• English
  • 20 يناير، 2025
  • 4:34 ص

بيدرو المودوفار: كل ما يحدث في أفلامي كان من الممكن ان يحدث لي حرفيًا

بيدرو المودوفار: كل ما يحدث في أفلامي كان من الممكن ان يحدث لي حرفيًا

4 January، 2023

ترجمة وتقديم: عبدالهادي سعدون

لم يحظَ مخرج سينمائي إسباني بأهمية كبرى مثلما يحظى المخرج بيدرو المودوفار، ولعل شهرته تفوق في أحيان كثيرة شهرة العبقري الأول في السينما الإسبانية والمعروف عالميا لويس بونويل. لم يخرج بيدرو المودوفار من معطف أي أحد، بل صنع عالمه السينمائي المتفرد لوحده، من عوالمه وحكاياته الخاصة عائلية وغير عائلية، وكذلك من المؤثرات المحلية التي عاشها ويعيشها كل يوم سواء في مسقط رأسه في كاستيا لا مانتشا، أو في مدريد مدينته التي وصلها شابًا، وعاشها حرفيًا في نهايات الحكم الفرانكوي وبدايات الحركات الثقافية والفنية التي تسيدت عوالم الفن والأدب في الثمانينيات.

كل عوالمه السينمائية عبارة عن خلطة فنية خاصة قلما تجد لها شبيهًا في السينما الإسبانية والعالمية على حد سواء، بل إن المودوفار نفسه قد اعترف في أكثر من مناسبة أن التأثيرات القوية عليه أغلبها جاء من عوالم الموسيقى وفنون البوب وروايات الغموض والتشويق. استطاع على مدى أربعين عامًا من العمل مع الأفلام الروائية الطويلة أن يخلق أسلوبًا وملامح خاصة ومتفردة. أفلام بحكايات ميلودرامية متناغمة مع أسلوبٍ باروكي مفعم بالألوان الصارخة والزخرفات المثيرة. الحياة بكل حذافيرها الظاهرة والخفية تتجسد في أفلامه بنَفَسٍ تراجيكوميدي عمومًا، وطرح ذهني يقترب من الغموض والغوص في النفس البشرية من داخلها.

بيدرو المودوفار في فيلم ألم ومجد

يُعتبر بدرو المودوفار (1949) المخرج الإسباني الذي حقق أكبر شهرة خارج بلاده في العصر الحديث. أسس شركة إنتاج سينمائي مع شقيقه أغوستين، وفاز بأهم الجوائز السينمائية الإسبانية والعالمية، ومنها جائزة الأوسكار مرتين. لكنه بدأ مشواره بصعوبة بعد أن زاول مهنًا عديدة مثل الغناء والمسرح والكتابة لمجلات فنية، وعمل لفترة في مؤسسة البريد الوطنية حتى تركها كلها ليقوم بأول تجربة سينمائية عام 1980 وهي فيلمه الطويل الأول “بيبي لوسي بوم وحفنة من الفتيات الأخريات”. بعدها لم يتوقف حتى اليوم من خلال أكثر من عشرين فيلمًا روائيا طويلًا من بينها: “ماذا فعلت أنا حتى أستحق هذا؟” 1984، “نساء على حافة الانهيار العصبي” 1988، “كل شيء عن أمي” 1999، “تحدث معها” 2002، “عودة” 2006، “خولييتا” 2016، حتى آخرها عام 2019 وهو فيلم “ألم ومجد”.

فيلم ألم ومجد

رغم أنه قد تجاوز السبعين من عمره، ما زال بيدرو المودوفار يستخدم حياته وتفاصيلها في أفلامه، وفيلمه الأخير هذا “ألم ومجد” دليل على ذلك، فهو مراجعة حرة لما مر به في فترات طفولته وشبابه، عن الشيخوخة القريبة والوحدة والمستقبل الغامض: “سأحاول الاستمرار بإخراج وعمل الأفلام التي تستهويني، لكنني لا أعرف حتى اللحظة فيما لو أخرجت فيلمًا آخر بعد فيلم ألم ومجد!”. يعترف المخرج الأشهر في السينما الإسبانية.

