السينما الكندية ناقدة وناقضة لهوليوود: “دنيس أركان” وانهيار السطوة الأميركية
4 January، 2023
وليد الخشاب
تكاد تكون السينما الكندية مجهولة للقارئ والمشاهد العربيين، اللهم إلا أفلام المخرجين “ديفيد كروننبرج” و”أتوم إيجويان”، اللذين اشتهرا لحصولهما على جوائز عالمية في مهرجان “كان”، ولتمتعهما باعتراف دولي بمكانتهما. وقد تعززت هذه المكانة لأنهما، بالإضافة إلى تاريخهما السينمائي العريض بكندا، صنعا كذلك أفلامًا أميركية في هوليوود حصلت على نجاح جماهيري ونقدي على مستوى العالم.
في ما يلي، أبسط سريعًا معلمًا من معالم تميز السينما الكندية عن سينما جارتها العملاقة، الولايات المتحدة. فالسينما الكندية، على صغر حجم الصناعة، تتمتع بدعم من الدولة، وتسعى إلى إنتاج “أفلام مؤلّف” متميزة فنيًّا، على عكس الصناعة في هوليوود بأميركا، التي هي نموذج للإنتاج التجاري للقطاع الخاص.
وأركز هنا على مثال للإبداع الكندي المغاير للذوق التجاري، المبتعد عن هاجس التسلية من أجل التسلية، هو المخرج/المؤلف الكندي “دنيس أركان”. ويحظى “أركان” بشهرة عالمية كبيرة، لكنها شهرة تغطي أوساط الثقافات الناطقة بالفرنسية في الأغلب، ولا تبلغ المدى الذي يستحقه المخرج في العالم الناطق بالإنجليزية، ما يجعله بعيدًا عن دائرة الضوء في العالم العربي.
تتمتع السينما الكندية بدعم من الدولة لإنتاج أفلام متميزة.. على عكس الصناعة في هوليوود.
سينما التبعية وسينما المؤلف
على نحو ما، فصناعة السينما الكندية تبدو مجرد تابع أو مكمل لصناعة السينما في الجارة الأميركية. معظم النجوم في كندا تتأكد شهرتهم في بلادهم بعد أن يقيموا ويمثلوا أو يخرجوا أفلامًا في هوليوود. ومعظم مدخولات صناعة السينما في كندا ناتجة عن لجوء فرق إنتاج الأفلام في هوليوود إلى نقل التصوير إلى كندا. ففرق الإنتاج الأميركية تستفيد من المواقع والمناظر الطبيعية الكندية والمشاهد الحضرية التي تماثل نظائرها في أميركا، وكذلك تستعمل عمالة فنية كندية بنفس المستوى الأميركي، لكن بأجور أرخص من الأجور الأميركية. كذلك تتمتع الأفلام الأميركية المصورة في كندا بتسهيلات وإعفاءات ضريبية تمنحها الحكومات الإقليمية لهوليوود في مقاطعات كيبيك وأونتاريو وكولومبيا البريطانية، وجميها مقاطعات كندية تشتهر بكونها ساحات تصوير خلفية لاستوديوهات هوليوود.
أما عن الأفلام التي تنتجها كندا ويستهلكها السوق الكندي فعددها شديد المحدودية مقارنة بالإنتاج الأميركي من حيث كم الأفلام ومن حيث ميزانية الفيلم الواحد. ما تتميز به كندا هو دعم الدولة على المستويين المركزي والإقليمي لصناعة السينما، من خلال مساهمة الخزائن العامة في الإنتاج والتوزيع، ومن خلال الإعفاءات الضريبية التي تمنح لصناع الأفلام.
أضف إلى هذا أن المجتمع الكندي يشتهر بأنه مجتمع العزلتين. أي أن الأغلبية الناطقة بالإنجليزية والأقلية الفرنسية تتعايشان في الوطن الكندي الواحد. لكن تعيش كل جماعة منهما في ما يشبه العزلة عن الأخرى. تتجلى صحة هذه المقولة في مجال الإنتاج السينمائي الكندي، من خلال مفارقة مثيرة. فرغم أن أغلبية سكان كندا ينتمون إلى الجماعة الناطقة بالإنجليزية، فإن عدد الأفلام الكندية الناطقة بالإنجليزية لا يتناسب وعدد السكان الناطقين بالإنجليزية، مقارنة بعدد الأفلام الكندية الناطقة بالفرنسية التي تنتجها مقاطعة كيبيك الفرنسية، بالنسبة لعدد السكان الناطقين بالفرنسية.
