• English
  • 14 يناير، 2025
  • 11:05 م

بيت بلا سقف: بيدرو كوستا وسينما المهمشين

بيت بلا سقف: بيدرو كوستا وسينما المهمشين

محمد البشير

5 December، 2023

محمد البشير

تحفل تجربة البرتغالي بيدرو كوستا بأفلام طويلة وقصيرة تقترب من العشرين عملًا، وتسلط هذه القراءة الضوء على أفلامه الطويلة، والدرامية منها، والتي ابتدأها بفيلم عنوانه O Sangue بالبرتغالية، وترجمته “الدم” عام 1989، واختار لونه منذ البداية، حينما اتخذ قرارًا بخروج الفيلم دون ألوان، مكتفيًا بالأبيض والأسود، فالحياة بها من السواد ما يكفي، ولن تظهر هذه العتمة جليّة إلا وسط البياض، فكوستا هو من يصنع قصص أفلامه ويخرجها، مفتشًا في قصص المسحوقين، وباحثًا عن مواطن الشقاء في قصص من لا حول لهم ولا قوة، منحازًا لمن لا يستطيع توثيق قصصه، فقام بهذا الدور، وتصدَّى له، وصار علامة فارقة في سينما المهمشين -إن جاز لنا تسميتها بذلك-، ولم يكن هذا الأمر محضَّ صدفة، فمن بداية الطريق، وهو يحاول الاقتراب حتى وصل إلى ما يريد، ولا أظنها نهاية الطريق، فالغوص في عوالم المسحوقين لا نهاية لها!

انحاز بيدرو كوستا لمن لا يستطيعون توثيق قصصهم، فقام بهذا الدور نيابة عنهم، حتى أصبح علامة فارقة في سينما المهمَّشين.

سقوط السقف

التفتيش في البيوت والقصص الآيلة للتداعي والسقوط مهمة خطرة؛ غير أن بيدرو كوستا أراد النبش في هذا الركام، ويكفي أن نتلمَّس هذا الملمح في عنوان فيلمه الأول “الدم”، وتصويره لحياة شقيقين فقدا والدهما، والأب دومًا سقف البيت الذي متى ما سقط تبدَّى كل شيء عيانًا، فهما يستظلان بظله، وبفقده صار لا ظلَّ لهما، بل والأدهى من ذلك أنه لم يتركهما بموته فحسب! بل ترك دينًا على عاتقهما.

التفتيش في البيوت والقصص الآيلة للتداعي والسقوط مهمة خطرة؛ غير أن بيدرو كوستا أراد النبش في هذا الركام منذ فيلمه الأول “الدم”.

الرحيل إلى النار

بيدرو كوستا برتغالي الأصل، ولدولته تاريخ في الاستعمار، فهي الدولة الأوربية التي احتلت دولًا منها دولة أفريقية تُدعى “الرأس الأخضر” 1460م؛ وذلك لموقعها الإستراتيجي في المحيط الأطلسي المكوّن من أرخبيل الجزر الواقعة غرب سواحل شمال القارة الأفريقية، وفضلًا عن الموقع، فـــ “الرأس الأخضر” مركز- بحكم موقعه الجغرافي- لتجارة العبيد، وانتقالهم عبره إلى مواطن أخرى لتسخيرهم للرجل الأبيض، حتى استقلت دولة “الرأس الأخضر” بعد خمسة قرون عام 1975م، وهذه المدة كفيلة باستمرار الاستعباد بطريقة أخرى، عن طريق هجرة المستعبدين طواعية بحثًا عن حياة أفضل؛ وعودتهم محمولين أحيانًا، وهذا موطن لمن يفتش عن قصص المسحوقين، في الرحلة لها بفيلمه الثاني Casa de Lava  “بيت الحمم البركانية” عام 1994م، عندما ارتحل ببطلة الفيلم ماريانا الممرضة البيضاء، التي تغادر لشبونة (العاصمة البرتغالية) لترافق -في عمل إنساني- مهاجرًا أفريقيًّا  في غيبوبة؛ ليعود إلى موطنه في الرأس الأخضر، ولتذهب عدسة بيدرو كوستا إلى منطقة جديدة تفسِّر عنوان الفيلم، فهي جزيرة النار، حيث ينشط بركان بالقرب من الجزيرة، ويترك أثره على الجزيرة بحمم بركانية، يتَّخذها السكان لبناء بيوتهم، وهل أقسى تعبير من بيوت مصنوعة من نار؟

