ليف أولمان: الفيلم مسرح بطريقة أو أخرى .. ولم أهتم بكوني ملهمة برغمان

13 June، 2023
ترجمة نجاح الجبيلي
هناك لحظة في مسرحية “الآنسة جولي” التي ألفتها أوغست ستندبرغ عام 1888، حين تطلب الفتاة الأرستقراطية بشكل جذاب من خادمها “جون” أن يتخلى عن الرسميات بقول “آنسة” حين يخاطبها، هذا السطر يفسر المركز الموضوعاتي لهذه الدراما السوداء، أي الطرق التي تملي بها التقسيمات الطبقية الاتصال، وتكبح الارتباط الإنساني، لكنها تكشف عن الضعف المعارض الذي يتخلَّل عميقًا في الدور الأنثوي، إذ ربما يكون كاتب المسرحية نفسه غير واع ٍ به.
“وحدها المرأة تميـِّز ذلك”، هكذا تقول ليف أولمان التي أعدت وأخرجت هذه المسرحية للشاشة، وتضيف “كم هو مهم أن نرى من أجل ماذا نكون”، جاء هذا الإلهام ملائمًا من كونها ملهمة أنغمار برغمان لمدة طويلة. فقد عاشت مع المخرج العنيد المشهور مدة خمس سنوات على جزيرة فارو البعيدة على بحر البلطيق، ومثلت العديد من أعماله العظيمة، مثل: “برسونا”، و”سوناتا الخريف”، و”مشاهد من زواج”، لكن وجه السينما الإسكندنافية تخلَّص الآن من ظل برغمان، وصنعت لنفسها اسمًا ما وراء الكاميرا.
تمثل في الفيلم “جيسيكا تشاستن” الرائعة دائمًا (التي تذكر بشرتها الشقراء الفراولية وهيكلها المدهش بأولمان حين كانت شابة) وكولن فارل، تنتقل القصة من السويد إلى أيرلندا، ويجدُّ الفيلم في البحث عن المطالبة بامرأته المسماة على اسمه؛ كونها شخصًا أكثر تعقيدًا مما يوحي التجسيد الهائل لها من قبل سترندبرغ.
يمتدُّ الفيلم على مدى 24 ساعة في ليلة منتصف الصيف، وهو عبارة عن رقصة الإغراء المازوخية المتفجِّرة، إذ إنّ تحقُّقه الدامي يهدد بتدمير الطبقة الاجتماعية العليا بأكملها، إن فيلم “الآنسة جولي” لأولمان يعجُّ باللقطات الطويلة الواهنة التي تتخللها اللقطات المكبّرة المركزة، وهو يذكر بالشخصية المستقاة من الأفلام الفنية التي اعتادت تمثيلها بنفسها: محبطة وقانعة على حدٍّ سواء. ومثل كل المقطوعات الجيدة التي تختصُّ بفترة معينة، والحافلة بالتلميحات (“سوف أفرغه برشفة واحدة”، تقول جولي بجرأة وهي تشير بالطبع إلى كأس النبيذ الذي تصرُّ على أن يصبّه لها “جون”).
التقى موقع “أنديواير” مع المخرجة التي تبلغ الخامسة والسبعين والمشرقة دائمًا، وكانت كريمة بشكل لا يُصدَّق، ومخلصة على نحو جذاب، وكانت عيناها الزرقاوان المكهربتان تتألقان، بينما هي تتكلم عن فيلمها المحبوب.
هذا أول فيلم تخرجينه بعد 14 سنة من الانقطاع، والأول الذي تقدمينه باللغة الإنكليزية؟
يقولون كانت مدة طويلة جدًّا، لكن المسألة ليست كذلك، لقد أخرجتُ للمسرح خلالها هنا في نيويورك، أخرجت مسرحية “عربة اسمها الرغبة” مع كيت بلانشوت، وأديت دورًا على المسرح، والآن توقفت عن التمثيل، وقمت بالإخراج فقط، كنتُ أحضِّر لصنع فيلم عن مسرحية “بيت الدمية” لأبسن، تمثيل كيت ونسلوت وكيت بلانشوت، كنا ننتظر المال لكن المشروع توقف في النهاية.