في عام 2021، أنتجت كندا 112 فيلمًا منها حوالي 78 فيلمًا بالإنجليزية تتوجه إلى حوالي ثلاثين مليون كندي إنجليزي، بينما أنتجت مقاطعة كيبك وحدها حوالي 34 فيلمًا بالفرنسية تتوجه إلى حوالي ثمانية ملايين كندي فرنسي، وفقًا لموقع “Filmsquebec”. أي أن حوالي 70% من الأفلام الكندية تتوجه إلى 80% من سكان كندا، بينما حوالي 30% من الأفلام الكندية الناطقة بالفرنسية تتوجه إلى حوالي 20% من سكان كندا، وهم سكان مقاطعة كيبيك الفرنسية.
يبدو التباين بين الإنتاج السينمائي الأميركي والكندي جليًّا من حيث العدد. فعلى سبيل المثال، في السنوات الخمس السابقة على جائحة الكورونا منذ 2014 حتى 2019، كان عدد الأفلام الأميركية يتراوح بين حوالي 650 و700 فيلم، وفقًا لموقع “Statista”، بينما يصل الإنتاج الكندي بالكاد إلى ما بين 10% و15% من هذا العدد. ومن حيث مدخولات الأفلام، فوفقًا للموقع نفسه بلغت مدخولات الأفلام في كندا وأميركا معًا حوالي 11 مليار دولار أميركي عام 2017، بينما يؤكد موقع وزارة الإحصاء الكندية “Statcan” أن مدخولات السينما في كندا عام2017 نفسه بلغت أقل من 850 مليون دولار كندي، أي أقل من 650 مليون دولار أميركي. يعني هذا أن حجم مدخولات سوق السينما في أميركا سبعة عشر ضعف السوق الكندي.
وبسبب قلة عدد الأفلام السينمائية المنتجة في كندا، مقارنة بعدد الأفلام الأميركية، وضعف مدخولاتها مقارنة بمثيلتها في أميركا، فحتى تحقق السينما الكندية التمايز الإنتاجي والفني والثقافي في ظل هيمنة السينما الأميركية بهوليوود، تلجأ الدولة الكندية إلى دعم الإنتاج السينمائي الوطني، سواء بتقديم دعم مباشر من خلال برامج المنح الإنتاجية، أو بشكل غير مباشر من خلال الحوافز والإعفاءات الضريبية.
كذلك يسود المجتمع الكندي مفهوم دعم الدولة لحماية التنوع الثقافي، في إطار قبول عام لدور الدولة في تقديم الخدمات الاجتماعية والثقافية بشكل عام. فالدعم المالي الذي يقدم للمنتجات الثقافية الفرنسية، يهدف إلى الحفاظ على الحيوية الثقافية للمواطنين الناطقين بالفرنسية الأقلية. وبشكل عام، يهدف دعم الدولة الكندية للسينما الكندية والإنتاج الثقافي الكندي ككل إلى ضمان وجود صوت كندي، ومضمون فني وثقافي كندي على الساحة السمعية/البصرية العالمية، وإلى الحفاظ على الخصوصية الثقافية الكندية في مواجهة الهيمنة السينمائية والثقافية عمومًا للعملاق الأميركي.
نظراً لصغر السوق الكندي (38 مليون نسمة في كندا مقابل 333 مليون نسمة في أميركا) تركز الدولة الكندية، مثلها مثل معظم الدول الصغيرة، على استجلاب التقدير الفني لمخرجيها ودعم صورتهم كمؤلفين لأعمال فنية راقية، لا فقط كصناع مهرة لمنتجات مسلية. في هذا السياق نفهم سر بروز موهبة مخرجين/مؤلفين أمثال “دنيس أركان” و”أتوم إيجويان” و”ديفيد كروننبرج”. فسياسة الدولة تؤدي إلى اصطفاء مواهب فنية بغرض دعم صورة معينة عن السينما الكندية بوصفها “سينما مؤلف” راقية فنيًّا، ولا تهدف إلى الربح في المقام الأول، بل تسعى إلى خوض تجارب فنية متميزة، وإلى طرق موضوعات غير مألوفة وغير تجارية.