مكتبه مليء بالجوائز العالمية التي حصل عليها من أفلامه العديدة، كتبٌ عن أفلامه وبوسترات جميع الأفلام وصور مختلفة تجمعه مع مشاهير السينما العالمية. في وسط المكتب تمامًا، طاولة كبيرة يجلس خلفَها لوحده، بشعره الأشيب النافر وكأنه يشير للسماء كرمز للتمرد. عينان حزينتان كأنهما تعلنان رؤيتهما لأشياء كثيرة في الحياة لم تكن كلها عبارة عن احتفالية طيبة ومريحة. بعد أربعين عامًا من عرض فيلمه الأول “بيبي لوسي بووم”، يعود عبر فيلمه الأخير “ألم ومجد” في البحث عما تركه من حياته السابقة. العودة للطفولة كمفتاح لسفرة طولية، رفقة الأم واكتشاف ذاته وميوله لأول مرة. يقول عن فيلمه أنه كان الأكثر كشفًا عن الذات والأكثر صراحة، لكنه يصحح في الأخير: “بالطبع كله يمر من خلال موشور روائي”.

بيدرو المودوفار في ألم ومجد

بعد عرض فيلمه الأخير هذا “ألم ومجد” من بطولة نجميه المعروفين أنطونيو بانديراس وبنيلوبي كروز، وهو من أكثر الأفلام التي تتناول شخصيته الحقيقية وتفاصيل خفية من تركيبة حياته المعقدة والفريدة. مع هذا الفيلم، يكون قد تصالح مع النقد الإسباني بفوزه بأغلب جوائز السينما الإسبانية المعروفة باسم غويا، كما سيعترف المودوفار بأن السينما قد صنعت أقدار حياته الخاصة، ولا يمكن فهم حياته من دون السينما وأفلامه التي أنتجها عبر الأربعين سنة الأخيرة. هنا منتخب من حوارين أُجريا مع المخرج، أولهما في العدد الأخير من مجلة لقطات سينمائية “فوتوغراماس”، قام بها الناقد السينمائي خوان لويس ألباريث، والمحاورة الأخرى قامت بها الصحافية بياتريث مارتينث للملحق الأدبي لصحيفة الباييس.

سأحاول الاستمرار بإخراج وعمل الأفلام التي تستهويني، لكنني لا أعرف حتى اللحظة في ما لو أخرجت فيلمًا آخر بعد فيلم “ألم ومجد”!

هل تعتقد أنه بقي ما يمكن كشفه عن شخصك وميولك وماضيك ما يشكل فيلمًا آخر يضاف للأفلام السابقة؟

في هذا المشوار الذي وحد حياتي بأفلامي، كنت قد سردت أجزاء هنا وأجزاء هناك على مدى فترة زمنية طويلة. أما اليوم فأنا منتبه جيدًا لما أعمله. لم أعد ذلك الشاب المجنون بالسينما والحياة، كما أن الهلع اليوم يفوقني، وأكبر مني بكثير. بالطبع هناك الشيء الكبير مني في هذه الشخصية الشاحبة التي أداها أنطونيو بانديراس، وهي شخصية تشعر بنفسها ناقصة شكليًا وذهنيًا، متوترة وخارجة عن طورها مما يصيبها بالإحباط حتى ينتشلها القدر. لحظة قدرية لا غير، وهو اكتشافه لرسم مائي كان قد أضاعه ورسمه له أحدهم وهو ما يزال طفلًا. تلك اللحظة تسهم بانتشاله من حالته وتضعه من جديد أمام الآلة الكاتبة.

