أوليفر ستون.. سينما تتخفَّى وراء قضية
13 June، 2023
إعداد محمد الفقي
لا يمكننا كتابة تاريخ سياسي لأمريكا بمعزل عن أفلام أوليفر ستون. مثلما لا يمكننا كتابة تاريخ اجتماعي لها بمعزل عن أفلام جريفث، وجون فورد، وفريدرك وايزمان، ومايكل مور. وأقوى بلورة لتلك الحقيقة تكمن في مشاهدة الحلقات الوثائقية التي صنعها ستون “التاريخ غير المروي للولايات المتحدة” 2012، والتي لا يمكن فهم التاريخ السياسي المعاصر لأمريكا فهمًا حقيقيًا دون مشاهدتها. وهو ما نجده أيضًا في فيلميه “جون كينيدي” 1991، و”نكسون” 1995، اللذين أوغرا عليه صدور غُلاة الحزبين “الجمهوري” و”الديمقراطي” على السواء، ومواليهم من النقاد وكتاب الأعمدة.
رأس المال المعرفي
الأعمال الآنفة، فوق أنها رفيعة المستوى متقنة الصنعة، لم تُصنع إلا بعد جهد بحثي استقصائي طويل ومكثَّف وأمين، رأس المال المعرفي هذا، والخبرة بمادة العمل، هما ما يرفعان مستوى العمل الفني ليصبح عظيمًا. سنعثر دائمًا على هذه الخبرة العميقة في كلِّ ما يصنعه من أعمال. لا يذهب ستون إلى أي مكان دون أن يعود إلى خبرته ورأس ماله المعرفي.
ولد أوليفر ستون عام 1946، لعائلة ثرية تقطُن مدينة نيويورك، ولأب يعمل سمسارًا في البورصة. بعد أربعين عامًا، استعمل ستون خبرته وذكرياته عن والده ومهنته في صنع “وول ستريت” 1987، أهم ما صُنع في السينما العالمية عن النيولبرالية والآليات التي تحركها؛ الجشع المالي، والخداع والغشُّ، واستباحة أي قيم أو مبادئ أو مثل عليا من أجل توليد الأرباح. ثم ألحق به جزءًا ثانيًا “وول ستريت: المال لا ينام أبدًا” 2010، عقب حدوث أزمة الرهونات العقارية عام 2008، والتي طالت تبعاتها المالية والاقتصادية كلَّ أرجاء العالم، نتيجة السياسات والآليات التي استشرفها ستون مبكرًا في الجزء الأول.
في سن العشرين، وقبل أربع سنوات من التحاقه بمدرسة السينما بجامعة نيويورك ليتعلَّم صناعة الأفلام على يد عرق من أعراق الصناعة؛ هو مارتن سكورسيزي، جُنِّد ستون في الجيش الأمريكي عام 1967، أثناء حرب فييتنام. فشارك في صفوف الجيش، وشهد المشاهد، وأبلى فيها حتى مُنح ثلاثة أوسمة في الشجاعة. لعلَّ تلك الخبرة هي ما شكَّلت وعيه في صدر شبابه، وفتحت عينيه على السياسات الاستعمارية الأمريكية في دول العالم الثالث، وأساطيرها الزائفة التي تُبرِّر بها حروبها من أجل مصالح طبقة ضئيلة الحجم، من أباطرة المال والأعمال، تسيطر على مفاصل السياسة الأمريكية، وتتحكَّم في كبار رجالاتها. وكأنه تجسيد حي لمقولة بام التي قالتها في فيلمه “الأبواب” 1991: “يصبح المرء نابضًا بالحياة حين يواجه الحقيقة؛ لأنه عندئذ يتعرَّف على معنى الحياة بصورة أعمق”.
نلحظ بوضوح أن ستون قد عثُر في خبرته في فييتنام على مادة غنية لتصوير السياسات الأمريكية، وآثارها المدمرة على المجتمع الأمريكي ومجتمعات دول العالم الثالث، وعلى الأفراد من كلا الجانبين على حدٍّ سواء. نجد صورًا من ذلك في أفلامه: “سلفادور” 1986، “الفصيلة” 1986، “وُلد في الرابع من يوليو” 1989، “الجنة والأرض” 1993، إضافة إلى الحلقات الوثائقية الممتازة “التاريخ غير المروي للولايات المتحدة” التي تقدَّم ذكرها.
