كلب أندلسي ضد البرجوازية
نرمين يُسر
12 August، 2024
نرمين يُسر
في كتابه “النحت في الزمن” يقول أندري تاركوفيسكي عن لويس بونويل، وهو أحد مخرجيه المفضلين، إنه عندما تم عرض فيلم “كلب أندلسي” لأول مرة، كان بونويل مضطرًا للاختباء عن عيون البرجوازيين والمحافظين، ويضع مسدسًا في جيبه الخلفي كلما غادر المنزل. كما ذكر بونويل أنه يحمل في جيوبه بعض الحجارة ليقذف بها الجمهور، إذا فشل الفيلم وتهجم عليه الناس. كما يقول تاركوفيسكي في كتابه “والذي اعتاد لتوه على السينما بوصفها ترفيهًا وتسلية وهبتها له الحضارة؛ ارتعد في رعب عند رؤيته الصور والرموز التي تلفح الروح، والتي يصعب حقًا تحملها أو إدراك معناها”.
ثم تلاه بفيلم شديد الأهمية، يهاجم فيه بسخرية سوداء الطبقة البرجوازية وممارساتها، بعنوان “العصر الذهبي” عام 1930، الفيلم الذى يحمل قصة رجل وامرأة في علاقة حب مرفوضة من العائلة والكنيسة والطبقة البرجوازية، تظهر في الفيلم شخصية دوق بنلاجيس، وهو أحد شخصيات ماركيز دو صاد في روايته “120 يوم في سادوم” 1758، الرواية الأكثر إثارة للرعب والنفور، حيث يقوم أربعة أشخاص بحبس 42 شخصًا آخر في قلعة بعيدة؛ ليمارسوا عليهم أنواعًا من التعذيب. فكان دوق بنلاجيس أحد هذه الشخصيات السادية.
عندما عرض فيلم “كلب أندلسي” لأول مرة، كان بونويل مضطرًا للاختباء عن عيون البرجوازيين والمحافظين، وحمل في جيوبه بعض الحجارة ليقذف بها الجمهور إذا تهجم عليه الناس.
عمل وثائقي
يقول بونويل عن فيلمه “هو عمل وثائقي صِرف .. بسيط وموضوعي.. موضوعي جدًّا.. لم أخترع شيئًا.. بيير يونيك كتب نصًّا علميًا إحصائيًا، ونحن كنا نرغب فحسب في تصوير أحد أكثر الأقاليم فقرًا في إسبانيا”.
مكث بونويل أربعه أشهر في هذا الأقليم ليصور مظاهر الجوع والفقر والمرض المنتشرين في هذا الأقليم، لأنه أراد أن يقدم نقدًا للدولة التي لا تهتم بمواطنيها، ونقدًا آخر للكنيسة التي لا تتوقف عن حشو الأذان بالخرافات، متناسية احتياجات السكان البشرية، ويعد الموت البطل الرئيسي في الفيلم الذى لا يتجاوز الــ 27 دقيقة، ففي نهاية الفيلم تقول المرأة العجوز “من أجل أن تبقى يقظًا، ليس هناك أفضل من التفكير باستمرار في الموت”.
قال لويس بونويل إنه إذا قيل له إن لديه 20 عامًا ليعيشها، وسُئل كيف يريد أن يعيشها؛ فسيكون رده “أعطني ساعتين يوميًا من النشاط، وسآخذ الـ 22 الأخرى في الأحلام، بشرط أن أتذكرها”. كانت الأحلام غذاء لأفلامه، فمنذ أيامه الأولى كسريالي في باريس إلى انتصاراته في أواخر السبعينيات من عمره، كان منطق الحلم دائمًا من المرجح أن يقاطع واقعية أفلامه. أعطتهم هذه الحرية صفة مميزة للغاية، مثل تلك الخاصة بألفريد هيتشكوك وفيديريكو فيليني، حيث يمكن التعرُّف على أفلامهم في أول مشاهدها.
يقول بونويل عن “كلب أندلسي” أنه عمل وثائقي بسيط وموضوعي.. ورغبنا من خلاله في تصوير أحد أكثر الأقاليم فقرًا في إسبانيا”.