نقد الهيمنة
“دنيس أركان”، واحد من أشهر المخرجين الكنديين الكيبيكيين، وصنع الأغلبية العظمى من أفلامه بالفرنسية في مقاطعة كيبيك الكندية الناطقة بالفرنسية. حصلت أفلامه على جوائز دولية عديدة، منها حصوله على جائزة أفضل سيناريو عن فيلم “غزوات البرابرة” في مهرجان “كان” الفرنسي، وجائزة أفضل فيلم أجنبي في مسابقة الأوسكار الأميركية عن الفيلم نفسه.
برز “دنيس أركان” في مطلع السبعينيات كمخرج تسجيلي قدم أفلامًا تشارك في موجة دعم الاستقلال الثقافي والسياسي لمقاطعة كيبيك، في خضم الموجة الاستقلالية التي عمت المقاطعة الفرنسية الكندية. لفت الأنظار بفيلمه التسجيلي “أحوالنا سيئة” (1970) عن أحوال العمال وأجورهم المتدنية وظروف عملهم الصعبة في مصانع النسيج بكيبيك. اتسم الفيلم باستخدام تقنيات السينما المباشرة، وبطبيعية شديدة في عرض صوت العمال وصورهم، لا سيما النساء العاملات. وسرعان ما بدأ أركان بعدها في إخراج أفلام روائية مسلية. لكن بحلول الثمانينيات، بدا واضحًا أن “دنيس أركان” مخرج/مؤلف يصنع أفلامًا تحمل بصمته الفنية التي تغاير النموذج التجاري السائد. وتأكد ذلك بإخراجه أول أفلامه بالغة التميز “انهيار الإمبراطورية الأميركية”، الذي لاقى صدى عالميًّا واحتفاء نقديًّا كبيرًا.
صنع “دنيس أركان” أغلبية أفلامه المهمة باللغة الفرنسية في مقاطعة كيبيك الكندية.
يُعَدُ ذلك الفيلم الحلقة الأولى من رباعية سينمائية، من أهم أعمال المخرج “دنيس أركان” على مستوى الصنعة والكتابة وجدة الموضوع. تستعيد تلك الرباعية عناوين مهمة ولحظات فارقة في تاريخ الغرب، تُسْقِط تاريخ الإمبراطورية الرومانية على التاريخ المستشرف للإمبراطورية الأميركية: “انهيار الإمبراطورية الأميركية” (1986)، و”غزوات البرابرة” (2003)، و”عصور الظلام” (2007)، و”سقوط الإمبراطورية الأميركية” (2019).
عناوين أفلام تلك الرباعية تستعير على التوالي: أولًا، عنوان كتاب “انهيار وسقوط الإمبراطورية الرومانية” للمؤرخ الإنجليزي “إدوارد جيبون”، والعامل الرئيسي الذي يعزى إليه انهيار الإمبراطورية الرومانية، وهو انحطاطها الأخلاقي. وثانيًا، لحظة سقوط الإمبراطورية الرومانية تحت معول غزوات الشعوب البربرية، أي غير الرومانية. وثالثًا، فترة العصور الوسطى الغربية التي غرقت فيها أوروبا في ظلام الجهل والاستبداد، غداة تفكك الإمبراطورية. ورابعًا، تأكيد فكرة سقوط الإمبراطورية.
تزداد أهمية “دنيس أركان” في نظري اليوم، حيث تواتر الحديث في السنوات الأخيرة، في اللقاءات الخاصة كما في الإعلام وحتى في الدراسات الأكاديمية، عن تزحزح مركزية الهيمنة الأميركية على العالم. أو، بعبارة البعض، تدهور قدراتها، بينما أخرج “أركان” فيلمه العلامة “انهيار الإمبراطورية الأميركية” عام 1986، في أوج تميز الولايات المتحدة على الساحة الدولية وعشية انفرادها بمركز القوة العظمى منذ عام 1989 عندما بدأ الاتحاد السوفييتي، منافس أميركا، في التحلل.
