فيلم “مَلَنْخوليا” والعناق الكوني

4 January، 2023
أمين صالح
فيلم مَلَنْخوليا “Melancholia” (2011)، هو تحفة المخرج الدنماركي لارس فون تريير، الذي يعد واحدًا من أكثر الأسماء شهرةً ومكانةً في السينما العالمية المعاصرة، نظرًا لما أنتجه من أعمال رائعة، متميزة، ومثيرة للجدل والخلاف. صاغ لارس تريير، مع مخرجين آخرين بيان الدوغما “dogme” الداعي إلى سينما متقشفة، وكان أمينًا لمبادئ الدوغما في فيلمه البلهاء “The Idiots”. ويقدّم هنا، كما في فيلمه السابق “المسيح الدجال”، نوعًا مختلفًا من الأفلام، بنائيًّا وسرديًّا وجماليًّا وشعريًّا.
يقدم الدنماركي لارس فون نوعًا مختلفًا من الأفلام.. بنائيًّا وسرديًّا وجماليًّا وشعريًّا.
الوجع الإنساني والحدث الكوني
على الرغم من الطبيعة الكئيبة، القاتمة، لعنوان الفيلم “مَلَنْخوليا”، فإن المتفرج يعيش تجربة جمالية وإبداعية فاتنة، عبرها يتحرّى تريير الوجع العاطفي وتعقيدات النفس البشرية، بوسائل بصرية شديدة الحساسية ونابضة بالحياة, وعبر هذه التجربة أيضًا يطرح تريير تأملاته العميقة عن الحياة والحب والموت.
العنوان يشير إلى شعور الإنسان بالكآبة، بالسوداوية، بالانقباضية، بالنزوع إلى الحزن. كما يشير إلى كوكب أزرق مجهول وغامض، أطلق عليه اسم ملنخوليا، كان متواريًا خلف الشمس، وقد انحرف عن مساره ليتجه نحو الأرض مهدّدًا بدكّ كرتنا الأرضية وتدميرها وإبادة كل المخلوقات.
الفيلم لا ينتمي إلى الخيال العلمي، لكنه يجاور الدراما السيكولوجية العائلية، أو الدراما الوجودية، مع حدث كوزمولوجي (كوني) سوف يفضي إلى انقراض البشر وإبادة كل أشكال الحياة، مع انحراف الكوكب، في مساره المنخفض، مخترقًا مجال الجاذبية الأرضية. ثم على نحو محتوم ومتعذر اجتنابه، ولا سبيل إلى تغيير مساره، يصل إلى السطح ليصطدم بالأرض ويمحوها من الوجود.
الفيلم يبدأ وينتهي بمشهد دمار العالم، بالكارثة الكونية، رابطًا التجربة الشخصية الباطنية بالحدث الكوني. وبهذا الفيلم يلقي تريير نظرة تشاؤمية على الطبيعة الإنسانية، ويقدّم رؤيته لنهاية العالم على نحو مختلف، بالغ الشاعرية والرهافة والجمال، حتى أن ناقدًا هو “أنتونيو بازوليني” تساءل: “هل حقّق أحدٌ من قبل فيلمًا جميلًا كهذا عن نهاية العالم؟”.
معظم الأفلام التي تناولت نهاية العالم قدّمت مادتها من خلال نوعية الخيال العلمي أو أفلام الكوارث، حيث الاعتماد على المؤثرات البصرية والسمعية في التركيز على مناظر التدمير والانهيارات وحوادث الهلاك الشامل، مع حبكات فرعية ميلودرامية أو مرعبة. فيلم “ملنخوليا” يتجنب اللجوء إلى تكتيك الصدمة، أي إحداث صدمة لدى المتفرج، كما لا يهاجم حواسه بصور حافلة بالكوارث وذات إيقاع سريع، وكذلك لا يهتم بآليات الكارثة الكونية.
يربط فيلم “مَلَنْخوليا” التجربة الشخصية الباطنية بالحدث الكوني.. ويتقصى العلاقة بين الحب والموت.
