• English
  • 14 يناير، 2025
  • 5:37 ص

مانو خليل: أتسلَّح بالفن في مواجهة الدكتاتورية

مانو خليل: أتسلَّح بالفن في مواجهة الدكتاتورية

حاوره في أربيل: سعيد محمود

4 December، 2023

حاوره في أربيل: سعيد محمود

من القامشلي إلى دمشق لدراسة القانون، ثم إلى تشيكوسلوفوكيا لدراسة الإخراج السينمائي، والاستقرار في سويسرا كمنتج ومخرج وسيناريست. رحلة مكثفة وغنية بالتجارب والثقافات، التي جعلت مانو خليل حاضرًا اليوم في أهم محافل السجادة الحمراء في كوكب الأرض. فيلمه الأخير “جيران” حصد حتى الآن 63 جائزة من مهرجانات سينمائية عريقة في اليابان وأوروبا وأمريكا والشرق الأوسط، كما فاز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي. أثناء تواجده في أربيل لحضور عرض خاص، لفيلمه “جيران”، نظمه المعهد الثقافي الألماني، وللتحضير لتصوير فيلمه الجديد، كان لنا اللقاء التالي مع المخرج السوري الكردي العالمي مانو خليل.

ها قد أتيت

آخر جملة في فيلم “جيران” توجهها حنا إلى شيرو “ها قد أتيت”، في هذا المشهد نشعر أن جملة حنا هي رسالة أمل يوجهها مانو خليل إلى كل لاجئ ينتظر. كيف كان شعورك وأنت تصور فيلمك مع سوريين لاجئين عربًا وكردًا. حدثنا عن هذه التجربة؟

كنت أتمنى أن أقوم بتصوير فيلم “جيران” في القامشلي، كرغبة مني في تصوير فيلم بإنتاج عالمي ضخم في بلدي، لكن الظروف حالت دون ذلك. الفيلم يعود بأحداثه الرئيسة إلى ما قبل 40 سنة، لكنه في الوقت نفسه يتحدث عن مشاكل الزمن الحالي، اليوم. يريد الفيلم توضيح سبب وجود اللاجئين السوريين في المخيم، من خلال أحداث الفيلم، ومن خلال علاقة الجارة حنا مع الطفل شيرو. تشعر حنا بمصيبة هذا الطفل، والضغط النفسي والجسدي الذي يعاني منه؛ لذلك تقدم له صفارة كشارة لنجدته عندما يكون في ضائقة.

“ها قد أتيت” جملة تكررها حنا في الفيلم، كردٍّ على الصفارة، وبلا صفارة أيضًا. أحيانًا لا نحتاج إلى صفارة كإنذار بالخطر المحيق بأعزائنا. هذا الفيلم يحمل رسالة واحدة، رسالة محبة واحترام الإنسان الآخر المختلف. اختلاف ديني، ثقافي، سياسي، اجتماعي، عقائدي، لغوي…أي اختلاف.

جملة “ها قد أتيت” ليست فقط رسالة أمل، بل تعني أيضًا الخلاص، تعني أنني أساندك وأقف معك، وأريد مداواة جروحك وانتشالك من الغرق.

إنها صرخة أمل في نهاية الفيلم. منذ خمسين سنة، الشعب السوري بكل أطيافه ومكوناته بحاجة للأمل والإنقاذ والمساعدة. بحاجة إلى من يستجيب لصفارته المكتومة.

حصل “جيران” حتى الآن على 63 جائزة عالمية، لكن الاحتفاء الجماهير كان الأهم.

كنت أتمنى أن أصور فيلم “جيران” في القامشلي، كي أكون قد صورت فيلمًا بإنتاج عالمي ضخم في بلدي.

مخيم دوميز

الأطفال الذين مثلوا في فيلم “جيران”، أطفال لاجئون يعيشون في مخيمات كردستان العراق. من خلال فيلمك، قام هؤلاء الأطفال برحلة مزدوجة، الأولى إلى طفولة آبائهم في الثمانينيات، والرحلة الثانية هي إخراجهم من مخيم اللجوء إلى عوالم الفن السابع. حدثنا عن تجربتك مع هؤلاء الأطفال الذين قدموا تحت إدارتك نتائج مدهشة فنيًّا؟

حاولت جاهدًا أن أختار ممثلين يتحدثون لغاتهم ولهجاتهم المحلية. ينطبق الأمر نفسه على الأطفال الذين مثلوا في الفيلم، أردت أن يكونوا أطفالًا أكرادًا بلهجة مناسبة لمكان أحداث الفيلم، أي القامشلي، أو الجزيرة السورية.