وكأن أركان كان يتنبأ سينمائيًّا بما خفي على المحللين السياسيين والمؤرخين والمراقبين في منتصف الثمانينيات، وما لم يكن مطروحًا إلا بعد مرور ثلاثة عقود على عرض فيلمه عن “انهيار الإمبراطورية الأميركية”.
أثار الفيلم اهتمام المثقفين نظرًا لعنوانه الصادم، الذي يحاكي عنوان الكتاب الأشهر للمؤرخ الإنجليزي “انهيار وسقوط الإمبراطورية الرومانية” أو “انحطاط الإمبراطورية الرومانية” الصادر في أواخر القرن الثامن عشر، والذي يستدعي بالضرورة عملًا تاريخيًّا فارقًا يستلهم العنوان نفسه: “انهيار الغرب” أو “سقوط الغرب” للمؤرخ الألماني “شبنجلر”، الصادر غداة الحرب العالمية الأولى. يتميز فيلم أركان “انهيار الإمبراطورية الأميركية” بكونه يدور بالكامل في دوائر الأساتذة الجامعيين والأجواء الأكاديمية. لهذا يزدحم الفيلم بحوارات المثقفين، إذ لا تتوقف الشخصيات عن الثرثرة منذ اللقطة الأولى للفيلم.
في فيلم أركان “انهيار الإمبراطورية الأميركية”، تصرح إحدى الشخصيات بأن أطروحة جيبون الرئيسية تفترض أن انهيار الإمبراطورية الرومانية كان سببه الوفرة الشديدة التي أدت إلى انكباب المجتمع على لذات الأكل والشراب والجنس والشهوات بشكل عام، دون الالتفات إلى القيم الأخلاقية. ويتضح من خلال تتابع المواقف إسقاط ذلك التحليل على الحضارة الغربية المعاصرة، لاسيما الحضارة الأميركية، وكذلك إسقاطه على واقع شخصيات هؤلاء الأكاديميين الكنديين.
الفيلم عبارة عن مجموعة من المشاهد يلتقي فيها هؤلاء الأساتذة الجامعيون الأصدقاء للسمر، للعشاء، لتمضية إجازة صيفية معًا، لممارسة الرياضة، في مشاهد تبدو عادية لأنها مصورة بلقطات متوسطة، ومتوسطة مقربة، تشبه جماليات الحوارات التليفزيونية. لكنها مشاهد تثير انتباه المشاهد لتضمنها قدرًا هائلًا من النميمة والكلام المفضوح عن “الوجه الآخر للحياة الأكاديمية”. فتمتلئ حواراتهم باعترافات عن خيانات زوجية، وعلاقات مع الطالبات، وارتياد مواخير، والسياحة الجنسية، ويتساوى في ذلك الرجال منهم والنساء. ثم ما نلبث أن نكتشف أنهم يتبادلون الخيانات والعلاقات خارج الزواج فيما بينهم أيضًا، رغم كونهم مجموعة من الأصدقاء. أي أن حياة الشخصيات تمثل تجسيدًا لفكرة الانكباب على اللذات والسعي وراء المتع الفردية التي أدت لانهيار الإمبراطورية الرومانية، ويتنبأ الفيلم بأنها تؤدي إلى انهيار الحضارة الغربية، والأميركية تحديدًا.
تنبأ “دينيس أركان” سينمائيًّا بما خفي على السياسيين والمؤرخين من “انهيار الإمبراطورية الأميركية”.
سينما التاريخ
يحمل فيلم دنيس أركان “انهيار الإمبراطورية الأميركية” تأثيرًا كبيرًا لدراسة المخرج الجامعية في قسم التاريخ. فمعظم الأساتذة الجامعيين في الفيلم من قسم التاريخ، يتأملون قضايا أكاديمية عالمية وإن كانت تسقط نتائجها على الحوار المحلي في مقاطعة كيبيك وكندا عمومًا. لذلك يلفت النظر إلى أن العديد من مشاهد الفيلم تدور في قاعات الدرس، في أقسام التاريخ بجامعات كندية. تشكل تلك المشاهد مقلوب المشاهد المنزلية التي يكشف فيها الأكاديميون عن انغماسهم في الملذات.
