“تار”: تود فيلد وكيت بلانشيت يبتكران شخصية حقيقية
13 June، 2023
إعداد بسام الرحيلي
“تار” هو عودة قوية للمخرج والكاتب تود فيلد، بعد توقُّف طويل دام خمسة عشر عامًا منذ آخر عمل له وهو “أطفال صغار” 2006. و”تار” فيلم يتتبع التحوُّلات في حياة الفنانة “ليديا تار” قائدة الأوركسترا، وأحد الأعمال التي يمكن للحديث والنقاش حولها أن يكون طويلًا ومتشعبًا. فهو فيلم مختلف ومثير للاهتمام في شكله وأسلوبه الفني، وأيضًا في طرحه ومعالجته للثيمات والقضايا الحساسة. خاصة تلك التي ظهرت وتنامت في السنين الأخيرة. وما تزال إلى اليوم تدور حولها آراء حادة ومتناقضة، مثل: ثقافة الإلغاء، آثار آراء الفنانين وتوجُّهاتهم على قبولهم ومكانتهم وأعمالهم الفنية، ووجود المرأة ودورها في الوسط الفني.
لعلَّ أول الأسئلة التي يثيرها الفيلم هي “ما نوعه؟”. اعتقد الكثيرون، وأنا أولهم، قبل وأثناء مشاهدة الفيلم أنه سيرة ذاتية. وأن شخصية ليديا تار شخصية حقيقية. وقد عرف البعض من خلال مجريات الفيلم – كما حصل معي – أنه قصة متخيلة، وأن “ليديا تار” ليس لها وجود. وراح آخرون يبحثون عن تار بعد نهاية الفيلم، عن صورها ومقابلاتها وحفلاتها. لكنهم لم يجدوا سوى صور “كيت بلانشيت” بطلة الفيلم.
وهذه النقطة تحديدًا كانت من أشد الأشياء التي لفتت انتباهي وأدهشتني في العمل. ولا أعتقد أن هذا الانطباع الذي تكوَّن عند المشاهدين كان عفويًّا. فكثير من التفاصيل، سواءً كانت في ترويج الفيلم أو في نصِّه ومجرياته، تشير إلى أن تود فيلد كان يتعمَّد خلق الانطباع بأننا أمام شخصية حقيقية تمامًا. شخصية ابنة لهذا العصر ولها وجودها في الوسط الفني.
فعنوان الفيلم وبوستره الذي تظهر فيه “كيت بلانشيت” وكأنها في لحظة تجلٍّ موسيقية وفي يدها عصا المايسترو، كانا أول دلالة -أو إيهام- أننا أمام قصة حقيقية. ثم المقابلة التي يفتتح بها الفيلم، وفيها يسرد المحاور (محاور شهير في الواقع من صحيفة نيويورك تايمز) تاريخ “تار” الفني وإنجازاتها. مسميًا وقائع وجوائز حقيقية ومعروفة. وثمة إشارات طوال الفيلم لشخصيات موسيقية ووقائع حقيقية. كل شيء كان حقيقيًّا في عالم الفيلم ما عدا شخصية “ليديا تار”.
وهذه فكرة -أو حيلة- أجدها عبقرية من “تود فيلد”. استطاع من خلالها أن يسأل أسئلته الكبيرة عن سلطة الفنان. وعن علاقة الفنان بفنه وبالجمهور وغيرها من الأسئلة التي كان حضورها بالفيلم واقعيا وحقيقيا. لأنها أسئلة تأتي وتنبع من عالم حقيقي تم تشييده. تلعب فيه شخصيتنا المتخيلة وحدها بحرية نصية، حاملة معها تلك الأسئلة الكبيرة. ولا أقصد بوصف “متخيلة” على شخصية “ليديا تار” إلا بأنها قادمة من خيال “تود فيلد”. فظهورها وكل صفاتها حقيقية جدًّا، وهذا من أهم وأروع عناصر الفيلم. فكيف تخلق شخصية بهذه الواقعية والجدلية الملتفة حولها. وبهذه الآراء والمواقف حول موضوعات عصرية، ثم تشاهد العمل ولا تعتقد أن هذه الشخصية ينقصها شيئ، كي تكون حقيقية، سوى وجه آخر غير “كيت بلانشيت”.