عملية التعرية الشخصية هذه في الفيلم لها صلة مع الواقع بطبيعة الحال؟

في الحقيقة بدأته بشكل مريح وانظر كيف تحول في النهاية. كنت قبل ذلك أكتب سيناريو فيلم توقفت فيه لأنني لم أستطع الاستمرار ولم أكن راغبًا في عملية بحث عن معلومات أضيفها له. وحتى تلك اللحظة كنت أفكر أن القيام بتصوير فيلم عني، هذا ما لا أرغب فيه مطلقًا. كنت ارغب في عمل شيء حميم ولصيق بي، أي يعتمد على رغباتي وعلى خيالي وصبري لا غير، وكل المعلومات التي أحتاجها تكون قريبة مني وفي متناول يدي وليست في أماكن وحوادث وشخصيات أخرى. لكن هذا ليس معناه أنني قد جربت كل ما قام به بطل الفيلم في حياتي. لم أنم في كهف ولم أتناول المخدرات في حياتي إطلاقًا. لكن كان من الممكن أن تحدث لي بطبيعة الحال. كل شيء حدث في الفيلم كان من الممكن أن يحدث لي أو يكون شبيهًا بالذي مررت به في حياتي الماضية.

لكنك موقن بالتأكيد أنك تعود فيه إلى الذكريات مرة أخرى؟

تمامًا. وهذا الموضوع يتم دراسته اليوم على مستوى بحثي كبير. الذاكرة ليست أمينة بصورة تامة، فهي تقوم بصناعة الذكريات أو تقوم بتجميلها حسبما نرغب ونريد. لكن النظر إلى الخلف أعتقد انه صحي ومريح نوعًا ما، وهو على الأقل يجعلك تدرك أخيرًا كل ما حدث ولماذا؟ كذلك يطلعك على نتيجة إدراكك لما حصل ولماذا تم كل شيء بتلك الطريقة ولماذا عملته أنت بتلك الصورة! ما متأكد منه بعد هذا العمر أن الغضب والحقد الدفين عما جرى غير مجدٍ بالمرة ولا نفع فيه.

عندما تكتب شيئًا شبيهًا بالذكريات من الممكن فهمه كما تقول، لكن ماذا يجري عندما تقوم بتحويلها إلى فيلم.. هل شعرت بالحياء؟

الحياء أشعر به الآن والفيلم بمواجهة وحش هائل هو الجمهور، وهذا يرعبني دائمًا. أما في أوقات الكتابة أو إخراج الفيلم، فلا أشعر بإحساس أن أحدهم يراقبني، وهذا معناه أنني سأكون عاريًا أمام العالم كله. لو كنت مدركًا لما يعنيه ذلك لي، لما كنت قد عملته بكل الحرية المتاحة.

أرى خلفك على الجدار صورًا للمخرج الأمريكي بيللي وايلدر الذي شكا من الشركات السينمائية أنهم دفعوه للتقاعد واعتزال الإخراج؟

عندما تعرفت عليه كان عمره قد تجاوز التسعين، لكنه كان بذهن واعٍ جدًا. ثم أخبرني بشيء مثله وهو أنه لا يقوم بإخراج أفلام اليوم لأنه لا يجد صلة مع الجمهور الشاب. ما أريد ان أصل إليه هو أن الواحد منا ليس متيقنًا بشكل دائم متى فقد تلك الصلة. ومتى أصبح فنه باليًا. وحتمًا هو شبيه بما وصلتُ إليه أنا بالتجربة والعمر، لكنني مصر على الاستمرار وهو ما حدث للعديد من المخرجين قبلي، وعندما ستقوم المؤسسة السينمائية بإقصائي، سأحاول عمل أفلام صغيرة. الحقيقة أنني مرعوب لمجرد التفكير بأن عليّ إخراج فيلم آخر، فلا علم لي لو استطعت فعلًا إخراج فيلم قادم. يبدو أن الظروف لا تساعد على ذلك. لكن الحاجة لقص الحكايات لم تنخفض بداخلي. منذ أن اكتشفتها في طفولتي وهي ملازمة لي حتى اليوم. كان ولا يزال هدفي الأعلى والأقوى في الحياة أكثر من أي شيء آخر. في تلك الفترة الأولى تخاصمت مع عائلتي، تشاجرت مع أمي، وتركت عملي في بنك وغادرت المدينة صغيرًا. وصلت إلى مدريد على أمل أن أدرس السينما في المعهد الذي تخرجت منه بيلار ميرو وأيضًا خايمة شاباري، لكن فرانكو أغلقه آنذاك. لم أتأخر بالبحث عن عمل، ثم اشتريت كاميرا سوبر 8 ونزلت إلى الشارع لأشعر أنني قد أصبحت مخرج أفلام سينمائية، لا أكثر ولا أقل.

