• English
  • 20 يناير، 2025
  • 5:49 ص

قراءة في أفلام المخرج الهنغاري بيلا طار الأخيرة: الشيطان يرقص التانجو

قراءة في أفلام المخرج الهنغاري بيلا طار الأخيرة: الشيطان يرقص التانجو

عزّ الدين الوافي

12 August، 2024

عزّ الدين الوافي

يُحيل عنوان المقالة على أحد أفلام المخرج، والذي سيكون ضمن قائمة تضم فيلمين آخرين، سوف يُشكِّلان محطة للوقوف عندهما، ويتعلَّق الأمر بكلٍّ من فيلم “حصان طورين”، و”الشيطان يرقص التانجو”، و”هرمونيات وريكمنستر”، وهي بالمناسبة كلها أعمال روائية لنفس الكاتب الهنغاري لازلو كراسزناهوركاي، وقد تم اختيار هذا العنوان لما له من دلالة رمزية في البناء الفلسفي والقيمي للمخرج، والذي عادة ما يعتمد على اقتباس روايات حبلى بنفس الانشغالات السوسيولوجية والسياسية، لمرحلة ما بعد سقوط النظام الشيوعي في أوروبا الشرقية، تلك التي تركت لا محالة أثرًا دفينًا، ليس في نظرته لواقع بلاده فحسب، ولكن أيضًا في محاولته الثاقبة لتطويع اللغة السينمائية، وجعلها قادرة على تمثل حالة الوجع والتذمر التي يعيشها جراء انهيار كل شيء من حوله.

عادة ما يعتمد المخرج الهنغاري “بيلا طار” على اقتباس روايات حبلى بنفس الانشغالات السوسيولوجية والسياسية لمرحلة ما بعد سقوط النظام الشيوعي في أوروبا الشرقية.

تعريف أولي

 بيلا طار مخرج سينمائي من هنغاريا ولد سنة 1955، ولم يكن في منجزه أكثر من خمسة أفلام، هي: “العش العائلي” 1979، “الغريب” 1981، “علاقات مفبركة” 1982، “يوميات الخريف” 1985، “لعنة” 1988. وهو الفيلم الأكثر سوداوية في تاريخ الفن السابع، بعدئذ جاءت أفلامه اللاحقة كـــ “هارمونيات ويركميستر” 2000، “رجل لندن” 2007، ثم فيلم “حصان طورين” سنة 2011.

أنجز بيلا طار ما مجموعه تسعة أو عشرة أفلام بين سنتي 1979 و 2012. وهو ذو حسٍّ وجودي رهيف وإحساس بالمعدومين، بل بحالة اليأس والعمى التي تعيشها حضارة اليوم بعد هجوم القيم الرأسمالية على الشعوب والدول، خصوصًا بعد استئساد الزعماء الشعبويين، ووصولهم إلى سدة الحكم واقترافهم العديد من المآسي والسلوكات العدوانية في حقِّ الطبقات الفقيرة، وخصوصًا المهاجرين على سبيل الحصر. ويجد المخرج عزاءه في السينيفيليين والمثقفين الذي يقدرون أعماله، ويدافعون عنها بكل حبٍّ وشغف، كما أن أفلامه مثيرة للجدل، وعادة ما لا تترك المشاهدين في حياد تامٍّ، فيما يجدها البعض غامضة وطويلة بل مملة.

لا ينجز بيلا طار أفلامه من فراغ بل استنادًا إلى تجاربه الشخصية وتجارب الآخرين، من خلال معايشة اليومي الذي تغرق فيه شخصياته، هو بذلك يتميز بحدس نقديٍّ وفني عميقين، مكَّناه من ترجمة هشاشة الوضع الإنساني عبر قصص يبنيها على مهل، ومن خلال أحداث تبدو للعيان كأنها أحداث جد عادية لدرجة مملة، لكنه بمجرد ما يتم دمجها في محوري الزمان والمكان حتى تتحول إلى شكل من أشكال الأساطير اليومية لأناس عاديين يكابدون طول الوقت، لما وجدوا أنفسهم فيه من وضع يصعب تجاوزه، ومن حالة وجدانية تلح باستمرار على واقعهم ومشاعرهم، وفي ذلك إحالة على شخصيات كافكا أو كونديرا وعالمهما السفلي.

يتميز بيلا طار بحدس نقدي وفني عميقين، مكَّناه من ترجمة هشاشة الوضع الإنساني عبر قصص يبنيها على مهل، ومن خلال أحداث تبدو للعيان كأنها جد عادية لدرجة مملة.