كثير من التفاصيل في الفيلم تشير إلى أن تود فيلد تعمَّد خلق انطباع بأننا أمام شخصية حقيقية ولها وجودها في الوسط الفني.
مفتاح العمل
في بدايات الفيلم، وبعد مشهد المقابلة الذي تتَّضح فيه بعض جوانب “تار”، مثل ذكاء حديثها، شغفها بالموسيقى، لباقتها في المظهر والحضور، يأتي المشهد الذي أرى أنه المشهد الأهم في الفيلم – وقد يكون الأجمل بصريًّا وتعبيريًّا، من حيث إدارة حركة الكاميرا والممثلين داخل الصورة – ففيه يدور نقاش حاد بين “تار” وأحد طلابها، ويمتدُّ المشهد لعشر دقائق أو أكثر، بلقطة واحدة دون قطع، وخلال هذا النقاش تجتمع موضوعات الفيلم وأسئلته التي ستُعالج في الساعتين القادمتين منه، ولعل أهمها “فصل الفن عن الفنان” و “طبيعة السلطة وأشكالها المختلفة”.
يبدأ المشهد على قيادة الطالب “ماكس” للأوركسترا وسط ملاحظة “تار” حين توقفه لتسأله، عن خلفيته الموسيقية، ومصادر إلهامه، يمتد الحديث، لتسأله عن رأيه في الموسيقار الألماني “باخ” فيجيب يأنه لا يحبه لمواقفه العنصرية المتحيزة جنسيًّا، لتبدأ شرارة الاختلاف والتناقض الصارخ بين معتقدات “تار” والطالب الشاب “ماكس”. تستاء “تار” من جوابه البليد، موضحة أننا مهما اختلفنا أو امتعضنا من مواقف غير أخلاقية لبعض الفنانين، فإننا نعود مرة أخرى لعبقرياتهم الفنية، مقرّين بروعتها وكمالها. وضربت بـ”بيتهوفن” مثالًا على كلامها. لتطلب بعد ذلك من “ماكس” أن يرافقها لـعزف مقطوعة لـ”باخ”. كمحاولة منها للفت نظره لعبقريته الموسيقية، وزعزعة أفكاره المسبقة، ودعوته لتأمل منتجه الفني فقط. ولكن ما أن تنتهي من عزف المقطوعة حتى يتبيَّن أنه لم يتفاعل معها، ولم يغير شيئًا من رأيه. لتنتقل “تار” لمرحلة أقرب للغضب و “الشخصنة”، فتبتعد عن المسرح وتطلب من الطلاب – بشيء من السخرية اللاذعة- أن يقيموا “ماكس” بناءً على معاييره. فيشتمها ماكس قائلًا “أنتِ سافلة” ويخرج من القاعة. وتردُّ هي عليه “عُمران روحك مركّب من السوشيال ميديا”.
طوال هذا المشهد المثير للاهتمام، والمليء بالتأملات حول ثقافة الإلغاء المتنامية مؤخرًا، وكيف نفصل بين الفنان وفنه، وكيف تأخذ السلطة شكلها، كانت إدارة الكاميرا وحركة الممثلين معبرة. حيث اللقطات الواسعة التي تظهر المسافات الكبيرة داخل القاعة، وكيف تتحكَّم بها “تار”. واللقطات التي تظهر “تار” في مقدِّمة الصورة و”ماكس” ضئيلًا في نهايتها. وتحديدًا في لحظات فرض السلطة والتلاعب النفسي. حيث الاقتراب والابتعاد، والحميمية والنفور.