الاحتفاء الشعري بالكارثة
يهدم تريير خصائص وعناصر النوع “genre” الكوارثي، ويحوّل الحدث إلى مادة شعرية. إنه ينجح في تحويل الخوف من النهاية إلى احتفاء شعري بها. الكوكب يخدم كمجاز مثالي لحالة الكآبة الخانقة والمستبدة التي تعانيها جوستين (بطلة الفيلم). إنه إسقاط ليأس جوستين ونزوعها إلى التدمير، ليس تدمير ذاتها فحسب، بل تدمير كل المحيطين بها. الكوكب يدمّر كل ما يصادفه في طريقه، فيزيائيًّا وذهنيًّا، مثلما تفعل الكآبة تمامًا. الكارثة الوشيكة تجلٍّ خارجي لما تشعر به من الداخل. لذلك هي ترحّب بالكارثة باعتبارها شكلًا من أشكال الانتحار من دون أن يرافقه شعور بالذنب، ذلك لأن الجميع، وكل شيء، سوف ينتهي.
يقول تريير في حوار أجراه معه يوجين هرنانديز في 18 مايو 2011: “بالنسبة لي، الفيلم ليس عن نهاية العالم، بقدر ما هو فيلم عن حالة ذهنية”. ويضيف: “إنه عن التوق.. عن الرغبة”.
الافتتاحية الباهرة
يبدأ الفيلم بلقطة كبيرة لوجه جوستين (كيرستن دانست) تملأ الشاشة وهي تواجه الكاميرا، محدّقة فينا بوجه حزين. تتبعها صورة لشكل دائري، يملأ الشاشة تقريبًا، يلوح في الأفق وكأنه على وشك الوقوع، إنه كوكب ملنخوليا. ثم نرى، خلال عشر دقائق، سلسلة من اللقطات الفاتنة، المدهشة، الآسرة، الأشبه بلوحات سوريالية (قريبة من لوحات البلجيكي بول ديلفو)، أو تكوينات حلمية، والمصوّرة بكاميرا ثابتة (تحت إدارة مدير التصوير الإسباني العظيم مانويل ألبرتو كلارو) بالحركة البطيئة المفرطة، مع استلهام الرومانتيكية الألمانية (لوحات كاسبار ديفيد فريدريش) في ما يتصل بالتخطيط البصري، وألوان لوحات عصر النهضة. وتشير ظلال الأشجار من جانب إلى اتجاه مختلف عن التي في الجانب الآخر. يقول لارس تريير: “كنت أرغب في الغوص، بلا تردّد أو توانٍ، في هاوية الرومانتيكية الألمانية”.
إننا نرى، في الافتتاحية، جوستين مرتدية ملابس الزفاف بينما من خلفها نلحظ وابلًا من الطيور الميتة تتساقط على مهل من السماء. ثم نرى الصور التالية: حديقةً خالية، حيث كل شيء يُلقي ظلّين وليس ظلاً واحدًا. إعادة إنتاج للوحة بروغيل “صيادون في الثلج”، ثم تبدأ في الاحتراق. حصانًا يكبو ويخرّ على الأرض. جوستين تسير بتثاقل وإجهاد عبر غابة مظلمة، والنباتات تعلق بثوب الزفاف وتعطّل حركتها. أختها كلير (شارلوت جينسبورغ)، الحاملة ابنها، تسير بحركة ثقيلة في ملعب الغولف المعشّب، وتدريجيًّا يغوصان في ما يشبه الرمال المتحركة. جوستين ترفع يديها ومن أطراف أصابعها تنبعث بروق. جوستين ترفع يديها وكأنها ترحّب بالكوكب، بقدوم الكارثة. جوستين بلباس الزفاف تطفو بلا حراك في بركة مغلّفة بالضباب، ممسكة بيدها باقةً من الزهور (في محاكاة للوحة أوفيليا التي رسمها جون إيفريت ميليس في سنة 1852).
مع هذه التكوينات، تتداخل لقطات للكوكب وهو يدنو ليصطدم في الأخير بالأرض مصدرًا صوتًا مدويًّا كالرعد، ومطلقًا وميضًا ساطعًا. الافتتاحية مصحوبة بثيمة الحب- الموت من موسيقى فاغنر “تريستان وإيزولد”، والتي تتكرّر طوال الفيلم. هل هي نبوءة؟ حلم؟ أمنية؟ في الواقع، إن هذه الافتتاحية تختزل حبكة الفيلم، كما سنرى. بالتالي يقصي تريير أي أثر للتشويق والإثارة عندما يكشف، من البداية ومباشرةً، حدوث الاصطدام وزوال العالم.
