفرد إلى الانفصال عن الآخرين.

التعاون الخلاق

من أبرز صور التعاون الخلاّق والمثمر في العمل السينمائي ذاك الذي نجده بين المخرج والممثل، حيث يستعين المخرج بممثل معيّن في عدد غير قليل من أفلامه بحيث تمثل العلاقة بينهما ظاهرة متميّزة.. ومن أمثلة هذا التعاون الوثيق والخلاق: كيروساوا وتوشيرو ميفوني، بيرجمان وليف أولمان، فرانسوا تروفو وجان بيير ليو، سكورسيزي ودي نيرو.

غير أن تعاون كاي مينغ ليانغ مع الممثل لي كانغ شينغ يختلف عن أي تعاون آخر، فلقد اعتاد كاي، ولا يزال، أن يستخدم الممثل لي كانغ شينغ لتأدية الشخصية الرئيسية في كل أفلامه وليس في بعضها، وغالباً ما يؤدي الشخصية ذاتها، والتي في معظم الأوقات تحمل اسم شاو كانغ.. لكن ليس واضحاً أن شاو كانغ هو الشخص نفسه عبر أفلام متعددة. وما هو أكثر تماسكاً وثباتاً بشأن عمل لي في هذه الأفلام، بصرف النظر عن اسم شخصيته، هو ذلك الحضور القوي والتنوّع المدهش في أداءاته.

اكتشف كاي الممثل لي قبل أن ينتقل إلى السينما، إذ عثر عليه مصادفةً فيما كان يعمل حارس أمن في محل فيديو، من دون أن تكون لديه أي تجربة في التمثيل. الذي لفت نظر المخرج إليه هو إيقاعه الحركي غير الطبيعي..”لقد وجدت أن إيقاعه غريب بعض الشيء، أبطأ من حركة أي شخص آخر”. لكن لي رفض في الحال أن يسرّع في حركته عندما طلب منه كاي ذلك، وهذه المقاومة جعلت كاي يعيد النظر في طريقته عند التعامل مع الممثلين بحيث لا يفرض عليهم تصوراته وأفكاره، وأن يحافظ على إيقاعاتهم الطبيعية. هكذا أصبحت أفلامه بورتريهات لرجل يتحرك من دون  تزامن مع العالم الخارجي، وبلا تجانس مع ما يحيط به من حركة وإيقاع. 

هكذا أسند إليه دورا في فيلمه التلفزيوني “كل زوايا العالم” (1989) ثم أسند إليه الدور الرئيسي في فيلمه التلفزيوني “فتيان” (1991)، بعدئذٍ انتقل معه إلى السينما، مع أول أفلامه “ثوار إله النيون“، وهو في الرابعة والعشرين من عمره، لتستمر العلاقة بينهما حتى يومنا. الممثل لي يُعد مصدر وحي للمخرج ثم شريكاً خلاقاً ثم الأنا الثانية له.

وكاي ينسب الإيقاعات البطيئة، التأملية، التي تتسم بها أفلامه إلى حركات لي البطيئة، على نحو طبيعي، وقدرته البارعة على تجسيد الوحدة الموجعة والكآبة المتوانية وفتور الهمّة. بل أن كاي قد صرّح ذات مرّة بأن مسيرته في السينما مدفوعة بالرغبة في تصوير لي كانغ شينغ فيما هو يسير ويتحرك وينام ويتنفس. كما قال ذات مرّة بأنه لا يستطيع أن يتخيّل نفسه وهو يصنع فيلماً من دون مشاركة لي فيه. إن لي، وعبر أفلام كاي، نراه على الشاشة يتقدم في العمر ويزداد نضوجاً واتقاداً أمام كاميرا ترصده بحميمية وتصور تحولات وجهه وجسده الدقيقة.

يقول الناقد جاريد رابفوغل (مايو 2002): “لم يكن مطلوباً من لي أن يمثّل بل، ببساطة، أن يكون وأن يتصرّف. وإذا كان كاي يوفّر الكوميديا، فإن لي يعرض الوجه الجامد الذي يخلو من التعبير. تعبيراته لا تتغيّر أبداً، لكنه يبدو مرتاحاً تماماً أمام الكاميرا، والأهم من ذلك، لديه الموهبة النادرة، المراوغة، الغيبية تقريباً، في أن يكون قادراً على إقناعنا بأنه حقاً وحيد في الحجرة، غير واع كلياً لتحديقة الكاميرا”. 

تحولات

كم الساعة هناك؟ كاي مينغ ليانغ

منذ أفلامه الأولى، استطاع كاي أن يكرّس نفسه كصوت مميّز في السينما التايوانية الجديدة. وتدريجياً بدأ في تجريد سينماه من المعايير والطرائق التقليدية، حتى بلغت أفلامه مستوى قياسياً من التقشف.

كاي ليس مخرجاً تقليدياً يعالج موضوعات متنوعة ضمن نوع معيّن له تقاليده وخاصياته. ولا يعمل على سيناريوهات مكتوبة من قِبل أشخاص آخرين، أو يعد مادته من أوساط ومصادر أخرى كالقصة والرواية والمسرح. بل أن كاي قريب جداَ من الرسام الذي، على نحو استحواذي، يسبر لوناً واحداً، ويحقّق تنويعات دقيقة على فكرة مركّبة أساسية، عاملاً بصبر للإمساك بشيء دقيق ومتملّص.

تقول الباحثة في السينما سيسيليا ميلو (أكتوبر 2018):”أعمال كاي، المصورة على شريط السيلولويد والديجيتال معاً، تتكشف عن استغراق مع الواقعية التي تُظهر نفسها في تفضيله للقطة الطويلة والعمق البؤري، إضافة إلى استخدام المواقع الحقيقية، في ارتباط مع المكان والعمارة، الإضاءة الطبيعية والتوكيد على اليومي.

أفلام كاي تحكي عن الأماكن بقدر ما تحكي عن الأفراد: الشقق المتصلة ببعضها، البيوت المهجورة، صالة السينما.

إن اهتمام كاي التدريجي بفضاء المتاحف والمعارض، والذي ازداد مع تصويره لفيلم “وجه” (2009) داخل متحف اللوفر بباريس (بدعوة من المتحف نفسه)، أدى به إلى إنتاج أفلام وجدت دارها المثالي ليس في صالة السينما بل في الجاليري، مبدعاً أعمالاً تركيبية توفّر تجربة مكثّفة للزائر. إن أفلام كاي تعكس التحولات الجارية في الوسط السينمائي نفسه، حيث التغيّر الدائم في عالم يصبح كل يوم مدفوعاً إلى الأمام على نحو سمعي بصري أكثر. طوال العقود الثلاثة الماضية، أصبح كاي مينغ ليانغ واحداً من أعظم فناني زمننا، المعلّم السينمائي الحقيقي، الذي يلهم جيلاً جديداً من صانعي الأفلام في القرن 21″.  

فاصل اعلاني