الرهان الشعري والجمالي

يتم الرهان على دلالات الرؤى المنبعثة من تشكيل اللقطات، وكيفية تحريك الكاميرا وهي تحاول إبراز حجم المعاناة البشرية، من خلال الوضعيات المتكررة للأب، وهو بالكاد يقبض على نفس صحن البطاطس الساخنة كل يوم، ويعمل المخرج على تقديم ذلك في قالب جمالي، مازجًا بين اللونين الأبيض والأسود الذين يعتمدهما في أفلامه، وكأنه بذلك يقول لنا لا تنتظروا مني أن أنقل الواقع، بل أنا بصدد خلق جمالية فنية موازية له لا غير.

يختزل الفيلم ويختزن بشكل شاعري الوجود برمته في تفاصيل حيوات عادية، يدفع فيها المشاهد دفعًا، من خلال إطارات الكاميرا التأملية نحو سخونة الحياة المعروضة، عبر إطار النافذة الذي يبقى الرابط الواقعي الوحيد مع العالم الخارجي، مقابل شَلل الداخل، فالظلام الدامس والإيقاع الرتيب للحياة يخلقان جوًّا من التقشف الصوفي في كل شيء تقريبًا، في الديكور، في الكلام، وفي الأحداث. وحدها نار التدفئة ومصباح الحائط الحجري هما الدليلان الوحيدان على نبض الحياة، مع بروز صوت الراوي الذي يخرج بنا من بوتقة المتخيل إلى تعليق على ما يحدث، أو إرشادًا نحو علامات أخرى في قيامة المعنى.

يتم استشعار تلك المعاناة كإحالة مجازية لنوع من الجحيم، ذلك الذي يعمق من مدلوله رمزية المطر والوحل وغياب الضوء. ويمكن القول إن الرجل في جُل أفلامه المذكورة يتحكم بشكل دقيق في كيفيات تشكل الصور وبنائها، جاعلًا من مهامها الأساسية نقل الأحاسيس الإنسانية لواقع الشخصيات، بشكل يتجاوز حدود المعقول، ليعانق ما هو سوريالي، وبدون أي معنى. غير أن ذلك كله لا ينفي عن المخرج التزامه، بل وعيه السياسي الحاد، بطريقة انتقاده للوضع الراهن في أوروبا الشرقية، وما حصل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وتبعات ذلك من خراب وفوضى.

“الشيطان يرقص التانجو”

كتب الروائي لازلو كرازناهوركاي رواية “الشيطان يرقص التانجو”، وترجمت للفرنسية عن منشورات غاليمار سنة 1985، غير أن بلا طار لم يحولها إلى عمل سينمائي إلا سنة 1994، ويتشكَّل الفيلم من 150 لقطة متوالية، موزعة على 12 فقرة، تمتد في أصل الفيلم الذي يتجاوز سبع ساعات، حيث ينتهي كل فصل بتعليق للراوي عن الأحداث.

يمزج الفيلم بين التيه وما هو غرائبي وتراجيدي، حيث يوجه المخرج نقدًا لاذعًا للنظام الشيوعي الذي خرب بلاده. تدور أحداث الفيلم في يوم ممطر من أيام أكتوبر، متمحورة حول سيناريو الفيلم الذي يصاحبنا، مع اجتماع اثنى عشر نفرًا من الرجال والنساء السكارى، على تلٍّ مهجور عرضة للريح والخراب، وهم غرقى في الكحول، بينما يرقد جثمان طفلة ميتة في البيت.

يروي الفيلم أحداث مجموعة من الأشخاص، منهم العامل والطبيب، والمعلم والمزارع بعدما تم بيع مزرعتهم الجماعية، وهم في حالة من الانتظار البائس، ملتفين حول سيدة مهملة من طرف النظام الشيوعي البائد. يفرض المخرج أسلوبه في تصوير المشاهد بلقطات ترافلينغ، وهي تتابع شخصيات متهالكة تؤثث عمق الإطار، وكأنها أشباح تعيش حلم الامتداد في الزمن.

شخصيات الفيلم متواطئة على بعضها البعض في جوٍّ من التوجس والشك من كل شيء، حيث البعض ينام مع نساء الغير، ويتم نقل ذلك من خلال أشد المشاهد شاعرية في تاريخ السينما، حينما يرقص العمال على رقصة التانجو، حيت يعطي المخرج لنفسه الوقت الكافي لنهح أسلوب السينما المتأملة، مصورًا تساقط زخات المطر على زجاج النافذة، أو خروج قطيع البقر من الإسطبل. مشاهد تستغرق أكثر من خمس دقائق. وقد اعتبر في رأي العديد من متتبعي تاريخ السينما كأيقونة سينمائية بكل المعايير.