تختزل الافتتاحية حبكة الفيلم، مقصية أي أثر للتشويق والإثارة.
العرس الذي ليس عرسًا
بعد هذه المقدمة التي تتميّز تقنيًّا باستخدام الكاميرا الثابتة واللقطات العامة، تظهر أسماء العاملين، وينقسم الفيلم إلى فصلين، يحمل كل فصل اسم الشقيقتين.
الأول: جوستين. بعد أن كانت الكاميرا في لقطات الافتتاحية ثابتة وتحت السيطرة، نجدها هنا، خلال هذا الفصل، ذات حضور ملموس وصريح. إنها محمولة باليد، متحركة على الدوام، متوترة بعض الشيء، متقلقلة، غير ثابتة، غير مستقرة، وأغلب اللقطات قريبة. وهذا ينسجم مع حالات التوتر والانفعال التي تبدو جليّة بين الشخصيات.
نرى جوستين وعريسها المهذب، الخجول، المحب مايكل (ألكسندر سكارسغارد)، بثياب العرس الرسمية، داخل سيارتهما متجهين إلى قصر فخم حيث ينتظر المدعوون للاحتفال بهذه المناسبة السعيدة. إنهما يضلان الطريق قليلًا لكنهما يصلان متأخريْن إلى الموقع الذي يمتلكه رجل الأعمال الأميركي جون (كيفر سوذرلاند) زوج كلير. الحفلة مقامة بدعم مادي منه.
من بين الحضور، أم جوستين (شارلوت رامبلنغ) سريعة الانفعال، الشاعرة بالغيظ والمرارة، والتي تعبّر صراحةً عن موقفها الحاد والقاسي من مسألة الزواج بشكل عام، ومن طليقها، والد جوستين (جون هارت) الذي هو على النقيض منها يبدو مهذبًا ومرحًا ولطيفًا لكنه كثير النسيان، ربما بسبب إدمانه على الكحول. بالطبع هناك زوج الأخت الذي مرارًا يذكّر الجميع بما تحمّله من تكاليف لتنظيم الحفل واستضافة المدعوين. وأيضًا صاحب شركة خاصة في مجال الإعلان (ستيلان سكارسغارد) الذي يلحّ على جوستين، العاملة في شركته، حتى في ليلة زفافها، حتى وهي في هذا الوضع المتوتر، أن تبتكر شعارًا لحملة دعائية مربحة. ومن أجل إغرائها وتشجيعها يعلن للجميع ترقيتها في الشركة، كما يطلب من ابن أخيه، الشاب الغرّ، أن يلازمها كظلها فلربما يلتقط منها الفكرة المنشودة.
جوستين منذ البداية تفتقر إلى التوازن، تبدو غير واثقة من نفسها، تشعر بالوهن، ويستبد بها القلق والارتياب. إن تصرفاتها تصبح على نحو متزايد غير سويّة، غير لائقة، مؤذية، هستيرية تقريبًا، وتهدّد بتخريب العرس بأسره. إنها تتأرجح بين اللحظات التي تزيّف فيها مشاعرها لتبدو سعيدة ومرحة فترضي الجميع، واللحظات التي فيها تشعر بأنها غير قادرة على مجاراة الآخرين، فتنكفئ على ذاتها وتهرب باحثة عن مخبأ.
إنها تنسل مبتعدة عن الحفل، كلما سنحت لها الفرصة، فتختفي عن أنظارهم لنراها مرّة تتجوّل ليلًا في ملعب الغولف الخالي، ومرة تغطس في حوض الحمّام وهي بكامل ملابسها، بينما الآخرون ينتظرونها لكي تنضم إلى عريسها في قطع الكعك، ومرّة تأخذ غفوة مع ابن أختها. في فترة لاحقة، هي ترفض محاولة عريسها للتودّد إليها وتدفعه بازدراء، لكنها لا تحجم عن إغواء الشاب، ابن أخ رئيسها، وتغتصبه في ملعب الغولف.