هل وصلت إلى هذه النقطة التي تجبرك فيها الأشياء على عمل معين دون أن تستطيع ردها كما عليه بطل ألم ومجد؟

نعم بكل ما تحمل من ضغط وتأنيب. شعور الفقد لا يحدث فقط عندما يمضي الواحد منا، بل أيضًا عندما تفقد قدراتك الأخرى المعول عليها في كل حياتك. أتصور حالة الناس الذين كانوا بجمال خارق في فترة من حياتهم، وعندما يراجعون بعد فترة صورهم في المرآة لا يتوافقون معها، وهذا معناه فقد الصلة مع الصورة الأولى، الحنين لها. أعتقد أنه بدءًا بالستين من العمر، الفقد يرافقك بشكل مستمر، وهذا شعور قاسٍ على الأقل بالنسبة لي. الشيخوخة بالنسبة لي قاسية جدًا، حتى لو فهمتَها الفهم كله ومعرفة أنها جزء من طبيعتنا الحياتية، تبقى تجربة تعايش مؤلمة. لقد انسحبت من عالم الليل منذ فترة بعيدة، لكن العملية ليست في الخروج أو الدخول، لأن الاحتياجات ذاتها منذ أن كنت شابًا ما زالت تلح عليّ حتى لو أنني لا أستطيع إنجازها بنفس القدرة السابقة أو لا أستطيع إنجازها مطلقًا. لكن يبقى الشعور البشري الأساس هو المهيمن وهو المسيطر علينا.

هل تشعر بأن هذا الشاب قد خانه جسده العجوز؟ عندما يدخل الدواء لردء الشر من البوابة، السخرية تخرج هاربة من الشباك؟

رؤية طريفة للحدث. ولكن مع ذلك أعتقد أن التهكم والسخرية تظل أبدية. صحيح أنه في أوقات الألم تحتاج لرؤية الأطباء أكثر من الأصدقاء، وكل ما تقبض عليه بقوة له علاقة بالصحة ولا مجال أمام المشاعر أو المتعة، السخرية تتبخر فعلًا. مع ذلك فحياتي منذ ثلاثين عامًا قليلة التمتع بالرغم مني. أنا أيضًا مثل بطل فيلمي أحاول هضم حالتي بصورة قليلة الاستمتاع والكثير من التشدد والمراقبة.

لكنك تبدو دائمًا محاطًا بالمقربين منك، كيف نفهم حياتك الحقيقية مقارنة بالعزلة التي تشير لها في فيلمك؟

حتى اليوم تبدو كذلك، لكنني في كل مرة ألجأ لنفسي وأدور حولها. ما يدور على الشاشة هي عزلتي الشخصية، وهي شقيقة توأم للحنين الذي يغذي تبرعم أكثر ذكرياتنا الماضية. عن ذلك الحب الأول الذي مات قبل أن يولد أصلًا والذي ما زلت أتذكره وكأنه حدث قبل البارحة. عن لحظات اكتشاف الرغبة الدفينة، أعتقد أنني وجدت فيها التحسس الضروري لما يمكن أن يقصه ذلك الشاب في ما بعد. هو لم يعد يفهم كل ذلك، إن الجمهور يدركه طبعًا. أنا فخور جدًا أنني استطعت التعبير عن عقدة الفيلم الرئيسية بكل نقائها ودهشتها المتصورة.

وهل حدث لك الشيء نفسه؟

لا طبعًا. ما عدا أننا عشنا في الظروف نفسها وفي مدن متقاربة الشبه، في شوارع مقفرة وغير معبدة كما لو كنا نعيش في الغرب المتوحش. ثم إنني قد علَّمتُ القراءة والكتابة لعشرات الأطفال بدفع من أمي التي أرادت أن تخلق مني معلمًا بعمر 9 سنوات. لكنني لم أعشق مثلما حصل لبطل الفيلم. ربما اكتشفت الحب بعد سنتين أو ثلاث، وكان ذلك في مدرسة الرهبان. من المهم جدًا للواحد منا أن يكون واعيًا بضربات العاطفة والرغبة الأولى، كيف كانت ومع أي الأشخاص حدثت.