لقد تم عقد صفقة بيع قطيع بقر المجموعة، والكل ينتظر ويحلم بحقه في وصول المال لتغيير الوضع أو بالهروب نحو جهة أفضل. لم تقرع أجراس الكنيسة كالعادة، لكنه سمع مؤخرا قرعها، وهو الصوت الذي سيتلازم على طول فقرات الفيلم، وحتى شخصية إيريمياس التي أعتقد أنها فارقت الحياة، واختفت بعد موت الطفلة تعود للظهور مجددًا، مرفوقة بصديقه بيترينيا، ومعهما بوادر بروز النظام الرأسمالي.

يتساءل الكل هل إيريمياس فعلًا منقذ كالمسيح، ويأتي حاملًا رسالة وبشائر للناس، أم هو مجرد دجال ينمق الكلام ليستولي بالنصب على أموال الغير، ويؤدي وظيفته كمخبر للبوليس، موهمًا السكان أن يسلموه حقوقهم كي يستثمرها مجددًا، ويحقق لهم الأرباح، بل مستغلًّا موت الطفلة التي ظلت تحمل حلمًا بين أضلعها، بعدما تخلى عنها الكل لتلقى حتفها المشؤوم.

شخصية إريمياس غامضة، ويعززها رفيقها بيترينا، وهو شبيه بسانشو مع دون كيشوت، وهما يبيعان الوهم للغير، بعدما فشلت كل المحاولات الثورية والحضارية في إضفاء المعنى على أفعالهم. فكل من إيريمياس ورفيقه يستعمل لغة لا مرجعية لها في الواقع، وهي شبيهة إلى حدٍّ كبير بلغة الشرطة والأمن في بعدها الأجوف والنكوصي، وكلاهما وجهان لحالة الاختناق الحضاري الذي نعيشه.

كل الشخصيات في الفيلم باتت عرضة للاستغلال والإهمال، بل إن وضعها يدعو للشفقة والضحك. الكل به نوع من الميول نحو العنف حتى الطفلة الصغيرة “إيسيكي” ذات العشر سنوات، لا تكف عن تعذيب القط، بل تنتهي بتسميمه بسم الفئران بشكل عدواني ومجاني، حيث سيؤول بها المطاف ميتة بعد أن انتقمت منها الطبيعة ومرضت بالسل.

يمزج فيلم “الشيطان يرقص التانجو” بين التيه وما هو غرائبي وتراجيدي، حيث يوجه المخرج نقدًا لاذعًا للنظام الشيوعي الذي خرب بلاده.

بدون بدائل

لا يعمل المخرج على تقديم أي بديل للوضع المأساوي، بل يسعى إلى تقديم جملة من وجهات النظر، وذلك عبر سلسلة من المشاهد الطويلة التي تبرز دافع كل شخصية على حدة، معيدًا الحكاية إلى بدايتها، ومقلبًا أوجهها المتعددة. بل يذهب أحيانًا إلى تصوير نفس المشهد في موضع آخر من الفيلم، ولكن من زاوية مغايرة. إن فيلم الشيطان يرقص التانجو يعرض أمامنا الأشياء وهي تتشكل في بوتقة اليومي بهوس فينومينولوجي يحفر في الزمن. كما أن المخرج لا يبدي أي تعاطف مع شخصياته الذميمة.

يلاحظ كيف يجعل المخرج من شخصياته ممثلين وممثلات منهمكين في حركات كوريغرافية، تلتقط الكاميرا تموجاتها وهي تندمج بمحيطها الفقير، من دون توليف يجزئ اللقطات، معتمدًا على دمغها ببعضها البعض، دون الخضوع لمنطق البداية والنهاية، حيث يتحرر الزمن من خطيته، متراميًا في تطريز حيوات الشخصيات، وتفاصيل عيشها النكد.

أجواء أفلام بيلا طار عادةً كئيبة وينقصها النور، وقد يزيد الوحل والمطر من تراجيدية الشخصيات الغارقة في بؤسها، وفي ضبابية الرؤية لديها. إنها منتظرة فرجًا يأبى أن يلوح. هي سيزيفية بامتياز، حيث ضلت بشرطها الوجودي الهش عن طريقها نحو الخلاص، فلا هي قادرة على التقدم وأخذ مبادرة تغيير وضعها، ولا هي تمتلك شجاعة الفعل لتجاوز محنتها.