كل المحيطين بها يتمنون لها السعادة ويتعاطفون معها. لكنها تقابل سخاء الآخرين ولطفهم بالتجاهل واللامبالاة والنفور. والمرء يتساءل: لماذا إذن اختارت أن تتزوج؟ ربما لأنها كانت تأمل في الزواج أن يجعلها مستقرة أو متوازنة. يقول المخرج لارس تريير: “الزواج كان محاولة جوستين الأخيرة لشقّ طريقها عائدة إلى الحياة بدلًا من التوق إلى الخروج منها. لهذا السبب اختارت الزواج. كأنها تقول لنفسها: ها أنا الآن أشقّ طريقي عبْر الطقوس، ومنها قد تنشأ حقيقة ما”. في كل الأحوال، تظل هي لغزًا للشخصيات الأخرى وللمتفرج على حد سواء.
العزل الأخير
شيئًا فشيئًا نكتشف أن جوستين ذات نفسية كئيبة، حزينة، أشبه بحطام بشري. إن سلوك جوستين المضطرب، المتمرد، اللاعقلاني، يزعج الجميع، ويثير استياءهم واستنكارهم، على الرغم من محاولة أختها وعريسها مساعدتها والتخفيف من حدّة الأزمة. إن قسوتها ناشئة من رغبتها في تدمير ذاتها. بالتالي هي تنفصل، تعزل نفسها، على نحو حاسم ونهائي، ليس عن الآخرين فحسب بل عن الحياة بأسرها.
الملاحظ أن أحدًا، في الفصل الأول، لا يتحدث على الإطلاق عن الكارثة الوشيكة. لكن جوستين تعلم أن الكوكب القادم نحوهم، والذي يبدو جليًّا للعيان، سوف يدمّر العالم. أختها كلير تعيش حياة بورجوازية مرفهة. هي متكيّفة مع واقعها وحياتها العائلية ووضعها الاجتماعي. لا طموح لديها. عالمها محدود لكنها راضية به. لا تحتاج إلى وظيفة. ترى أن مهمتها مقتصرة على الاهتمام بزوجها ورعاية ابنها ومحاولة تخليص أختها من حالة الكآبة.
العالم الآخر الهش
الفصل الثاني الذي يحمل اسم كلير، والذي تدور أحداثه بعد أسابيع قليلة من حفل الزفاف الفاشل، يتمحور حول أربع شخصيات فقط: جوستين التي تمكث في قصر أختها، وكلير، وزوجها، وابنهما ليو. هذا الفصل يتميز بجمالياته البصرية الباهرة والأخاذة.
جوستين تزداد كآبة وسقمًا. تقضي أغلب أوقاتها نائمة، فاقدة للطاقة والشهيّة. ذات ليلة تراها أختها راقدة عارية على ضفة النهر، مسترخية في هدوء ورباطة جأش، متلألئة تحت وهج الكوكب.
كلير، بعد أن كانت واثقة من نفسها ومتّزنة وقوية ومتحكمة في محيطها، تعيش الآن حالة من الذعر والتوتر والخوف واليأس، فيما تراقب الكوكب ملنخوليا، الذي يتوهج بلون أزرق فاتح نهارًا ويميل إلى البياض ليلًا أشبه بالقمر، وهو متوجّه نحو الأرض، فتهجس بأن عالمها، أو بالأحرى العالم بأسره، مهدّد بالفناء. إنها تخشى فقدان ما تملكه: الزواج السعيد، الطفل المثالي، البيت الفخم، حياة الترف والرفاهية. والعالم الذي كانت تظن، أو تتوهّم، أنه حافل بالمعنى يبدو لها الآن بلا معنى، يبدو هشًّا، وغير قادر على حمايتها. لذلك تشعر بالحنق والسخط من إمكانية حدوث الكارثة.