كنتُ أبحث عن الطفل شيرو، بطل الفيلم، ذهبنا لعمل (كاستينج) في مخيم دوميز للاجئين الكرد السوريين في كردستان العراق. خلال رحلة البحث عن شيرو التقيت بمجموعة كبيرة من الأطفال، اخترت منهم من أصبحوا طلاب المدرسة في الفيلم. كنا نأخذهم يوميًّا من مخيم اللجوء إلى موقع التصوير، كانت رحلة بين عالمين مختلفين جدًّا. أعتقد أن الأطفال استمتعوا بهذه الرحلة لأقصى حدٍّ، كانوا نجومًا صغارًا بين ممثلين محليين وعالميين، كما أنهم استمتعوا بكواليس التصوير، ورؤية المعدات، وفريق العمل القادم من أوروبا، بالإضافة إلى استمتاعهم بفترات الراحة والطعام والفاكهة التي كان يتخللها الكثير من اللعب والضحك.

هؤلاء الأطفال اللاجئون الذين مثلوا للمرة الأولى في حياتهم، كان يتم التعامل معهم مثل بقية الممثلين العالميين في الفيلم. نفس الطعام ونفس الاهتمام والاحترام على كافة المستويات.   

أعتقد أن إخراجهم من المخيم فتح أمامهم أبوابًا واسعة من الأمل والطموح. إنهم أطفال موهوبون، مثلوا بشكل رائع. نفَّذوا بدقة تعليماتي كمخرج. أحبوني وأحببتهم. إنهم يعيشون في قلبي اليوم كأطفالي.

أحداث الفيلم تدور في بيئة فقيرة: بيوت طينية، فلاحون فقراء… لكنك تمكنت بعصا سحرية من تحويل العناصر البسيطة إلى مهمة وصارخة بالجمال: زر الكهرباء، الصافرة، البالون، حتى تابوت الجد قدمته بشكل جميل، كلعبة في باحة المنزل مع وصول جهاز التلفاز. بالإضافة لهذه الجمالية، منحت هذه العناصر رمزية عالية. فما وصفتك لتحويل البسيط العادي إلى مدهش؟

أطروحة الماجستير التي قدمتها في تشيكوسلوفاكيا أثناء دراستي، كانت بعنوان (وظيفة الرمز في السينما). الرمز كلغة، كلون، كمادة، كحديث… الرمز كشكل من أشكال التعبير. لذلك اعتمدت هذه العناصر البسيطة في الفيلم، مثل النخلة، قتل القطة، البالونات، الكهرباء، السيارة…

السينما عبارة عن خيال وفانتازيا ورموز، نحن لا نرى في الحياة آلاف البالونات الملونة في السماء، لكننا في الفيلم نراها وبألوان ممنوعة في سوريا ودول أخرى في الشرق الأوسط، هي ألوان العلم الكردي.

حاولت إيجاد توازن بين الواقع بكل صفاقته وبشاعته والرموز، للتعبير عن جماليات فكرية وسينمائية، وإيصال رسائل لنقد هذا الواقع البشع.

كنتُ أبحث عن الطفل شيرو بطل “جيران”، فذهبنا لعمل (كاستينج) في مخيم دوميز، وخلال رحلة البحث التقيت بمجموعة الأطفال الذين أصبحوا طلاب المدرسة.

الأطفال اللاجئون الذين مثلوا في الفيلم، كان يتم التعامل معهم مثل بقية الممثلين العالميين. نفس الطعام ونفس الاهتمام ونفس الاحترام.

ضريبة الصراحة

هل نستطيع القول إن مانو خليل يستطيع نقد بشاعة الواقع؛ لأنه مخرج وسيناريست ومنتج مستقل؟ أي أنك لا تخضع لرغبات شركات الإنتاج أو الحكومات؟

في النهاية صناعة الفيلم تعني الأموال. 400 إنسان، فريق العمل، لا يعملون بلا نقود. أنا لم أرغب في حياتي أن أكون طباخًا يسأل زبائن المطعم كيف يريدون الوجبة؟ أريد تقديم وجبتي والحكم عندك. أنا أحاول عرض قضيتي وفكرتي بشكل فني وبصراحة.