ميزانية ضئيلة
يعتبر فيلم “كلب أندلسي” من أوائل الأفلام المصنوعة بميزانية ضئيلة دون تمويل من الأستوديوهات أو شركات الإنتاج، ويرجع ذلك لمثابرة بونويل ودأبه على العمل في مجال السينما، وهو إسباني تم استدراجه إلى باريس بأحلام غامضة في العمل بالسينما، خاصة في الأستوديوهات الباريسية، لكنه واجه المشاكل والتوقُّف عن العمل بسبب إهانته للمخرج الكبير أبيل جانيس، فسافر لقضاء عدة أيام بمنزل دالي، حيث استمرَّا يتبادلان حكاية الأحلام، فحلم بأن سحابة القمر شقت إلى نصفين مثل شفرة الحلاقة التي تقطع العين، ليرد عليه دالي بشأن أحلامه الشخصية عن يد تزحف بالنمل. ويقرر بونويل صنع الأحلام فيلمًا يكتبان معا السيناريو الخاص به. كانت طريقتهما هي إلقاء الصور أو الأحداث الصادمة على بعضهما، وعلى كليهما الموافقة قبل تضمين أي لقطة في الفيلم، ولن يتم قبول صورة أو حدث له شكل عقلاني، بل يحتفظان بالصور الفجائية التي تأتي بدون تحضير أو تخطيط، حيث أعقبت صور القمر رجلٌ بشفرة حلاقة يقطع عيني امرأة، واليد التي تحمل النمل يعقبها صورة لرجل مخنَّث على دراجة، وإبط مُشعِّر، ويد مقطوعة على الرصيف، وامرأة تحمي وجهها بمضرب تنس وتمثاليين حيين على ما يبدو في الرمال.
وصفا اللقطات في الفيلم في محاولة لربطها، ومع ذلك قد طبق عددًا لا يحصى من المحللين صيغًا فرويدية وماركسية ويونجية على الفيلم، وقد سخر بونويل منهم جميعًا، فإن النظر إلى الفيلم يعني معرفة مدى العمق الذي علمتنا به الأفلام الأخرى كيفية العثور على المعنى، حتى عندما لا يكون موجودًا.
في أثناء مشاهدة الفيلم سيكون من الجيد أن ننظر إلى أنفسنا بنفس القدر من الاهتمام بمشاهدته، فعندما نشاهد الفيلم نفترض أنها قصة الأشخاص، هؤلاء الرجال وهؤلاء النساء وهذه الأحداث، لكن ماذا لو لم يكن الناس أبطالًا بل مجرد نماذج، مجرد ممثلين تم تعيينهم لتمثيل الأشخاص الذين يقومون بأفعال لها علاقة باللقطات التي تحاول تفسيرها.
أنتج لويس بونويل (1900-1983) فيلمًا سرياليًّا آخر بعنوان “العصر الذهبي” اتهم بتدنيس المقدسات، وتم قمعه لسنوات عديدة، ولأنه كان يعمل في شركة MGM مسؤولًا عن الأفلام الصادرة باللغة الإسبانية؛ فقد أخرج العديد من الأفلام في المكسيك، بعضها يحظى بتقدير كبير مثل “الشباب والملعونين” و”الحياة الإجرامية لأرشيبالدو دي لا كروز”.
“كلب أندلسي” رفع الستار بطريقة ما عن مهاجمة العادات القديمة، وتضمَّن روح الدعابة الساخرة، فقد انتصر السرياليون في ثورتهم، وأثبتوا أن الفن والحياة لا يحتاجان إلى اتباع القيود الضيقة التي فرضت منذ زمن سحيق، وأننا نشاهد أفلامًا حية غير محنطة بالأعراف.
يعتبر فيلم “كلب أندلسي” من أوائل الأفلام المصنوعة بميزانية ضئيلة، دون تمويل من الأستوديوهات أو شركات الإنتاج، وذلك لمثابرة بونويل ودأبه على العمل في مجال السينما.
“في كلب أندلسي” انتصر السرياليون في ثورتهم، وأثبتوا أن الفن والحياة لا يحتاجان إلى اتباع القيود التي فرضت منذ زمن سحيق.