زوجها العقلاني، الذي يؤمن بالعلم والعلماء، الذي يزعم معرفة كل شيء، المفتون بالظاهرة الجديدة، بتعقّب حركة الكوكب، يؤكد لها أن تصادم الكوكب بالأرض غير وارد، وبعيد الاحتمال، ولن يحدث مطلقًا. غير أن ذلك لا يطمئن زوجته كلير، التي لا تستطيع أن تتجاهل الكارثة الوشيكة، أو تستخف برد فعل الخيول التي تبدو مذعورة وتتوقف على نحو متكرر عند موضع معيّن، أثناء ركوبها، رافضةً أن تتزحزح من مكانها، رغم أنها طيّعة عادةً وسهلة الانقياد.
أما زوجها، عندما يرصد ثانيةً مسار الكوكب ويتيّقن من أن الكارثة سوف تقع لا محالة، ويتعذّر اجتنابها، فإنه يزداد اضطرابًا وتشوّشًا، ثم يختفي. هنا تدرك كلير أن الكوكب متوجّه الآن مباشرةً نحو الأرض، وتكتشف انتحار زوجها (الذي لا نراه، بل يحدث خارج الشاشة). إن كلير تعرف كيف تتصرف في العالم الواقعي، لكنها تشعر بالضياع فيما تضع قدمها على عتبة عالم غير حقيقي. إن يأسها ناشئ من تعلّقها بالوهْم. بعكس أختها جوستين التي تتخلى عن الوهْم تمامًا.
نعمة الفناء
بينما تزداد كلير قلقًا وهلعًا وهي تهجس بالنهاية المرعبة، نجد أن جوستين، بعد أن كانت هشّة ومنهارة في الفصل الأول، تبدو الآن هادئة، رائقة، متوازنة، منسجمة مع ذاتها، متقبّلة للمصير المحتوم. لقد تخلصت من الوهم: فكرة أنها قادرة على التحكم في مسار حياتها. إن اقتراب الكوكب من الأرض يضعف معنويات كلير، لكنه في المقابل ينشّط جوستين ويزوّدها بالطاقة. فالعالم لم يعد يعني لها شيئًا، لقد عزلت نفسها عنه، وابتعدت، وانفصلت عن كل قيمه ومعاييره، بالتالي لن تقلق بشأنه ولن تكترث بما سوف يحدث له. الكارثة تضفي شرعيةً وتوكيدًا على ما كانت تشعر به وتعرفه عن هشاشة الوجود.
من الجليّ أن جوستين تعاني من اضطراب عصبي، اختلال نفسي معقّد. حياتها، بالنسبة لها، انتهت، أما نهاية العالم فمسألة شكلية. لذلك يمكن قراءة الفيلم كحلم يقظة لجوستين ترى فيه نهاية عالمها.
مع ذلك، فهي تتخلى عن موقفها العدمي عندما تلتقي بابن أختها الذي يعبّر لها عن خوفه. هنا تستيقظ بداخلها عاطفة تتعارض مع كل ما عبّرت عنه من قبل من مشاعر كراهية للحياة. إنها عاطفة الحب والحنان. وهي تحاول طمأنته وتبديد مخاوفه، وتؤكد له أن بمقدورهم النجاة لو تعاونوا في إيجاد مخبأ لهم. هكذا يقومون ببناء مأوى هش من الأغصان أشبه بخيمة. هنا تحاول جوستين أن تفعل شيئًا له معنى ما. أخيرًا، هي تلجأ إلى الوهْم في مواجهة الحقيقة: أي النهاية المحتومة.
الثلاثة يجلسون في دائرة وينتظرون النهاية. من ورائهم نرى الكوكب الأزرق يظهر للعيان ويدنو فيما يكبر ويكبر. بعد ذلك نسمع صوت انفجار تصاحبه مقطوعة فاغنر. في هذه اللحظات الأخيرة، تفقد كلير السيطرة تمامًا. تبكي بحرقة. ابنها يغمض عينيه محافظًا على هدوئه فيما يمسك بيد جوستين الجالسة في إذعان، محتفظة برباطة جأشها. بعدئذ، تنقطع الموسيقى، يحدث الاصطدام المروّع، الانفجار الهائل. صوت الانفجار يصبح مدوّيًا، وكل كائن وكل شيء يزول في ومضةٍ. الشاشة تصير سوداء. يحدث إظلام تام، صمت مطبق.