المُمتثِل: دراسة في تباين إطارين
دوناتو توتارو .... ترجمة ازدشير سليمان
12 August، 2024
دوناتو توتارو
ترجمة ازدشير سليمان
يُعتبر فيلم برناردو برتولوتشي “الممتثل” الذي أخرجه عام 1971، وهو كناية عن دراما سياسية، مثالًا ساطعًا للاسترسال الأسلوبي. يُصنِّف كثير من المخرجين الشباب والمصورين السينمائيين والفنانين السينمائيين الفيلم على أنه مستودع للقطات والمشاهد واللحظات الباذخة. كما أشاد به الكثيرون بوصفه أحد أكثر الأفلام الملونة روعةً على الإطلاق. “الممتثل” فيلم جميل يلعب فيه ممثلون جميلون: جان لوي ترانتيان، دومينيك ساندا وستيفانيا ساندريلي. عدا عن كونه مُصورًا من قبل فيتوريو ستورارو، وهو مصور سينمائي متعلم ومتمرس في تاريخ الرسم ونظرية الألوان وتاريخ السينما. ترك ستورارو القليل للصدفة واستخدم أدواته حرفيًا “للرسم بالضوء”. كان أسلوبه في هذا الفيلم واضحًا للغاية، وقد ابتكر، جنبًا إلى جنب بيرتولوتشي، قوة دلالية مركزية للأسلوب البصري للفيلم، والتي شملت جميع جوانب المشهد، والتي تتضمن الإعدادات والإكسسوارات، تنسيق المناظر، الممثلين (أدائهم وتموضعهم)، الأزياء والمكياج، الإضاءة والتكوين / التأطير. نُقل عن ستورارو قوله إنه استوحى الإلهام من الإضاءة في لوحة كارافاجيو “La Vocazione di San Matteo” ووسَّع استخدامها للإضاءة الشمالية لتشمل الرحلة الأخلاقية والسياسية والروحية لمارسيلو كليريسي (جان لوي ترانتيان)، وهو برجوازي صغير خلال الأيام الفاشية المبكرة لإيطاليا، يطمح إلى عيش حياة “طبيعية” من خلال تقديم أفضل ما يمكن للمثال الفاشي المـُلهِم لإيطاليا. يقول ستورارو عن اللوحة إن الفصل بين النور والظلام هو انعكاس للإلهي والإنسان، وقد استخدم هذا كدليل للرمزية التي أراد هو وبرتولوتشي استحضارها عبر الفيلم، مع الضوء الذي يعكس وعي كليريسي والظلام الذي يعكس اللاوعي أو الجانب المكبوت “مثليته الجنسية” من هويته.
يمثل “مجاز الكهف” لأفلاطون محكًّا مرئيًّا وفلسفيًّا آخر لبرتولوتشي وستورارو المتمرس، والذي تم الاستشهاد به “أي المجاز” في الفيلم بوصفه موضوع أطروحة كليرسي، عندما درس على يد البروفيسور كوادري “Enzo Tarascio”. فعندما يلتقي كليريسي بأستاذه القديم في باريس، يتذكران أطروحته، ويمثلان قصة أفلاطون الرمزية عن الواقع والمظاهر، والفيلم بدوره مليء بالتلميحات، والعديد منها مرحة إلى حد المحاكاة الساخرة، إلى هذا البيان الفلسفي حول كيف أن الواقع الذي نراه أمامنا غالبًا ما يكون وهمًا أو انطباعًا خاطئًا. ويمكننا رؤية هذه التلميحات في ورق الحائط الذي يحاكي السماء في غرفة ابن كليريسي، ولوحة لمنتجع شاطئي يذوب في الموقع الفعلي، والمناظر المتغيرة الخيالية خارج نافذة القطار المتحرك في الرحلة إلى باريس، والتي تبدو وكأنها ديوراما “صورة” قديمة متحركة. كان ستورارو قد قال في مقابلة مع Film Quarterly إن قراره بإغراق باريس بضوء كوبالتي أزرق، كان قرارًا حدسيًا إلى حدٍّ كبير، ولم يتم تسويغه إلا مؤخرًا، باعتباره مؤشرًا رمزيًّا إلى باريس، بوصفها مدينة حرة. تم تمثيل هذه الحرية من خلال “السماح للضوء بالولوج في الظلال” في المشاهد الباريسية. يتم الإعلان عن هذا التصوير المنمق لباريس ببراعة أثناء ركوب القطار، من خلال تحويل الإضاءة خارج نافذة القطار المتحرك على الفور، من غروب الشمس الذهبي إلى اللون الأزرق الليلي المذهل، بمجرد وصولهم إلى باريس.
يُصنِّف كثير من المخرجين الشباب والمصورين والفنانين السينمائيين فيلم “الممتثل” على أنه مستودع للقطات والمشاهد واللحظات الباذخة.