خلف هذا الجو القيامي والمفعم بما هو غنوصي وغامض، يحضر عنصر الشر في أبشع تجلياته، وهو يصاحب الشخصيات في ليلها الثقيل، حيث لا أثر لأنوار إلهية قادرة أن تنقذ البشر، وفي ذلك إشارة لإلحاد المخرج بكل فكرة للخلاص، معتمدًا على جمالية البحث في تفاصيل العدم، بين قرع الأجراس كعلامة على السلم، وبين السقوط في مخالب الغزو العثماني.

يصر الفيلم أن يسلمنا لمشاهد غاية في الظلامية، الملازمة لصمت الكوابيس والموتى الذين يجب أن نتذكرهم كل وقت وحين، ونبني معهم حوار الحياة والموت، وهي الأفكار والخرافات التي تتشبث بها شخصيات الفيلم بشكل مهووس وغبي، حيث ينتظر الكل عودة أشباح موتاهم وهم في حالة من التذمر، ولعل السبب في ذلك، حسبما يلمِّح الفيلم، يعود للنظام الشيوعي الذي فرض على الناس نمطًا معينًا في التفكير، وأفرغهم من كل إيمان روحي، بل حولهم إلى أجساد محنطة ليس إلا. وبذلك يحق للمخرج بيلا طار- ومن خلال عمله السينمائي الباذخ- أن يدخل تاريخ السينما من بابه الواسع.

يصر الفيلم أن يسلمنا لمشاهد غاية في الظلامية الملازمة لصمت الكوابيس والموتى الذين يجب أن نتذكرهم، ونبني معهم حوار الحياة والموت، وهي الأفكار التي تتشبث بها الشخصيات بشكل مهووس وغبي.

“هارمونيات ويركميستر”

الفيلم من نوع الأفلام الروائية الدرامية بالأبيض والأسود، مدته تتجاوز الساعتين، وهو من إنتاج مشترك بين كل من هنغاريا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا. ينبني الفيلم على نظرية عالم موسيقى، يرى أن مشكلات العالم يجب أن تحلها بعض المواضيع المتعلقة بالإيقاع والتناسبية في الموسيقى. يعتبر “هارمونيات ويركميستر” تاسع فيلم للمخرج بيلا طار، والذي أنتج سنة 2011، وهو مقتبس عن رواية “حزن المقاومة” للروائي لازلو كرازناهوركاي الذي كتبها عام 1989، وهو عبارة عن مرويات مشهدية في ستة وثلاثين مشهدًا عن حالات اليأس، وفقدان هوية مدينة هنغارية صغيرة، حلَّ بها سيرك متنقل يحمل سمك الحوت في شاحنة كبيرة. يحاول الشاب يانوس ضبط الأمور في مدينة فقدت فيها موازين الأمور، مما يجعله يفقد الثقة أصلًا في نفسه، بل حتى في إيمانه بخالق الكون.

“هارمونيات ويركميستر” ثلاثين مشهدًا عن حالات اليأس، وفقدان هوية مدينة هنغارية صغيرة، حلَّ بها سيرك متنقل يحمل سمك الحوت في شاحنة كبيرة.

“حصان تورين”

تعود قصة فيلم حصان تورين لفترة من نهاية مسار الفيلسوف “فريديريش نيتشه”، حيث كان يتجول بساحة ألبيرطو بمدينة تورين يوم الثالث من شهر يناير سنة 1889، فلفت انتباهه رجل يضرب بشدة حصانه، الشيء الذي جعل نيتشه يفقد صوابه، ويضم عنق الحصان لصدره باكيًا بكاء الأطفال، ثم اعتكف في بيته، وتوقف عن الكتابة ليغرق في الحمق والعذاب.

وتشكل هاته الحادثة مقدمة الفيلم الذي يروي عن مذكرات أب وابنته وحصانهما في قرية مهجورة، بعد سنوات من حرب تُنذر بجو يشبه نهاية العالم.

يدور “حصان تورين” عن فترة في نهاية مسار “فريديريك نيتشه”، حين رأي رجلًا يضرب حصانه بشدة، مما جعله بكي، وتوقف عن الكتابة، وغرق في الحمق والعذاب.

قيامة المعنى

يمكن القول إن فيلم حصان تورين إنما هو سلسلة من الرؤى والصور الفوتوغرافية الموزعة على أيام تمضي أمامنا، ويصاحبها راوٍ يعلق على الأحداث ويربط فيما بينها، والتي يجمع تمفصلاتها العامل الزمني، باعتباره الهاجس الجمالي الذي يشتغل عليه المخرج بإلحاح واستمرار، مقتنعًا أن السينما هي الفن الأجدر على القبض والتلاعب بالزمن، وهو بذلك يتقاطع مع المخرج الروسي أندري طاركوفسكي، حيث يتم توظيف اللقطات طويلة النفس ذات الزوايا التي تفرض نفسها على العين، تاركةً للمشاهد مساحة التنفس والإدراك، دونما أي استعجال من أمرها.