تكلمتِ عن الظهور أمام المعوقات بسبب العمر والجنوسة، وحقيقة أنك ينظر إليك كممثلة لا كمخرجة، فهل كان هذا صراعًا من أجل صنع هذا الفيلم؟
من الصعب صنع فيلم حين تكون امرأة وممثلة، وخاصة الآن بسبب العمر أيضًا، لكني أحببت إخراج المزيد من الأفلام؛ لأنها تجمع كلَّ شيء أهتمُّ به، أريد أن أرى الصورة بأكملها.. كيف يتصرف الناس ولماذا، أنا حزينة حقًّا حين اكتشفت أني متأخرة جدًّا في ممارسة الإخراج، كنت حينها في الخمسين، وإلا فأني كنتُ سأصنع المزيد من الأفلام، أنا محظوظة في صنع فيلم مثل “الآنسة جولي”؛ لأن الأفلام الآن كبيرة.. بعض الأفلام التي لا تُصدَّق تُصنَع، لكنها كثيرة جدًّا، تلك الأنواع ذات الإنتاج الضخم التي تحصل على التمويل.
حزينة لأنني اكتشفت ممارسة الإخراج في سن متأخرة؛ كنت سأصنع المزيد من الأفلام.
سترندبرغ يكره النساء
يدور فيلم “الآنسة جولي” حول الشخصية أكثر مما يدور حول الحبكة، وهذه الشخصيات متقلبة، ورغباتها وحوافزها غير واضحة، كانت هذه فكرة سترندبرغ عن المذهب الطبيعي في المسرح، لكنها الأطروحة النقيض للتشخيص حسب السينما الكلاسيكية، فكيف وظفتِ الممثلين كي يُجسِّدوا هذه الشخصيات على الشاشة؟
بالنسبة لي هذه الشخصيات كان من السهل إخراجها؛ لأنني- كما تعرف- ممثلة مسرح، وهذه هي الطريقة التي أرى بها الحياة، وبالنسبة لي الفيلم مسرح بطريقة أو أخرى، وقد كان سترندبرغ مهمًّا بالنسبة لي؛ لأني اشتغلت كثيرًا مع تنسي وليمز، وكان متأثرًا جدًّا بسترندبرغ، في الواقع إنّ سترندبرغ يكره النساء وما وقفن من أجله، وبما أنّ هذا الفيلم معدٌّ عن عمل مسرحي؛ فكان لديّ الحرية أن أقول ما اعتقد أنه كان شعور الآنسة جولي، وأردت أن أظهرها بطريقة مختلفة، ماذا تشعر حين تقف في المدخل مثلًا، إذ إن سترندبرغ لم يعطها سطرًا هناك؛ لذا منحتها سطورًا، ليس معنى هذا الوقوف ضد سترندبرغ، لكني شعرتُ بالشخصيات وما ترغب في قوله، في الواقع بالنسبة لي كمخرجة فإنني أبني ما يجلبه لي الممثلون، فأنا أستطيع العمل فقط مع ممثلين رائعين.
الأعمال التي تقوم على الشخصية سهل عليَّ إخراجها؛ لأنني ممثلة مسرح، وهذه هي الطريقة التي أرى بها الحياة.