يمثل “مجاز الكهف” لأفلاطون محكًّا مرئيًّا وفلسفيًّا آخر لبرتولوتشي وستورارو في الفيلم، وقد تم الاستشهاد به بوصفه موضوعًا لأطروحة كليرسي العلمية.
باريس بالأزرق
الفيلم عبارة عن تيار غير خطي من استرجاع “فلاش باك” واعٍ ذي بنية سردية، يبدأ في باريس 1938 باجتماع العميل الفاشي مارسيلو كليرسي “جان لوي ترنتيان” يقوده سائقه القوي مانجانيلو “Gaston Moschin”، وينتهي بسقوط موسلليني في نهاية الحرب عام 1943. ينسج الفيلم بسلاسة بين أحداث حياة مارسيلو، بعودته إلى الوراء عندما كان صبيًّا صغيرًا في عام 1917، حيث نشهد لقاء مثليًّا مؤلمـًا مع سائق سيارة يُدعى لينو، وهو شخص اعتقد كليريسي أنه قتله لكنه عاد في المشهد الأخير للفيلم عام 1943.
على الرغم من أن الفيلم مُدوِّخ بتباينه الأسلوبي الدقيق، ويتحرك بسرعة بين نمط أفلام العصابات في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وتعبيرية فيلم noir، مرح الفن الزخرفي Art Deco، جمال عصر النهضة والتفسخ “الأوفولي “(نسبة إلى ماكس أوفولس) و”السترنبرغي” (نسبة إلى جون فون سترنبرغ)، إلا أن ثمة نمطًا عامًّا يمكن تمييزه. الأسلوب البصري للفيلم في المشاهد التي سبقت انضمام كليريسي إلى الحزب الفاشي مليء بالحيوية والمرح، في حين أن النمط البصري للسنوات الوسطى، أو السنوات الفاشية للفيلم منمق، ولكن مع وجود مساحات معمارية بارزة تهيمن على المشهد، في حين أن المشاهد في الإطار الزمني الأخير، بعد خلع موسوليني، عندما تحطمت فكرة كليريسي المثالية عن “طبيعية” الفاشية، هي الأكثر كآبة وتشاؤمًا. هذا النمط ملحوظ في العديد من المشاهد في الفيلم، ولكنه مغلَّف بشكل واضح في لقطتين مأخوذتين من نهايتين مختلفتين للفيلم، ولكن في نفس المساحة المادية بالضبط: منظر لكل من غرفة المعيشة والممر المجاور في منزل والدي جوليا (ستيفانيا ساندريلي).
تقع أولى اللقطتين اللتين سننظر فيهما عن كثب في وقت ما قبل عام 1938، عندما زار مارسيلو خطيبته جوليا (ستيفانيا ساندريللي)، وأجرى مناقشة صريحة قبل الزواج على العشاء مع والدة جوليا (إيفون سانسون). بينما تقع اللقطة الثانية بعد زواجهما، في عام 1943، مع مارسيلو وجوليا وابنهما الصغير الذي يعيش مع والدي جوليا. تُظهر الصورة الأولى مارسيلو في أسعد لحظاته، يغازل خطيبته جوليا والحزب الفاشي، الذي يلتحق به بصفته ضابطًا سياسيًا سريًا مسؤولًا عن مطاردة المنشقين السياسيين. عندما يصبح أكثر انخراطًا في الدائرة الداخلية للفاشية، أُعطي أوامر لزيارة أحد المثقفين الماركسيين السابقين الذين يعيشون في باريس، البروفيسور كوادري (إنزو تاراشيو)، وتصفيته. تم اختيار كليريسي لهذه المهمة بسبب تاريخه مع الأستاذ: كان كوادري معلمه الجامعي السابق الذي أشرف على أطروحة تخرجه حول رمزية الكهف الشهيرة لأفلاطون (هذه الاستعارة ذاتها تخدم بوصفها تشبيهًا بصريًا وفلسفيًا للفيلم).
تتضمن الأحداث التي أحاطت بالفترة التي سبقت لحظة التقاط الصورة الأولى، زيارات إلى والدته في قصرها المتهدم، وإلى والده المريض عقليًا في مصحة، زيارة إلى صديقه الفاشي الكفيف إيتالو في محطة إذاعية، واعترافه قبل زواجه في الكنيسة. تُعتبر زيارة إيتالو في محطة إذاعية ثلاثينيات القرن الماضي، ممتعة بالطريقة التي يُهيأ بها التأطير إطارًا واسعًا لنسبة الشاشة داخل إطار، مع عودة كليرسي إلى الجمهور (كما سيكون مرة أخرى في اللقطة النهائية الغامضة للفيلم)، بوصفه متفرجًا على مجموعة الغناء الشعبية للفتيات. تُعتبر زيارة والده في المصح العقلي مثالًا على الميزانسين المؤسلب والمسرحي الذي قدمه ستورارو وبيرتولوتشي، حيث يغلب على المساحة اللون الأبيض “الباهت” المؤسس والتموضع “المعماري” المتكلف للشخصيات. تحتوي اللقطة على عمق مجال كبير، مقارنةً باللقطات الأخرى، حيث يتم تسطيح الإطار بجدار. يعود الجدار في هذه اللقطة بعيدًا إلى الوراء، لكن عدم وجود فصل بين الجدار والسماء البيضاء يُبرز إحساسًا مُنذرًا بالحبس، وهو رمز لمستقبل إيطاليا القاتم في ضوء الفاشية.