هنا فقط – تقريبًا – سوف يتم الحديث عن هذه الموضوعات بصوت عال، وبهذا الوضوح والمباشرة. وهذا مبرر؛ لأننا في قاعة دراسة، ووسط حديث من “معلمة” لطلابها. ولكنّ هذه الموضوعات سوف تمتد خلال الساعتين القادمتين في حياة “تار”، مبرزة كيف تمر بالعديد من التحولات والتقلبات وتعاني من ثقافة الإلغاء نفسها التي كانت تهاجمها في القاعة، وكيف تتناقض أفعالها مع م قالته في القاعة عن “محو الذات”. لنجد أنفسنا أمام شخصية لا تتوانى عن استخدام سلطتها – وإن كان بشكل غير أخلاقي – في إزاحة كل ما يعيقها عن النجاح والوصول إلى مبتغاها.
على مدار ساعتين يعالج الفيلم العديد من القضايا المهمة، في مقدمتها “فصل الفن عن الفنان”، و “طبيعة السلطة وأشكالها المختلفة”.
دراما الصعود والسقوط
لا عجب أن يصرّح صانع العمل “تود فيلد” أنه كتب الدور خصيصًا لكيت بلانشيت. وأنها إن لم تكن وافقت لما أخرج الفيلم. فشخصية مثل “تار” بتكاملها النصي وتعقيدها وتناقضاتها كان من الواجب أن تُقدّم بهذه الحساسية والعبقرية التمثيلية. خاصة وأن “تود فيلد” قدّم هذه الشخصية بذكاء ورهافة شديدتين. فهو لا يجعل مفاتيح فهم شخصيتها ودوافعها- وبالتالي الحكم عليها وتصنيفها- أمرًا سهلًا. إذ لا تعبّر “تار” عن نفسها كثيرًا، لا تُبرر أفعالها، ولا تشرح دوافعها. ومن ثم يعتمد “فيلد” على ذكاء المشاهد في تشرّب هذه الشخصية من خلال النظرات والتحديقات وتسلسل الأفعال والترابط بينها. ومن خلال التناقض بين المسكوت عنه والمنطوق. وكل هذه وسائل وإشارات لفهم الشخصية والتفاعل معها. وبمثل هذه الدلائل لا يكون الوصول الأخير لتحليل الشخصية أو فهمها بشكل أحادي ولكن بشكل متعددد. فكلما تلاشت المباشرة في كتابة الشخصية أصبحت أكثر ثراءً. وكلما أصبح السرد أقل وعظية أصبح الحكم على الشخصيات أصعب. وبالتالي إمكانية تفهّمها أعلى وليس بالضرورة حبها أو الاتساق معها. وفي هذه الحال سنكون أمام عمل يحيّرنا ويستفزنا للتأمل ومراجعة موضوعاته بشكل مختلف، وربما أعمق. وهذه من أهم حسنات هذا العمل، وهي ميزة قلّما نجدها في الأفلام السينمائية مؤخرًا.
نبدأ مع شخصية “تار” وهي في القمة، فهي أول قائدة للأوركسترا الألمانية وشهرتها عالمية، وحققت إنجازات وجوائز فريدة، ونجاحًا مهنيًّا كبيرًا. تسيطر تار على أركان حياتها المهنية والشخصية. تظهر دائمًا واثقة، ومسيطرة. تعرف كيف تتصرف، وماذا تقول. تكون “تار” في أكثر لحظاتها إنسانية في حضرة معلمها المسنّ “أندريس” عندما تعلم أنها “أقلّ”. وتتحرَّر من أعباء السلطة و”الإيجو”. وفي هذه التفاصيل إشارات إلى أثر السلطة على الذات قبل الآخرين، وبالهوس بالذات. تبدأ “تار” بفقدان السيطرة شيئًا فشيئًا، وتدبّ الفوضى في حياتها من جميع الجهات. مشكلات في المنزل، مع العازفين في الأوركسترا. ولكن أهمها هو خبر انتحار إحدى زميلاتها الموسيقيات “كريستا”، التي كانت ترسل إيميلات يائسة باستمرار، دون رد من “تار”. وفي ماضيها مع “كريستا” إشارة إلى علاقة جنسية استغلالية. لعل هذه الواقعة وتفاعل “تار” معها، تجعلنا نشاهد الجوانب غير الأخلاقية في شخصيتها بشكل صارخ لأول مرة. وسعيها الصارم للنجاح، وإزاحة كل ما يمكن أن يعيقها.