إذن اسم شركتك السينمائية الرغبة (El Deseo) لم تختره اعتباطًا أو مصادفة؟

إطلاقًا. الرغبة هي المحرك الأساس في الحياة. وهي المسيطر علينا حتى لو أدرنا لها ظهورنا، وهذه ليست حالتي طبعًا. الذين يقننون رغباتهم أو يحاولون قتلها برأيي هم أكثر الناس رغبة وحاجة للشعور والأحاسيس القريبة. أعتقد أن أكبر مشكلة في الكنيسة اليوم هي التعفف وعدم الزواج والارتباط مما يسبب العديد من المعضلات الأخلاقية سواء للرجال منهم أو النساء، وهذا بدوره ينقلب على المجتمع برمته. يدهشني فعلًا ألا أحد من السلطة الكنسية اليوم قد استغل الأوضاع المعاصرة بتأجيج المسألة وإعلان الحرب عليها، خاصة العنصر النسوي فيه.

الرغبة هي الموجهُ الرئيسي في حياتنا.

في فيلم “قانون الرغبة” رجل الكنيسة يقول للشخصية الرئيسية التي تؤديها الممثلة كارمن ماورا أن عليها التنصل من الذكريات، وهي تجيبه بأنها لا تستطيع ذلك، فهي كل ما بقي لها في هذه الحياة. هل نشأت فكرة فيلم “ألم ومجد” من تلك الحاجة لتقييم الماضي؟

يجب ألا ننسى أبدًا. الذاكرة ضرورية جدًا بكل أشكالها، على المستوى الشخصي أو التاريخي أو الاجتماعي أو على مستوى البلد. وهذا ما يقوله أحدهم في محاولة لرفض ماضي أفلام شبابه بطريقة مدركة، كما لو أن ظل فرانكو لم يوجد مطلقًا. كان نوعًا من الثأر على ذلك الإرث سيئ الصيت، ومحاولة البدء من جديد، من الصفر. كانت وضعية تفكير لمثقف، لكنها لا تعني الميل للنسيان. ليس على الواحد النسيان مطلقًا، لا الأشياء الجيدة ولا تلك السيئة فيها.

من المؤكد أن البحث في فيلمك الأخير عن الأشياء الحقيقية منها عن الأخرى الخيالية، يضع المشاهد أمام معضلة الخيال والواقع الحياتي وكيفية التمييز بينها؟

المودوفار: ليس على الواحد الوقوع في هذه الرغبة الخفية، لأنه ليس فيلمًا يبث مجموعة من الرموز التي علينا التقاطها هنا وهناك، حتى لو كان خلف ذلك الكثير من الرغبات الخفية. بالطبع هناك وقائع حقيقية كما عليه مسألة الكفن الذي كانت تحمله أمي معها أينما تذهب خاصة في سنواتها الأخيرة متعللة بأنها لا تعرف أين ومتى تلاقي الموت. أشياء أخرى حقيقية يدركها المشاهد، ولكنها ليست بالضرورة قد وقعت لي كما عليه المحادثة ما بين الأم والابن التي فيها يتشاجران ويتهمان الواحد الآخر بأنه لم يهتم به ولم يفهمه في أفضل وأهم لحظات حياته.

هل تعتبر فيلمك “ألم ومجد” نوعًا من العلاج النفسي؟

(ضاحكًا) الحقيقة أن إنجازه قد أراحني جدًا. لا بد من الاعتراف أنني حتى تلك اللحظة لم أعرف لماذا أنجزت هذه الفكرة من دون غيرها. ولا أعرف حتمًا ما حاجتي للتعري والظهور بهذا المظهر إلى هذه الدرجة. خلال إنجاز الفيلم سألت نفسي السؤال التالي: هل أنا مستعد أن أمضي بهذه الفكرة إلى أقصى حد لها؟ وعندما وجدتني أجيب بنعم، وضعت أمام عيني أن أزيح النقاب عن كل شيء والنبش في الداخل. في تلك اللحظة شعرت بحرية هائلة.

ومتى تشعر فعلًا بتلك الحرية الهائلة؟

عندما أكتب وعندما أُخرج الأفلام.