يجسد الجدار البديع بنقوشه اللاتينية في المشهد الذي كان فيه كليريسي يحمل الأزهار، في طريقه لزيارة خطيبته؛ إحساسًا مشابهًا بعدم وجود مستقبل. يمكن مقارنة هاتين الصورتين في عرضهما للتسطيح بلقطة من عام 1943، حيث يتلو كليريسي: “السلام عليك يا مريم”، وهو يضع ابنه في الفراش. في هذه اللقطة، يُضفي ورق الحائط المزخرف على شكل السماء، والذي يسطح الفضاء، إحساسًا زائفًا بالبهجة والسعادة، ويقف في تناقض صارخ مع صورة جوليا اللامعة، وهي جالسة بمفردها في الصالون المظلم بعد لحظات من إعلان الراديو عن سقوط موسوليني.
تذكر لقطة ورق الحائط المزخرف على شكل السماء بشكل غريب، بأقدم حدث كرونولوجي في الفيلم، وهو ذكرى طفولة كليريسي من عام 1917 للقائه المثير القلق مع السائق لينو. يتم افتتاح هذا المشهد في الحدائق الخضراء المورقة المحيطة بالفيللا، حيث سيقود لينو الشاب كليرسي في لقاء جنسي في مكان قريب. على عكس غالبية الفيلم الذي يتميز بإضاءة غير طبيعية، فإن هذا الجزء من المشهد يحدث في مكان خارجي مشمس منعش. تُظهر حركات الكاميرا والتكبير / التصغير التي تتبع كليرسي ولينو أثناء مطاردة بعضهما البعض حول الأرض، مثل ورق الحائط، إحساسًا زائفًا بالبهجة والخفة. باعتباره المشهد الوحيد الذي يحدث قبل الفاشية (التي بدأت في عام 1922)، قد يفسر هذا الطابع المرح والأسلوب البصري المـُشرق.
الأسلوب البصري في مشاهد ما قبل انضمام كليريسي للحزب الفاشي مليء بالحيوية والمرح، لكنه في السنوات الفاشية منمق، وبه مساحات معمارية تهيمن على المشهد.
دراسة في تباين إطارين
اللقطتان اللتان سأقارنهما عن كثب الآن تمثلان الأطر الزمنية لمنتصف الثلاثينيات و1943 تقريبًا. وتمثِّلان موقعًا متطابقًا تقريبًا للكاميرا في منزل أصهار كليرسي المستقبليين. تكشف دراسة الاختلافات الملحوظة في الصورتين- التي أشير إليها فيما بعد باللقطات السابقة واللاحقة- عن بعض الاحتمالات المثيرة للاهتمام التي اكتشفها ستورارو وبيرتولوتشي، لتمثيل حالة الروح المتغيرة لكليريسي – وبالتالي إيطاليا الفاشية. تثير لقطة الثلاثينيات المبكرة حالة من المرح والفرح التي انقلبت بشكل كبير في لقطة الأربعينيات اللاحقة. على الرغم من أنه من الواضح أن هذه هي نفس المساحة في المنزل، إلا أن ثمة تغييرات مهمة في جميع جوانب الميزانسين، والتي تعكس التغييرات الشخصية والسردية. تعتبر الإضاءة من أهم المؤشرات. الإضاءة خافتة في كلتا اللقطتين، ولكنها أكثر أسلبة في اللقطة السابقة، وتحاكي film noir الفينيسي المنمق في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات، وتتضمن تطابقًا مبهجًا مع نمط فستان جوليا “الأبيض والأسود”. في حين أن الإضاءة في اللقطة اللاحقة أكثر كآبة، ما يعكس الموقف المتغير في الأسرة بعد سقوط موسوليني. تتميز كلتا اللقطتين بضوء واقعي، مع تباين عالٍ نسبيًّا ناتج عن الظلام المنتظم في الجزء السفلي، والإضاءة الأكثر سطوعًا في اللقطة السابقة (مما يعكس نقطة أكثر بهجة في حياة الشخصيات). باستثناء البقعة المظلمة في الجدار الأوسط، تكون الإضاءة في اللقطة المتأخرة موحدة، مع ظلال أكثر نعومة من اللقطة السابقة، المصورة من الأعلى. الإخراج الفني في اللقطة اللاحقة أكثر تحفُّظًا، إذ يتجرد من الإشارة