من يستقصي أوليات حياة أوليفر ستون، قبل مشاركته في حرب فييتنام، يجدْها شبيهة بالصورة التي رسمها في أفلامه للجنود الأمريكيين الذين تطوَّعوا لخوض الحرب بدوافع الوطنية والشرف والدفاع عن الحرية. خصوصًا في فيلميه “الفصيلة”، و”وُلد في الرابع من يوليو”. لكننا نراه، بعد أن عاد من الحرب وقد نضج وعيه وتفتح، مثل هؤلاء الجنود أيضًا. ولعل طابعه القتالي ونزعته إلى البطولة، هما سبب رفضه الاكتفاء بالقناعة الشخصية لذاته فقط. والإصرار على تمريرها إلى المشاهدين في أمريكا والعالم أجمع. يقول الجندي كريس في “الفصيلة”: “لم نكن نحارب العدو. كنا نحارب أنفسنا. كنا نحن أعداء أنفسنا. وعلينا. نحن من نجونا من حرب فييتنام. التزام بأن نخبر الآخرين بما عرفناه هنا لكي نستمر في عيش ما تبقى لنا من حياة. وأن نحاول العثور على الخير والمغزى من وراء هذه الحياة”.
فنُّ السينما عند أوليفر ستون هو فنُّ التنوير. وستون نفسه أقرب إلى توصيف جرامشي للمثقف العضوي الذي يستهدف التنوير. وحياته هي صورة مُثلى لحياة الفنان العضوي الذي يأخذ على عاقته مهمة تبصير العامة. مؤمنًا بأن السينما أهم وأخطر من أن تُصنع للتسلية أو للتربح المالي. بل يجب أن تُصنع الأفلام بصورة أكثر جدية وأكثر مسؤولية؛ كما قال المخرج السويدي الكبير روي آندرشون في كتابه “زمننا الذي يخشى الجدية” 1990. تشهد سينما أوليفر ستون له بأنه أكثر السينمائيين المعاصرين كرمًا في إمطار التنوير مطرًا. علَّه يصادف موضعًا يؤثِّر في وعي المشاهدين، ويفتح عيونهم فيوقظ الغفلان.
يحسُن هنا أن نشير إلى أن أوليفر ستون، وعلاوة على أنه يُعد في التنويريين في السينما، والتنويريون قلائل، وفوق أنه لم يصانع هوليود، وإنما جاهر برأيه وفكره، منكرًا السياسات الاستعمارية، ودسائس ومؤامرات السياسة الأمريكية، والنيولبرالية واقتصاد السوق وقيمه الاستغلالية، إلا أن مذهبه في تقديم سينما رزينة لم يكن على حساب الصنعة والحرفة والأسلوب، بل هو عندنا من أسطوات الصنعة، ويحقُّ لنا الجزم بأنه من أهل البيان والتبيين؛ شريف في الصنعة، شريف في الغايات. هو فنان كريم العنصرين.
من يستقصي أوليات حياة أوليفر ستون، قبل مشاركته في حرب فييتنام، يجدها شبيهة بالصورة التي رسمها في أفلامه للجنود الأمريكيين.
تشهد سينما ستون أنه أكثر السينمائيين المعاصرين تنويرًا، وسعيًا للتأثير في وعي المشاهدين.
الأسلوب
لا تخرج سينما أوليفر ستون عن أربعة أنواع: الرعب، والحرب، والسلطة والسياسة، وعالم المال والأعمال. البون ليس شاسعًا بينهم، حتى لكأن العوامل المشتركة التي تجمعهم أكثر مما يمكن تصوُّره من الوهلة الأولى، بل تكاد تكون جميعًا لحنًا واحدًا معزوفًا بتوزيعات متنوعة. أما أسلوبه فخاص به متفرِّد، يمكن تلمسه بسهولة في أي من أعماله بغضِّ النظر عن نوعيته.
لا يترك أوليفر ستون أداة سينمائية إلا ويوظفها. ولعلَّه لا يوجد في السينما المعاصرة سينمائي له مبلغ شهيته في استخدام حيل السينما وأدواتها. فنيًّا، هو من أرومة هتشكوك؛ ملك ملوك التقنية والصنعة، وإن اختلفت الأساليب والغايات.
على سبيل المثال، يمزج ستون الدراما مع الوثائقية مع سادية أفلام الرعب مع السريالية والكوابيس في أفلام مثل “الفصيلة”، و”جون كينيدي”، و”نكسون”، و”قتلة بالفطرة” 1994، وهو الأسلوب الذي نجد بذوره في أولى أفلامه “النوبة” 1974، وثانيها “اليد” 1981.
وينتقل من الحاضر إلى الماضي إلى الكوابيس إلى الوثائق الأرشيفية المرئية والصوتية في “نكسون”، أو ينتقل من الحاضر إلى الماضي إلى الماضي الأبعد ثم الأقرب ثم إلى الحاضر مرة أخرى في “الإسكندر” 2004. أو ينتقل من الحاضر إلى الماضي وطفولة الشخصيات الرئيسية في “قتلة بالفطرة”، ويمسرح مشاهد فلاش باك الطفولة على نحو كاريكاتيري ساخر بأسلوب الستكوم كوميدي، مع إضافة أصوات ضحكات، وتصفيق متفرجي الصالة.