ففي فيلم حصان تورين دائمًا تتناوب الكاميرا على تصوير الأب والابنة، محاولة التسلل لعلاقتهما الملتبسة والمرتبكة وغير الثابتة، تارة باقترابهما من بعضهما البعض وتارة بالنفور، الشيء الذي يحصل عبر سلسلة من اللقطات والوضعيات التي تتجاوز في كثير من الأحيان هاجس الرابط بينها؛ من أجل الحفاظ على تدفق الزمن.

إن تقديم المشاهد في سينما بيلا طار يتم بشكل جنائزي ولولبي، حيث تتحرك الشخصيات في أمكنة عادة ما تكون مقفرة وفي مهب ريح، يمسي فحيحها لازمة في خلفية الإطار الصوتي للفيلم برمَّته؛ إذ تتحول إلى رابط موضوعاتي وجمالي للفيلم.

تتسم أجواء الفيلم بنوع من الغرائبية الثقيلة على النفس، تنقلها نفسية الشخصيات التي تغرق في اكتئاب دفين يضفي على طقوس يومياتها من شحن للعربة، وجر الحصان، وإعداد الوجبات، لتصبح بمثابة شعائر وجودية ذات معنى مفقود؛ لكونها مكررة ومملة لدرجة لا تطاق.

تقوم المشاهد التي تجمع ابنة الأب في الفيلم، بما تقوم به كل يوم من تغيير ملابس أبيها وإعداد وجبة البطاطس المسلوقة، دون أن تنبس بكلمة، حيث يظلان مكتفيين بالنظر إلى بعضهما في تواطئ وصمت رهيبين، مصحوبين بموسيقى روحية من دون تقطيع يذكر للمشاهد، ولا يتبادلان أطراف الحديث إلا لمامًا، أو لأمر مستعجل يفرضه الحوار.

خاصيات أسلوبية

يلتزم المخرج بأسلوبه المعروف في طريقة إخراجه لروائعه السينمائية، وذلك من خلال مجموعة من الخاصيات الأسلوبية التي يمكن إجمالها ما فيما يلي:

– توظيف اللقطات الطويلة والبطيئة، مع غياب اللجوء للتقنيات المتطورة في تحريك الكاميرا.

– استخدام لقطات منسابة ومتشابهة فيما بينها، متنقلة من محور للكاميرا إلى آخر دون توقف، تاركًا بالكاد مسافة زمنية ومكانية بينهما.

– اللعب على تقنية المنظور، والمحصلة غالبًا لنوع من الملل، حيث يجد المشاهد نفسه مدفوعًا للتورط في هاته اللعبة البصرية بامتياز.

وبذلك ينتمي هذا الاختيار الجمالي والأسلوبي في التصوير لتيار أندري بازان، ذلك الذي نادى بعدم قطع المشهد، أو باللجوء إلى الحذف، وهو ما يمكن أن يجعل من أسلوب بلا طار في التصوير بدائيًّا في تصوير مشاهد الحياة عارية، بهية، وبئيسة. وهي تتدفق أمام أعيننا دون اكتراث يذكر لتفضيل دواع فن التقطيع ومستلزماته.

يحاول المخرج أن ينتقم نوعًا ما للمحذوف، ولما يظل مكبوتًا في الكواليس، وما يعمل جُل المخرجين على إخفائه أو القفز عليه. فهاجسه بالأساس ليس فقط تصوير اللقطات، ولكن تصوير ما يقع بين الواحدة والأخرى من انتظار وشوق لمعرفة الخفي، أي بمعنى آخر تصوير حركات الأجساد وهويتها وطرق مشيها وهي تخطو نحو الآخرين، وخصوصًا أنه قد يكون بعضها منتشيًا بالسكر، ولا يدرك أين تقوده خطواته اللامتناهية، كما يصور وجوها خالية من أية تعبير يذكر، فلا هي قادرة على الضحك ولا على البكاء، غارقة خلف أقنعة دائمة. وبناءً على ذلك يمكن القول إن المخرج يبرع في تحويل القبح إلى سيمفونية كئيبة، غير أنها رائعة وآسرة للمشاهدة.

فاصل اعلاني