البين- نصية إلى رجال العصابات، والفيلم نوار في اللقطة السابقة، وفي حين أن كلتا اللقطتين عبارة عن لقطات طويلة، يتم تأطير اللقطة السابقة من موقع زاوية أعلى قليلًا للكاميرا. ثمة تغيير كبير في الأوضاع والإكسسوارات . الجدار الذي يفتح على غرفة المعيشة أكبر في اللقطة اللاحقة. تم تغيير مقسم الغرفة الوسطى، مع تحول الجدار في اللقطة السابقة إلى منطقة تجويف في اللقطة اللاحقة (ربما يشير إلى الجوانب الخفية لماضيهم؟). كما توجد مصابيح إضاءة مختلفة عبر اللقطتين. في اللقطة السابقة رأينا طاولة في غرفة المعيشة، ولكن بدون أريكة. في اللقطة اللاحقة رأينا أريكة، ولكن بدون طاولة. الخادمة (أو الأم؟) التي شوهدت في الردهة في اللقطة السابقة غائبة في اللقطة اللاحقة، واستبدلت بها دراجة في الإطار اللاحق، كما أن هناك تغييرات كبيرة في تشكيل الشخصيات: في وقت “السعادة” السابق، يكون الشخصان على نفس الجانب من الجدار المنقسم، يواجهان بعضهما البعض، ويرقصان، لكنهما منفصلان في اللقطة اللاحقة. يعكس هذا أيضًا التغيير في الموقف والأسلوب: أكثر كآبة، وأكثر تحفُّظًا، مع الشخصيات التي أضحت الآن أقل حميمية، وأكثر اضطرابًا بفعل الأحداث السياسية الأخيرة. يعكس الزي أيضًا هذا التغيير: براق وأنيق في الثلاثينيات، باهت ومحافظ في عام 1943.
وأحد التغييرات الأكثر غرابة والأكثر أهمية: ينحرف الممر في الإطار الزمني “اللقطة” السابق إلى اليمين بزاوية أكبر بكثير مما كان عليه في اللقطة اللاحقة. لماذا واجه برتولوتشي مشكلة إجراء تغييرات هيكلية في الفضاء؟ هل يمكن أن يرمز هذا إلى كون إيطاليا كلها “يمينًا سياسيًّا” في الثلاثينيات من القرن الماضي، على عكس التحول إلى اليسار/ الوسط السياسي خلال الأربعينيات!!! تعكس هاتان الصورتان بعضهما البعض، ولكنهما تحملان تغييرات كبيرة في النبرة والمزاج والميزانسين. هذا الاستخدام المرح ولكن الهادف لأسلوب الانعكاس، رغم أنه ليس نادرًا، يستخدمه بيرتولوتشي ببراعة هنا وهناك وفي أماكن أخرى. حتى اللقطات الافتتاحية والختامية للفيلم تعلن عن نفسها بهذه الطريقة. يفتح الفيلم على لقطة متوسطة الطول لكليريسي مستلقيًا على سريره بالفندق، في مواجهة الكاميرا، وهو يستحم بضوء أحمر برتقالي قاتم وامض بشكل متقطع، من ضوء نيون خارج نافذة الفندق. يختتم الفيلم بكليريسي مُؤطرًا وظهره إلى الحائط، متكئًا على بوابة تشبه السجن. الإضاءة هنا أيضًا هي نفس اللون الأحمر الموجود في لقطة الافتتاح، ولكن هذه المرة فقط بسبب شعلة صغيرة خارج الإطار، يستخدمها المتسكعون للتدفئة. كما لو كان يحاول النظر إلى نفسه، يستدير لينظر مباشرة إلى الكاميرا. الأثر ليس فقط عكس اللقطة الافتتاحية، ولكن للإشارة النهائية إلى مجاز أفلاطون عن الكهف: الواقع بوصفه شيئًا لا يمكننا إدراكه إلا للحظة وجيزة، قبل أن ينزلق بعيدًا في حالة من عدم اليقين والوهم والشك.
*دوناتو توتارو: محرر لمجلة الأفلام عبر الإنترنت Offscreen منذ إنشائها في عام 1997. حصل توتارو على درجة الدكتوراه في السينما والتلفزيون من جامعة وارويك (المملكة المتحدة)، وهو أستاذ بدوام جزئي في دراسات الأفلام بجامعة كونكورديا (مونتريال، كندا) وعضو طويل الأمد في AQCC (Association québécoise des Critiques de cinéma).