البحث في الحي المجاور

لا يحتاج بيدرو كوستا أن يفتش عن النار بانتقاله من بلده، فلديه في الحي المجاور من عاصمته لشبونة ما يكفيه، فحسبه من الشارع الخلفي لحي فونتينهاس الذي يقطنه أغلبية من المهاجرين السود، والبحث عن قصص بني جِلدته بينهم في مدينة الصفيح المتهالكة، لاستخراج قصة لفتاة مراهقة تحبُل، وتبدأ رحلتها في التخلُّص من الطفل في فيلمه الثالث Ossos “عظام” 1997م، واكتشاف كاميرا بيدرو لمواطن جديدة أشبه ما تكون بجماليات القبح في الأحياء العشوائية، وبيوت من يعيش خارج خارطة الحياة، وفي مقابر الأحياء، وبلقطات طويلة لمطاردة الأحداث بكل تفاصيل المكان والزمان، من قبيل لقطة الأب وهو يخرج بكيس قمامة أسود، ويحمله كما يحمل طفلًا في داخله؛ ليحبس أنفاس المشاهد معه بطول الرحلة، وبصوت المكان الذي يفضِّله بيدرو على أي موسيقى تصويرية، فلا أبلغ من صوت حقيقي يشبه صورته التي يقدمها بامتياز، ولترتحل معه في توتر؛ لينقلك إلى منطقة أخرى أكثر رقيًّا، وأمام حاوية نفايات أكثر جمالًا -إن كان يحق وصف حواية النفايات بهذا الوصف- الذي تدركه عينك بالتجول في المكان بين الحي المسحوق ومركز المدينة، فحتى هذه الحاوية تختلف باختلاف المكان! ولتجد من تتبعته ومعه كيس قمامة، يحمل في مركز المدينة طفلًا بين يديه يستجدي به، فيضعك دومًا في ترقُّب دائم، كترقُّب أهل جزيرة النار لأي ثورة بركانية ربما تأتي ولا تأتي.

الاقتراب من الناس

انحاز بيدرو كوستا إلى تجارب الناس من حوله، فبطلة فيلمه “عظام” Vanda Duarte  هي من تقوم ببطولة فيلمه التالي عام 2000م، بل ويحمل عنوان الفيلم اسمها No Quarto da Vanda “في غرفة فاندا” ليصحب كوستا مشاهدي فيلمه لمدة ثلاث ساعات، ويغوص في حياة فاندا مدمنة المخدرات، ويعيشون مشاهدة طقوسها البطيئة في التعاطي، بمشاهد مطولة لا تعكس سوى توقف الحياة عند هؤلاء المدمنين، وقدمها كما هي بأمانة متطرفة تبعث الملل، وتحبس الوقت، وتقتل عقارب الساعة، وتعكس تفاصيل المكان بكل أدوات التعاطي، وقذارة الحي، وعمليات الهدم، وسقوط السقف، فالبيت لا طائل منه، سواء كان بسقف أو من دونه، عند فاندا أو من هو/هي على شاكلتها، فحسبها غرفة لا يتسع الوقت للخروج منها، وقد حصد بيدرو كوستا بهذا الفيلم سبع جوائز إحداها أفضل فيلم أجنبي في مهرجان كان السينمائي.

بطولة المهاجرين

تجارب بيدرو كوستا السابقة قادته إلى منطقة جديدة تستحق بطولة أهلها، فقدّم فيلمه Juventude em Marcha  “شباب على الطريق” عام 2006م، فبطل فيلمه Ventura يجسد شخصية مهاجر إلى البرتغال قبل استقلالها بأعوام بحثًا عن عمل، وتقاعد هذا المهاجر ليظلَّ فقيرًا كيوم هاجر، وبعد أن اتخذت الحكومة البرتغالية قرارها بهدم حيّه الفقير، ونقل أهله إلى مشروع سكني جديد في ضواحي لشبونة؛ ظلَّ فينتورا المهاجر في حنين مشابه لرحلته الأولى، حائرًا ما بين منزليه الجديد والقديم، مربوطًا بحبل وثيق ما بين بيته القديم الذي أسقط سقفه، وبيت جديد لم يستطع سقفه أن يظله ويحتويه، فظل أمينًا لزيارة حيّه القديم الذي أقام به، وظلت الكاميرا وفية لملاحم أهالي الحي، وحركتهم في لقطات طويلة، والاقتراب من تفاصيل وجوههم التي تحكي كثيرًا بصمت مطبق.