هل ترين أنكِ فعلتِ حسنًا حين أشركتِ الممثلتين “جيسيكا تشاستين” و”كولن فارل”؟
نعم! أعطيت لهما السيناريو وأخبرتهما أن يثقا فَّي وأنا سأثق فيهما؛ لأني أعلم أنه حين تبدأ الكاميرا بالدوران فإنهما سيكونان المبدعين، ولن أقول لهما بما يفكران أو لماذا يقولان شيئًا ما، فعملي في الواقع هو أن أهدأ، كان لديّ ثلاثة مواهب هنا: (سامانثا مورتنون وهي تؤدي دور كاثلين خطيبة جون أيضًا عضو طبقة الخدم)، هذه الفتاة الصغيرة السعيدة جيسيكا – أدعوها فتاة صغيرة، لا أفكر أبدًا في أنها لا تشبه شخصيتها في الحياة الحقيقية، حين بدأت ترتجل كانت مندمجة في الدور والمزاج الخاص بالآنسة جولي، وحين التقيت بها بعد الفيلم كنت متأثرة بما فعلت، تقول إننا أديناه معًا، وهذه ليست الحقيقة؛ إنها أدَّته بنفسها، فلو أديت دور الآنسة جولي سوف يكون لديّ اختيارات مختلفة، واختياراتها كانت الأفضل، أخبرتها بعد إحدى اللقطات عند النهاية، حين تتلوى على الأرضية، أنني ما كنت سأكون قادرة على ما قمت بأدائه، حين يقتل الطائر، وهو الشيء الوحيد الذي يكون بحوزتها، فإن هناك العديد من الطرق للاستجابة لذلك، ويجب عليّ أن أقول بأن الطائر ما كان سيقتل في الواقع، لقد كان دمية.
آمل ذلك! (يضحكان). وهكذا كنتُ أعمل مع الممثلين. أريد أن يفاجئوني، كولن أيضًا… كل فرد أدى دور جون كان يؤديه بمنتهى الرجولية، وهذا أمر في غاية الجهل بالنسبة لي، أظهر لنا كولن جانبًا آخر، حين تأتي إلى المطبخ كسيدة تبدأ بإلقاء الأوامر عليه حول ما يفعله، لكن تستطيع أن ترى من صلابة جسمه أنه يكره هذا الأمر، وأنه لا يوجد تمرُّد؛ لأنَّ هذه هي الكيفية التي ولد بها، الطريقة التي أدى بها الدور والعلاقة والغضب.. إنها أمور لا تُصدَّق.
الحدُّ الذي كان اتصالهما مقيدًا بالشفرات الاجتماعية للعصر- كل من الطبقة والجنوسة- يجعل من مشاهدة إغرائهما محبطًا وآسرًا على نحو لا يُصدَّق في الوقت نفسه.
نعم ذلك الذي يخلق التوتر- إنهما لا يفهمان الأجوبة المعطاة؛ لأنّ الأسئلة ليست حقيقية، إنها بالضبط كما قلت: إنها كلها تأتي مما كانا مولودين فيه، وأعتقد بأنّ لذلك متوازيات مع الحاضر من العديد من النواحي، نحن نتصرف حسب الطبقة التي ننحدر منها، و”الآنسة جولي” تظهر ذلك حقًّا، نحن الآن أكثر سوءًا، وأعتقد بأن فيلمًا كهذا يمكن أن يذكِّرنا بأخطار ذلك.
الفرد والحقيقة
العجز عن قول ما نريد فعلًا أن نقوله، ونجبر على التكلم بنوع من الشفرات المقبولة اجتماعيًّا، هو أمر ما زال إشكاليًّا اليوم بالتأكيد؟
نعم بالضبط، هل الفرد يجاري الحقيقة فعلًا؟ وعما يشعرون؟ حتى فرغسون مثلًا، الناس لا يجرؤون على القول بما يشعرون، يقولون ما يشعرون بأمان القول، لكنه اتصال غير حقيقي، الاتصال الحقيقي الوحيد هو تلك الصورة مع رجل الشرطة الذي يمسك بالصبي، والصبي بحاجة إلى أحد كي يحتضنه، تلك هي الحقيقة.