وكثيرًا ما يلجأ ستون إلى لقطات الأبيض والأسود. إما لتصوير ما يدور في خلد الشخصية، أو كوابيسها وهواجسها أو أمانيها. أو قد يستعملها أحيانًا في مشاهد الفلاش باك، كما في “الاستدارة” 1997، وأحيانًا أخرى في مشاهد الوثائق المرئية، كما في “جون كينيدي” و”نكسون”.
من علامات أسلوبه المميزة أيضًا توظيفه للقطات الإقحام “inserts” في صُلب الفيلم. أحيانًا يقحم لقطات قصيرة من داخل سياق الفيلم نفسه بأحد مشاهد الفيلم. كاستعماله للقطات عدو الخيول في “نكسون”، في مشهد يجمع بين نكسون وإدجار هوفر في حلبة سباق الخيل. وفي أحيان أخرى يقحم لقطات من خارج سياق الفيلم تمامًا. كحقن لقطات لسباق العربات الرومانية في محادثة بين مدرِّب الفريق وأحد اللاعبين في “يوم أحد عادي” 1999. أو حقن لقطات ميكروسكوبية لصراع خلايا الأمبيا، أو لقطات من الطبيعة لتجمُّعات من النمل، أو تلقيح النحل للزهور، أو جوارح تقتات على جيفة ثعلب.. إلخ. أو لافتات محلات وإعلانات الطرق، أو صور أرشيفية لأخطر المجرمين في التاريخ الأمريكي. كما في “الاستدارة”، “قتلة بالفطرة”، و”نكسون” على سبيل المثال. وقد يتم هذا التوظيف من أجل التوضيح والكشف. أو من باب وبضدها تتضح الأشياء، أو كرموز، أو لتكثيف المعاني، ويستخدم ستون مونتاج أيزنشتاين الفكري؛ مستهدفًا الجمع بين لقطتين لتوليد المعاني. بحيث يكون الناتج عن تتاليهما أكبر من حاصل جمع كلِّ منهما على حدة.
نستطيع أن نضيف إلى ما سبق أن أسلوب التشظية الذي اشتُهر به ستون. والذي كثيرًا ما يبنى عليه أعماله، لم يكن حبًّا في الشكلانية في حدِّ ذاتها. أو في الإيقاع السريع اللاهث. ولكن لأن التشظية وسرعة الإيقاع وقصر طول اللقطات، هو الأسلوب الأجدر للتعبير عن رؤيته للحياة المعاصرة. وما يسود عوالم السياسة والحرب والاقتصاد من فوضى وكابوسية. والتي تمتدُّ لتشمل الحياة العاطفية والممارسات الفنية. بل وحتى المنافسات الرياضية في اقتصاد السوق. كما رسم لها صورة واضحة في “يوم أحد عادي”. عارضًا كيف يُفسد المال وعقود اللاعبين والبزنس الرياضي والإعلانات التلفزيونية نقاء اللعبة. ويخلق أوليفر ستون، من خلال اللقطات الفلاشية السريعة انطباعًا قويًّا، لا بحقيقة المكان فقط، بل بجوهر الشخصية وروح العصر بأكمله.
أما عن شريط الصوت فهو لا يقلُّ تعقيدًا عن الصورة في أعماله. فعلى سبيل المثال نسمع في “قتلة بالفطرة” موسيقى وأغان أمريكية شعبية. وأخرى كلاسيكية، وثالثة هندية. ممزوجة جميعها بأصوات من الأرشيف الإذاعي والتلفزيوني من حقب مختلفة، وهكذا.
يجدر أن نشير إلى أن الوسيلة عند أوليفر ستون لا تسبق الغاية. وإنما الغاية هي التي تحدِّد الوسيلة والأسلوب الفني. وهو في هذه المسألة على نقيض هتشكوك، الذي كثيرًا ما كان يختار فيلمه أو بعض مشاهده لتجريب تقنية جديدة، أو فكرة أسلوبية خطرت بباله.
كلما أمعنَّا النظر في أعمال أوليفر ستون، رأينا أنه أستاذ عظيم في التقاط التفاصيل البصرية متناهية الصغر. هذا الضرب من البلاغة السينمائية نجد له مثالًا قويًّا في “نكسون”. فبلقطة قصيرة سريعة لإدجار هوفر، مدير الإف بي آي المرعب، عَبَّر عن مثليته. بأبلغ من خطاب طويل شارح. فإذا أضفنا أن ستون أستاذ عظيم ومتناهي الكبر في القيم العليا والتنوير، يكون جملة القول فيه إنه من مفاخر فنِّ السينما.
بنى أوليفر ستون أعماله على التشظية، ليس حبًّا في الشكلانية، ولكن لأن سرعة الإيقاع وقصر وطول اللقطات هو الأسلوب الأجدر للتعبير عن الحياة المعاصرة.