“في غرفة فاندا” يغوص كوستا لمدة ثلاث ساعات في حياة مدمنة مخدرات، عبر مشاهد مطولة لا تعكس سوى توقف الحياة عند هؤلاء المدمنين.

العودة للحي

عاد بيدرو كوستا ثانية للحي، مواصلًا تجربته مع فينتورا بطل فيلمه السابق، وبفيلمه الجديد Cavalo Dinheiro  “أموال الحصان” عام 2014م، وليضيف إلى قائمته Vitalina Varela ممثلةً جديدة، فأمام خياري أن تأتي بممثل ليجسد الدور، أو أن تجعل أهل الحي ممثلين؛ انحاز بيدرو كوستا للخيار الثاني، فلن تجد أبلغ من تعابير المسحوقين أنفسهم للتعبير عن حالتهم، وليحصد بهذه التجربة 22 جائزة من مهرجانات مختلفة، فبلاغة الصورة قادرة على إيصال الرسالة من وسط الحي،  وبأهله دون تزوير، وليكتشف ممثلةً جديدة تصنع محطته اللاحقة، بمونولوج لهذه الممثلة في هذا الفيلم، عندما روت رحلتها إلى لشبونة، قادمة من الرأس الأخضر، باحثة عن زوجها الذي سافر منذ سنوات، ولم يراسلها على الإطلاق منذ هجرته؛ لتجد نفسها في جنازته بعد فوات الأوان.

الفيلم وسط الفيلم

ابتدأ بيدرو كوستا في التفكير في فيلمه Vitalina Varela الذي أنتج عام 2019م، أثناء عمله في فيلمه السابق، حين كان يبحث عن مواقع التصوير، فوقع نظره على أحد المنازل لرجل مات قريبًا، فذهب كوستا إلى المنزل ليجد ضالته. امرأة في حداد على عتبة الباب، ترتدي ملابس سوداء، وظلت هذه اللقطة مع كوستا كما يقول، ارتعبت المرأة عند وصول كوستا وفريقه لها، فهي مقيمة غير نظامية، وحاول كوستا التواصل معها، لكنها لا تجيد البرتغالية، وهاجمها هاجس خوفها من انتماء هؤلاء البيض لمكتب الهجرة، وظلت قلقة لا تستطيع التعبير، وحاجز اللغة يحول دون تواصلهم، فغادرها كوستا ليعود لها مرة أخرى، وطلب منها بلطف أن تقف أمام الكاميرا، وتظهر في إحدى لقطات الفيلم، وهكذا استدرجها؛ لتظهر في فيلمه بدور عابر مهَّد للتفكير في فيلم حمل اسمها لاحقًا.

من كومبارس إلى بطل

هكذا كانت رحلة فيتالينا فاريلا في التمثيل، بل تجاوز الأمر ذلك لتكون مشاركة في سيناريو الفيلم بقصتها، ولتجسِّد دورها، فالتمثيل أن لا تمثِّل، وهذا ما أراده بيدرو كوستا، فهو لو حاول أن يجلب بطلة لتجسيد فيلمه؛ لن يصل إلى ما وصل إليه بتفاصيل فاريلا، ونظراتها، وسحنتها التي لا تمتلكها إلا من عاشت حياة بائسة، مثل ما جسدها الفيلم، ولا أبلغ من أن تعيش فاريلا شخصيتها وحياتها كما هي دون تبديل أو تحوير، وتجسيد مقولة قسطنطين ستانسلافسكي: “أن تكون حقيقيًّا في ظروف غير حقيقية”، أمام الكاميرات وطاقم التصوير، وتعيد الأحداث كما روتها لكوستا، ويُضفي عليها شيئًا من خياله، ليمتزج الواقع بالخيال، يجسدهما في فيلم المخرج والبطلة معًا.