هل هذه قصة حبٍّ بالنسبة لك في المقام الأخير؟
نعم أظنها قصة حب، حقًّا أفكر في أنّ جون أحبّها من الحين الذي رآها كطفلة، لا أعتقد أنها كذبة. أتساءل إن كان كولِن يعتقد ذلك، لا أعرف بماذا أحسَّ، لكني أشعر أنه يحبها، لكنه بدأ ذلك بكل الطرق الخاطئة، بكل الطرق الرجولية، وأعتقد أنه يمتلك الكثير مما يعطيه، وأنها هي أيضًا كانت غير قادرة على الإصغاء.
لقد تكلمتِ في مقابلات سابقة عن وجوب التقليل من قيمة قوتك كامرأة خلال صنعتك، وأداء الدور كفرد يقدم المتعة، هل حدث هذا التحول حين اخترتِ أن تقفي خلف الكاميرا؟
لم يتغير بالطريقة التي يجب بها أن يتغير، أصبحتُ غاضبة لأن الرجال لديهم نزعة إلى التكلم معك كامرأة، أحيانًا أخفي الأمر، لكني أغضب في بعض الأحيان، الفيلم الأول الذي صنعته، كنت في الأسبوع الأول أقدم القهوة إلى الناس، وأفعل الأمور التي أعرف أنه ليس من الواجب عليّ عملها، وكأنني أؤدي دورًا في مسرحية “بيت الدمية”، أعمل عليه كل يوم، أعتقد بأن هذا الجيل من النساء أفضل بكثير، لكن ما زال من الأصعب أن تكون امرأة في هذه الصنعة بدلًا من أن تكون رجلًا.
أعتقد أن الجيل الحالي من النساء المخرجات أفضل، لكن ما زال من الصعب أن تكون امرأة في هذه الصنعة.
ملهمتي الأرقى
لقد عُرفتِ لعدة سنوات بكونك ملهمة أنغمار برغمان العظيمة، ما شعورك تجاه كلمة “ملهمة” بالتحديد، إنها إطراء ضخم، لكنها أيضًا محددة؟
إنها لا تزعجني، كان مخرجًا رائعًا، وأظهر لي الثقة الكبيرة، قال أنغمار شيئًا جميلًا لي قبل مدة طويلة، حين قلت شيئًا مثل: أوه، إنهم دائمًا يسألوني عنك، فقال “ألا تفهمي يا ليف بأنك ملهمتي الأرقى”. وأنت تعرف أني لم أهتم بأن أكون ملهمة فلان الأرقى، أنا مُقرة بجميل أنني عملت مع شخص مثله، وأنا أعرف نفسي، أعرف من أنا بشكل عميق، وأنا فخورة بذلك.
الفيلم الأول الذي مثلتِ فيه “هروب شبابي” أخرجتهُ امرأة هي أديث كارمار، ألم يصبك الإغراء أو الإلهام أبدًا أن تخرجي فيلمًا قبل فيلمك الأول “صوفي” في عام 1992؟
لا لم آخذ هذا الأمر مطلقًا في الاعتبار، كتبت الكثير بالإسكندنافية، وطلب مني أن أكتب سيناريو لفيلم، حين سلمته وكانوا سعداء به قالوا بأني يجب أن أخرجه، وفكرت: “ماذا؟” اتصلت بأنغمار، وقلت هل تعتقد بأني أستطيع أن أخرجه؟ قال نعم تستطيعين أن تحققيه، بعد ذلك الأسبوع الأول عرفت أن ذلك ما كان علي أن أفعله، كنتُ في الخمسين من عمري آنذاك، لكني في الواقع شعرت بالسعادة، وأرغب في صناعة المزيد، ثم أخرجت سيناريوهات لأنغمار، مثل “اعترافات سرية” 1996، و”خائن” 2000، أعطاني سيناريو “اعترافات سريّة”، وقال لي: “إنك تؤمنين بالله وأنا لا أؤمن؛ لذا يتوجَّب عليك أن تخرجيه”، كان سببًا أحمق، لكني أعتقد بأن حياتي كانت تعني أن تكون بالطريقة التي تحولت بها وأنا مُقرة بالجميل.