ومتى احسست بالارتياح؟

عندما رأيت استقبال الفيلم بصورة جيدة. وبهذا أكون مرتاحًا لأنني تحدثت فيه عن أجزاء رمادية من حياتي من وجهة نظر إيجابية. أعرف أنه فيلم غير مريح، لكنه في الوقت نفسه فيلم مشع بطريقة معينة، وفيه أعود للاعتراف بقدرتي كمخرج. شيء من الشعور الذاتي المقنع لي شخصيًا.

وهل ما زلت تشعر بالدوار حال الانتهاء من فيلم جديد؟

ذلك لأنني لا أعرف كيف سيتم استقباله ومدى فاعليته. الواحد يتخيله بصورة معينة، وأحيانًا يخرج بصورة مغايرة. في “ألم ومجد” هناك حلول سلبية مجازفة، ولم أخمن إطلاقًا كيف سيتم تجميعها ضمن قالب واحد. عندما تقوم بإخراج فيلم تعمل بلا شبكة. أنا أو تارنتينو أو سكورسيزي أو أي مخرج مبتدئ. كلنا لدينا حلول تصب في مبدأ المجازفة ولا نعرف هل كل ما عندنا جدير بوضعها كلها في قالب واحد مقنع. من هنا الهلع والدوار مع كل تجربة جديدة.

عندما كنتَ شابًا أخرجتَ أفلامًا تعد اليوم فضيحة كبرى مثل “قيدني” أو”ماذا فعلت أنا حتى استحق هذا؟”!

أنا لا يهمني ذلك فعلًا، وأستطيع إخراجها اليوم بنفس القدر من الموضوعية والاستعراض. لكنني مدرك أنها ستواجه صعوبات في التوزيع والعرض تبعًا لمشاعر البشر اليوم، ومنها أنهم سيشعرون بجرح عميق لمناقشة أي موضوع يعتقدون أنه يمسهم ويساهم بشرخ أكبر فيهم. كل شيء اليوم يراقَب بالمجهر، تنهض صباحًا ومن دون أن تفتح فمك بكلمة ستواجَه بسبع جهات اجتماعية تتهمك بأنك قد انتهكت خصوصيتها وتهجمت عليها. شيء مؤلم ومحزن أن نصل إلى هذه الحالة وهذه المشاعر المتضاربة.

هل تعتقد أننا عشنا ذات يوم مقولة “عشْ ودع الآخر يعيش” وهي نوعًا ما قاعدة أولى للتعايش والاحترام، أم أنه كان نوعًا من السراب والوهم؟

من المؤكد أنه كان وهمًا، الحرية وحرية التعبير تمر بأسوأ حالاتها اليوم. ومعضلة التحسس من كل شيء أصبحت مقززة جدًا. هذه الدكتاتورية التي نرى فيها نوعًا من الممارسة الصائبة محبطة لكل واحد فينا، من ناحية المعيشة والإبداع. لو قُدّر لك أن تكون كاتبًا أو كوميديًا، فلا أوضح من ذلك. إضافة لما تنتجه وتكتبه، في أحيان كثيرة تصبح أنت نفسك رقيبًا شرسًا لما تكتبه وتحاول عمله، وهذا هو الأسوأ عمليًا.

لكن.. احترام طبيعة الإبداع ليس بالضرورة أن يكون متوافقًا كليًا مع الحالة؟

ولا هذا معناه التهجم عليه بطبيعة الحال. أنت تعرف بالقاعدة وواجبك أن تحترمها. أما في لحظة العملية الإبداعية، فلا مجال للرقابة الذاتية على الطاولة نفسها. بعدها قم بما تراه مناسبًا وما تشاء. لكن من المهم أن تكون متحررًا من نفسك ذاتها. أنا في هذا الفيلم الأخير، وفي أفلام أخرى، رأيتني مجبرًا بالبحث في ثنايا تجارب مررت بها، وحتى لو أنني ككاتب لم تعجبني الفكرة، إلا أن السيناريو كان يحتم هذا الأمر. وكان لا بد لي أن أخضع للأمر، وذلك لأنني فهمت أنها الطريقة الأنسب كي تكون أمينًا في الطرح وبالوقت نفسه تمنح الموضوع أهميته.