من الهبوط إلى الصعود

ابتدأ بيدرو كوستا فيلم  Vitalina Varela بعودة رجال من جنازة، وسيَّر الفيلم بلقطات طويلة زمنًا وإطارًا؛ لاحتواء مشاهد متفرقة قبل أن تصل بطلة الفيلم حافية القدمين، وبلقطات قريبة لا تظهر فيها سوى قدميها، وقطرات يترك للمشاهد تفسيرها؛ لتهبط على درجات سلم الطائرة ليلًا في ظلمة دامسة، ويستقبلها نسوة من العاملات في المطار؛ لتعزيها واحدة منهنَّ في رحيل زوجها “خواكين” الذي جاءت من أجله، وتدعوها للعودة إلى الرأس الأخضر، فلا مكان لها في برشلونة بعد رحيل زوجها، ولا بيت يؤويها، ولكن فاريلا التي قطعت كل هذه المسافة لن تعود بهذه السهولة، فاستمرت في رحلة صعبة، حتى ختمها كوستا بلقطة مضادة لخروج كوستا في نهاية الفيلم بقدمين تصعدان درج المنزل نهارًا، وعمّال يعملون في إصلاح سقف المنزل المتهالك، وبانتقالة أكثر تحليقًا في مكان آخر لفاريلا وهي تعمل على سقف منزلها في “الرأس الأخضر” صباحًا بمساندة صغيرتها، فالفيلم بتدرجه اللوني من الحلكة، منذ بدايته، وصولًا إلى الضوء في نهايته؛ أبلغ تعبير عنه هو خروج السجين من كهف أفلاطون، وتعويده شيئًا فشيئًا لمقابلة النور.

لا ظلَّ له

يعتمد بيدرو كوستا على الظل والضوء كثيرًا، وهذا ما نشاهده في كل شخصيات الفيلم، معتمدًا على الإضاءة الليلية، وسط الغرف المتقشفة، ومن خلال الثقوب نهارًا من الجدران والأبواب التي لا تستطيع إخفاء الضوء، وظلت فيتالينا فاريلا بلا سقف يؤويها مجازًا، فزوجها هجرها بحثًا عن عمل دون أن يخبرها، ولم يعد، فغاب ظلها وفق التعبير المصري (ظل رجل  ولا ظل حيطة)، وهي قد فقدت الظلين معًا، فلا رجل ولا حتى جدار، وحين عاد ثانية عمل معها 45 يومًا في بناء منزلهم الذي لم يكتمل، وكانت سعيدة بعودته، فحسبها بعودته وسيلة تغفر له ما سلف، ولكنه هجرها مرة أخرى كالمرة الأولى دون أن يخبرها، ودون أن نعرف الحقيقة، فهي من تروي وحيدة في غرفتها الرواية، والغائب الوحيد الأكثر ذكرًا في الفيلم هو من دفنه المخرج في أول لقطة وأخفى ظله، ولم يعد له إلا مقبورًا في لقطة تجمع فيتالينا بالقس الذي يلعب دوره فينتورا.

يعتمد فيلم “Vitalina Varela” على الظل والضوء كثيرًا، من خلال الإضاءة الليلية وسط الغُرف المتقشفة، وثقوب الجدران والأبواب نهارًا.

معضلة السقف

فاريلا لها حكاية مع السقف، فأول لقاء لها مع أصحاب زوجها بعد دخولها للمنزل، أخبرها أحدهم أن السقف بحاجة لإصلاح، وأنه سيعمل على ذلك، ويغيب كما يغيب كثيرون، وتجري أحداث الفيلم، ولكن بيدرو كوستا لا يترك جملًا عابرة في الحوار لا يوظفها، فهي مما يُترقب لاحقًا؛ ليسقط حجر من السقف على رأسها، وهي تستحم، ويطيل المشهد لإيصال حجم الألم، ولا ينتهي الأمر إلى ألم فحسب، بل يتجاوزه لنعرف جميعًا حجم خوفها في ليلة عاصفة والسقف يتحرك، فالبيوت من الصفيح، والصوت يشتدُّ ويزداد، والخوف يتملك فاريلا التي تظهر تماسكها في الخارج، وتخور قواها داخل البيت، ولا بدَّ من مواجهة السقف، واعتلائه في محاولات يائسة منها لإعادة ترتيبه، وعندما لم يُجدِ الأمر نفعًا، توجت محاولتها بالعودة إلى دارها في “الرأس الأخضر”، وبناء سقفها، فـ (ما حكَّ جلدك مثل ظفرك).

باب بلا قُفل

لم تصغِ فاريلا للنصيحة التي استمعت إليها في بداية الفيلم، وأرادات أن ترى المكان الذي عاش فيه زوجها، فتفتقت عيناها على حقائق تعلمها، وأرادت أن تعاينها، ولكن القدر لم يمهل زوجها لترى مَن تخونها معه، وتحمل الاسم ذاته فيتالينا، وأبدى الفيلم للمشاهد بعض الحقائق، مثل الصور التي رماها صديقه في النار بعد موت “خواكين” زوج فاريلا، وقدرتها على مواجهة أصحابه عندما توشوشوا فيما بينهم: (هل هذه من حضرت جنازته؟)، فأجابتهم من وراء حجاب : (لا).