فهم في قاعات الدرس يتحدثون بجدية، ويضعون النظارات الطبية، ويقدمون “الظاهر” المحترم الجاد، في مقابل “الباطن” الذي يكشفون عنه في حواراتهم الخاصة. يلفت النظر كذلك إلى أن الفيلم لا يصور الأساتذة الرجال وهم يقومون بالتدريس. فلا يرى المشاهدُ الأساتذةَ الرجالَ غالبًا إلا في حال البوح بخياناتهم الزوجية ومغامراتهم مع طالباتهم وزميلاتهم. بينما نرى النساء اللاتي يشغلن وظائف المعيدات، لا الأساتذة، هن اللائي يقمن بالتدريس معظم الوقت، أو هن اللائي يشاركن في حوار إذاعي يلخص فكرة الفيلم حول تزامن السعي وراء اللذة الفردية مع سقوط النظام الإمبراطوري عبر عصور التاريخ المختلفة. وهي إشارة سينمائية غير مباشرة للتفاوت في السلطة والدخل وحجم العمل بين الرجال والسيدات، حتى في عوالم الصفوة الاجتماعية الأكاديمية.
أقوى مثال على تلك المشاهد في قاعات المحاضرات هو مشهد تطرح فيه شخصية المدرسة فكرةَ ارتباط حركة التاريخ بالأعداد، وتذكر دولة جنوب إفريقيا كنموذج لأطروحتها. تذكر الشخصية طلابها بأن الأغلبية تستطيع أن تفرض إرادتها في النهاية، بفضل تفوقها العددي، وتشير إلى الصراع الدائر آنذاك في جنوب أفريقيا بين الأغلبية السمراء المحكومة بقوانين عنصرية من أقلية عنصرية بيضاء. وتقول إن الأغلبية سوف تنتصر يومًا بحكم قانون العدد، وهو ما تحقق بعد عرض الفيلم بسنوات معدودات بزوال حكم الأقلية العنصرية.
لكن هذا الموقف يشير من طرف خفي للصراع الدائر وقتها في كندا بين الوحدويين الكنديين والانفصاليين الكيبيكيين في المقاطعة الكندية الناطقة بالفرنسية. أي أن الفيلم بإشارته إلى الصراع بين الأغلبية السمراء والأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا يستدعي الصراع بين الأغلبية الناطقة بالإنجليزية في كندا والأقلية القومية الاستقلالية وسط الأقلية الناطقة بالفرنسية في مقاطعة كيبيك الكندية. فأغلب الكنديين من الناطقين بالإنجليزية مؤمنون بوحدة كندا بشقيها الناطق بالإنجليزية والناطق بالفرنسية، ما يعني ضمان وحدة كندا واستحالة انتصار الاستقلاليين الكيبيكيين الذين لا يزيد عددهم على عُشْر سكان كندا. فكأن أركان، رغم اعتزازه بقوميته الكيبيكية، يشير إلى استحالة تحقيق المشروع الاستقلالي لمقاطعته بالطرق الديمقراطية السلمية، وهو ما كان يمثل سباحة عكس التيار السائد في المقاطعة وقت ظهور الفيلم.
هكذا نجح “دنيس أركان”، بفضل دعم الحكومة المحلية الكيبيكية ودعم الدولة الكندية، في أن يكتب ويخرج فيلمًا مغايرًا للمألوف تجاريًّا، محوره ثرثرة المثقفين، يدور في أماكن داخلية منزلية حميمة. لكنه فيلم ناقض وناقد لهوليوود التي تعتمد على الإثارة وإيقاع المونتاج السريع، وحركة الكاميرا اللاهثة والتشويق. بل إن فيلم “انهيار الإمبراطورية الأميركية” ينقد الأساس القيمي لحضارة الولايات المتحدة، والغرب جميعًا، بسخريته من التناقض بين خطاب المثقفين الجاد المحصور في أبراج العلم العاجية، وبين ممارساتهم المستهترة واللاهية.
وهذا ما واصله في الأجزاء التالية من الرباعية السينمائية: “غزوات البرابرة”، ويقصد بها الأجيال الشابة التي لا تفكر إلا بلغة المال والمنفعة المادية، و”عصور الظلام”، وهو شهادة “أركان” على ما يراه من تَرَدٍّ أخلاقي ومعنوي في المجتمعات الغربية المعاصرة، و”سقوط الإمبراطورية الأميركية” وهو تأكيد “أركان” على أن ذلك السقوط معاصر لنا بالفعل.