هل أنت قادر فعلًا على الفصل ما بين عمل الفنان وحياته الخاصة التي تكاد تنحو باتجاه آخر؟

صورة لبيدرو المودوفار

أعتقد انه إجباري. أنا لا يمكنني أن أتنصل اليوم من كل ما تعلمته من أفلام وودي آلن، بسبب من أن القضاء أو المجتمع اليوم يرى فيه شخصًا غير سوي. وكذلك شركة أمازون التي قامت بمنع فيلمه الأخير من العرض، وهي متندمة ولا بد، ولن تقوم به في المرة المقبلة. كما لا يمكنني مسح سيرة الممثل كيفن سبيسي من أي فيلم لكونه حوكم بجنحة اغتصاب. هذا لا يغير من كونه ممثلًا رائعًا حتى لو تمت محاكمته فعلًا، فعملية شطب إرثه الفني معناها الدعوة لدكتاتورية بغيضة. أحيانًا أفكر بطريقة أخرى؛ وهي أن ما مر به من حوادث قد عمق فيه الروح الفنية وليس الإنسانية بطبيعة الحال. أما حالة المنتج ويزنشتاين فأعرفها جيدًا، لقد وزع معظم أفلامي دوليًا، ولو عاش في مجتمع آخر لحُكم عليه بالسجن منذ عشرين عامًا.

لقد تربيت في ظل دكتاتورية فرانكو، كيف ترى تأثير السياسة في طريقة تصرف البشر؟ وهل تعتقد أن الحالة لها علاقة بطبيعة كل واحد منا أم في الطريقة التي يرغب بالبروز فيها؟

في الاثنين معًا، كان لا بد من انتظار فرصة ضعف الفرانكوية حتى نتخلص من سلطة طريقة الزي والألوان وقصة الشعر.. إلخ. كان على البشر أن تتوافق طموحاتهم مع طبيعة المجتمع المسيطر تمامًا. ثم إنك لو لم تحترم الطريقة المتخذة من السلطة والمجتمع، لأدى بك ذلك إلى السجن حتمًا. كان هناك حيز ضيق جدًا للتعبير عن الشخصية ورغبتها بالتصرف عمومًا. كذلك يجب القول إن إسبانيا آنذاك وإن كانت واقعة تحت سلطة الفرانكوية، فقد كانت تستقبل بشكل كبير كل تلك الحركات الفنية والثقافية من الخارج، والتي أثرت على الأجيال القادمة.

العديد من أفلامك تظهر فيها نساء قويات جدًا ومتحررات بشكل وآخر؟ كيف أثرن بك؟

أعتقد أن ما أثر بي هي حياتي الخاصة نفسها. خلال سنوات تكويني الشخصي كنت محاطًا بالنساء دائمًا، نساء قويات ومناضلات حياتيًا. نساء أفلامي مدهشات دومًا وبعيدات عن الاستعراضية، وهي قدرات تغني الشخصيات. ويجب علينا الاعتراف هنا أن إسبانيا قد أنجبت ممثلات أفضل بكثير من الممثلين طوال تاريخ السينما. وما قاله لوركا صائب تمامًا: رجال البلد ليسوا أكثر من قطعة واحدة متغيرة. كل الأفلام التي أخرجتها ببطولة رجالية تبدو رمادية قياسًا لتلك الأفلام التي تدور قصتها عن النساء. نساء أفلامي وحكاياتهن تشكل جزءًا من حكاياتي الشخصية لأنهن فعلًا جزء مهم من حياتي الخاصة، وهن شخصيات أُقدّر جدًا شجاعتهن على كل المستويات الحياتية. وجميل أن نرى المجتمع الإسباني في تطور ولم يعد يهمش المرأة أو ينظر لها نظرة دونية. في أفلامي أحاول أن أُرجع لهن دورهن كنوع من العدالة الشعرية، فالنساء العنصر الأكثر ديناميكية في التاريخ وفي حكايتي التي أعبّر عنها سينمائيًا.