استمعت فاريلا إلى جملة عابرة من القسيس (باب بلا قُفل)، ومرت هذه الجملة حتى استبانت معناها بدخول صاحب زوجها في مساء متأخِّر بيد مرتعدة من فرط السُّكر، ومحاولته فتح الباب بمفتاح يمتلكه، وليدخل عليها في ساعة رعب تملكتها من دخول غريب على امرأة وحيدة في ما تظنه بيتها، وكل هذه الإشارات كافية للتفكير بجدية لخروجها من هذا البيت، والعودة من حيث أتت، فلا مكان لها في بيت مفتاحه عند أكثر من واحد!.

نوافذ وجدران

 يرصد بيدرو كوستا أبطاله من خلال التسلل إلى صورهم عبر نوافذ متعددة، وأوقف القسيس الوحيد في الحي وراء نافذة ليعترف! فمن يعترف لمن؟ وإن كان أهل الحي يعترفون لهذا القسيس؛ فلمن يعترف القسيس؟

 لم نر مشهد اعتراف أي واحد من أهل الحي، ولن نراه في حي هجر أهله الكنيسة، وظلت خاوية إلا من قسيس جاء ليتطهَّر من ذنب فعله، وعفَّر وجهه في التراب، وترك ظله على جدار الكنيسة، وبيدرو كوستا ترك للظل مساحة لا تقل عن الشخصيات، فظلال للشخصيات على الجدران، وظلال للنوافذ على وجوههم، وظلال للنوافذ على الجدران، في تبادل في الأدوار ما بين الظلال فيما بينها، فبيدرو كوستا يرصد بقايا ظلال الناس لحي في حقيقته تم هدمه، وأراد توثيق ذلك من خلال هذا الفيلم الذي حاز به 24 جائزة.

حابس الضوء

من يشاهد أفلام بيدرو كوستا سيجد حتمًا متعة بصرية في قُبح المكان، وهذا فيصل القدرة التي تملكها الصورة في أخذ المشاهد من مكانه، والتجوال به في حي لن يصله، وكوستا يمتلك هذه المهارة، فهو أحد صانعي الصور العظماء حسب تعبير آدم نايمان، عندما عدَّ وصديقه شون فينيسي فيلم  Vitalina Varela واحدًا من قائمة أفضل الأفلام لعام 2020م، ويظل أسلوب كوستا في مواجهة ما بين تفضيلات النقاد، والوصول بهذا لفيلم إلى 97% وفق مقياس النقاد على موقع Rotten Tomatoes، بينما يقيِّمه المشاهدون 57%، وهي نسبة جيدة؛ غير أنها تبدي الفرق بين من يشاهده بصبر لمتابعة بطء اللقطات، وعيش الحالة التي يريد الفيلم إيصالها، ومن يريد مشاهدة فيلم في مساء عابر، وليس له القدرة على تحمل هذا القدر من السكون والصمت، وتبقى السينما بحاجة لكل لون من ألوان الأفلام، ولون كوستا واحد لا غنى عنه.

من يشاهد أفلام كوستا؛ يجد متعة بصرية في قبح المكان، وهذا فيصل القدرة التي تملكها الصورة في أخذ المشاهد من مكانه للتجوُّل به في حي لن يصله.

صانع الأبطال

لم تخرج فيتالينا فاريلا خالية الوفاض، فهي سجلت قصتها لبني جنسها؛ بل لكل نساء العالم، وأثبتت جسارة المرأة أمام هرب بعض الرجال في مواجهة الواقع، وحققت ما أرادته من خلال الفيلم، فهي إن لم تقابل زوجها؛ فحسبها شرف المحاولة في التواصل معه، ولو تكلف الأمر تعلم اللغة البرتغالية والحديث بها، ما دامت الأرواح لا تفهم إلا لغة المنتصر (وفق ما جاء الفيلم)، وقد تحقَّق الأمر بمعرفة طرف متخيَّل صنعه بيدرو كوستا، وكثيرًا ما يصنع كوستا المعجزات، فهل بعد اختطافها لعدد من الجوائز من عدة مهرجانات، بوصفها أفضل ممثلة عن دورها في فيلم يحمل اسمها، فهل بعد هذه البطولة بطولة؟! وهل جسَّدت فيتالينا فاريلا حقيقة من خرج من الكهف، وأبصر العالم، نظرت لشمس الفوز حقيقة، وانعكاس صورتها على صفحات ماء السينما، وقدرتها على إرواء عطش عشاق الضوء.

فاصل اعلاني