تبدأ أخبار تلك الواقعة وعلاقة “تار” بها بالانتشار، لتبدأ من هنا سلسلة السقوط في دراما ثرية وممتعة. فنشاهد في النصف الثاني إيقاعًا أسرع، يوازي سرعة السقوط في عصرنا الحالي. ونشاهد “تار” وهي تفقد زمام السيطرة شيئًا فشيئًا. فتتبدل التعبيرات المقتضبة والنظرات الطويلة الهادئة، إلى ملامح وتعبيرات فوضوية وإلى هوس. والوساوس التي كانت ترافقها طوال الفيلم بسماع أصوات غريبة تصل إلى أقصاها، والأحلام تصبح أكثر كابوسية. تصل “تار” إلى أقصى مراحل الانهيار في المشهد العبقري لـ”كيت بلانشيت” حيث تستعد للدخول لقيادة الأوركسترا التي كانت تعمل عليها منذ بداية الفيلم. ولكن هذه اللحظة جاءت بعد أن دبت الفوضى في حياتها وفقدت السيطرة تمامًا. تُجسّد “كيت بلانشيت” في مشهد عبقري شخصية منهارة تحاول أن تبدو عكس ذلك، لتنطلق إلى المسرح بسرعة قلِقة، وتوتر واضح يجعلها تتعثر أمام الجمهور، ثم تحاول جاهدة أن تفرض سيطرتها وتصرخ بعازفيها -وسط ذهولهم- أن يستعدوا. وحين يحاول أحد مساعديها إيقافها تلكمه وتنقضّ عليه في مشهد دراميّ صارخ بين كلاسيكية وسموّ الأجواء العامة في صالة الأوركسترا، وبين العراك والشتائم الصارخة.
تصل “تار” إلى القاع تماما. فقد تم إلغاؤها ثقافيًّا، وطردها من الأوركسترا. لتنتقل بعد ذلك للتعليم في شرق آسيا والعمل في الهامش شاحبة وباهتة، في تصوير لنظام لا يرحم من يتعثر ويقصيه بسرعة صادمة.
صرّح “تود فيلد” بأنه كتب الدور خصيصًا لكيت بلانشيت؛ لأن شخصية “تار” بتكاملها النصي والنفسي كانت بحاجة إلى هذه الحساسية والعبقرية التمثيلية.
ستة ترشيحات أوسكارية
لعل أهم هذه الترشيحات: أفضل ممثلة لـ”كيت بلانشيت”، وأفضل مخرج، وأفضل نص لـ”تود فيلد”. ويستحق الفيلم بالتأكيد هذا الاحتفاء وهذا الاستقبال النقدي الممتاز. لا يطرح “تار” أفكارًا جديدة وغير مسبوقة، ولكنه يسرد ويصوّر موضوعاته ببصمته الخاصة، وبذكاء وإيقاع وصورة تشد الانتباه. كأي عمل فني ممتاز؛ يفتح “تار” المجال للكثير من الأسئلة، ويحتمل الأحكام المختلفة لمشاهديه، وتستطيع مشاهدته والحديث عنه من أكثر من زاوية، ولعل واحدة منها اختيار الموسيقى الكلاسيكية كملعب لسرد القصة. حضور هذه الموسيقى في العمل، وربطها بموضوعاته وبشخصيته الرئيسة، وهو جانب مثير للاهتمام، يحتاج إلى مختص أو عارف بالموسيقى الكلاسيكية وتاريخها وإشاراتها بالفيلم.