نساء أفلامي مدهشات دومًا وبعيدات عن الاستعراضية، وهي قدرات تغني الشخصيات.

وهل تعتقد أن المرأة ما تزال تستطيع قول الكثير؟

لقطة من فيلم ألم ومجد

خلال قرون طويلة تم تهميشها وإخراسها وأعتقد أنها اليوم تستطيع قول الكثير، على الأقل برأيي أنها تستطيع عمل وقول أشياء أكثر من الرجال. إضافة لذلك فالمرأة محاورة من طراز خاص، ثم إنها لا تخجل من الاعتراف بالخطأ وقريبة الروح من ناسها. متنزهة من الذات عمومًا ولا خلاف عندها بالتعددية. والنساء عادة لهن سجل شعوري متعاطف مع الآخر، ولا تعترف بالمطبات القليلة التي يضخمها الرجال عادة.

يجب علينا الاعتراف هنا أن إسبانيا قد أنجبت ممثلات أفضل بكثير من الممثلين طوال تاريخ السينما

في حكاياتك السينمائية هناك دوران متسارع في السيناريو؟ لِماذا يحصل ذلك؟ أم أنها رؤيتك الخاصة عن الحياة؟

كل تكويني السينمائي كان شخصيًا، تعلمتُه ذاتيًا، سواء كان الإخراج أو كتابة السيناريو. لهذا لا أقترب من الحكايات وفق جداول ثابتة، بل بطريقة تقترب من التشكيل الجماعي. لا أحترم إطلاقًا قواعد الأجناس الفنية، ودائمًا ما مزجتها من دون تحسب لقاعدة أو شرط. ربما لأن الحياة تتخذ هذا المسار لا غير. على مدار يوم واحد لا غير، نمرُّ بلحظات كوميدية ودرامية وتوتر معين، وحتمًا أحد الأجناس تمرُّ فيها من تجسس وترقب ومتابعة إلخ. أفلامي وكتاباتي تعكس تنوع الحالات البشرية، والتدوير المتسارع يحدث بطريقة طبيعية جدًا.

كل تكويني السينمائي كان شخصيًا، تعلمته ذاتيًا سواء كان الإخراج أو كتابة السيناريو. لهذا لا أقترب من الحكايات وفق جداول ثابتة.

ما الذي تمثله لك أفلامك كلها؟

تمثل طريقتي برؤية الحياة وحياتي الخاصة نفسها في زمن إنجازها. أعالج عبرها مواضيع أبدية وأقوم بها على طريقتي الخاصة. عن الرغبة وهي أصل الخلق الفني، ومغامرة مزج الإبداع بحياتك الخاصة. وهذا ما أثار اهتمامي منذ شبابي وحتى اليوم. هناك مواضيع العزلة والعائلة والجمال والسخرية ضمن النَفَس التراجيدي، والجنون الذي يعانيه البشر نتيجة فقدان الشخص المحبوب، ثم هناك الأمومة والهوية.. أشعر أحيانًا وكأنني نوع من الآلهة وأنا أكتب سيناريوهات أفلامي. لقد حاولت -ولا أهمية هنا لعقيدة الشخصية أو اتجاهها السياسي أو الديني- أن أمنح شخصيات أفلامي صوتها المستقل، حريتها الذاتية. مع ذلك هذا سؤال تصعب الإجابة عليه، لأنني لا أفكر بأفلامي بهذا المنحى. ربما حاولت عبرها أن أصنع وأشارك الآخرين ما أحسه من مشاعر متضاربة.

أعالج في أفلامي مواضيعَ أزلية وأقوم بها بطريقتي الخاصة

بعد تجاوزك السبعين، هل وضعت ميزانية لما قمت به في حياتك؟ أقصد إيجاد مختصر مفيد لما نحن عليه: من أين جئت وأين أنا وإلى أين أمضي؟

لم أقم بموازنة واحدة طوال حياتي. أحاول عيش يومي. من الأفضل القول إنني أعيش فترات محددة بسنتين هي الفترة التي أقوم بها بكتابة السيناريو والإخراج وعرض الفيلم وتسويقه. السينما حياتي، وأعتقد أنني بهذا أكون قد قلت كل شيء.

فاصل اعلاني