قد تكون ضريبة هذه الصراحة باهظة أحيانًا. مثلًا، عندك أفلام منعت من العرض؟

معك حق، حتى فيلمي الأخير “جيران” منع من العرض في الشارقة قبل عدة أشهر.

لماذا؟

بعد حصولي على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي. دعيت إلى مهرجان الشارقة للطفولة والشباب. أحبوا الفيلم كثيرًا، ورغبوا في عرضه خلال المهرجان، في شهر أكتوبر 2022 أرسلت الفيلم، وأرسلوا بطاقة الطائرة. كما أن الصحافة الإماراتية رحبت بالفيلم، ونشرت بوستراته كأحد أهم أفلام المهرجان. لكن قبل السفر بيومين جاءني بريد من المهرجان يعتذرون فيه عن عرض الفيلم بسبب قرار سياسي من حكومة إمارة الشارقة، بطلب من السفارة السورية التي ادَّعت أن الفيلم يضر بالمصالح السورية والعلاقات الأخوية بين الإمارات وسوريا. ومنع عرض الفيلم.

لكن بعد شهرين عرض الفيلم في مهرجان “ميتا” في دبي، وحصل على جائزة لجنة التحكيم. أن يحاربني نظام البعث في سوريا، ويمنع عرض أفلامي يعني أنني أقدم فنًّا جيدًا.

قدم “جيران” أطيافًا مختلفة من الشعب السوري، كما أنك من خلاله قلت لكل متابعي السينما من هم السوريون، وشرحت للأوربيين لماذا أصبح السوريون جيرانهم اليوم. بعد هذه الإنجاز السينمائي والإنساني؛ ماذا تقول للمؤسسة العامة للسينما في سوريا؟

درست السينما في تشيكوسلوفاكيا التي كانت دولة شيوعية. وأعرف جيدًا كيف يعمل مقص الرقيب في هذه الدول. أعرف أن مقص الرقيب عندهم لا يقطع الأفكار فقط، بل الرؤوس أيضًا. إنهم قادرون على قطع الألسن والكرامة الإنسانية. المؤسسة العامة للسينما في سوريا كأي فرع مخابرات سوري، همه وهدفه الوحيد هو خدمة النظام السوري. منذ استلام نظام البعث مقاليد الحكم في سوريا، تم تأسيس هذه المؤسسة التي تبحث عن إيجاد سينما تحويل الناس إلى عبيد للنظام. أقول لهذه المؤسسة إن الخراب في سوريا اليوم بسبب نظامكم البعثي الدكتاتوري الإقصائي. وأقول للمسؤولين عنها: لقد صنعت هذا الفيلم بسبب التغيير الديموغرافي في المناطق الكردية، وبسبب إرسال معلمين متشبعين بالعنصرية واليمينية إلى مناطقنا، معلمون يضربون الأطفال لأنهم يتكلمون لغتهم الأم! صنعت الفيلم لأظهر أيضًا كيف خرب النظام العلاقات الإنسانية بين مكونات المجتمع السوري.   

المؤسسة العامة للسينما في سوريا همها، كأي فرع مخابرات سوري، خدمة النظام.

نجاح جماهيري

أثناء عرض فيلمك في مهرجان دهوك، بقي الجمهور في الصالة ساعتين بعد الفيلم لرؤيتك ولحضور النقاش معك. غدأ سيعرض فيلمك في سينما “إمباير” في أربيل، وقد نفذت البطاقات قبل العرض بأسبوع. أفلامك تنجح على المستوى الجماهيري والمستوى النقدي، وتحصل على جوائز عالمية مهمة. كيف تستطيع تحقيق هذه المعادلة الصعبة؟

حصل الفيلم على رد فعل إيجابي من الجمهور في أغلب الدول التي عرض فيها. أذكر أنه عندما عرض في السعودية، قامت سيدة سعودية محترمة بلباسها التقليدي من بين الجمهور، جاءت إلي وقالت إنها تتابع الدراما السورية والأعمال العربية، لكنها تعتبر أن فيلم “جيران” مميز لأنه يدخل القلب مباشرة. وأنه فيلم يضع الدواء على الجرح.

عرض الفيلم في الهند أيضًا. في منتصف عرض الفيلم في كاليكوتا، بدأ الجمهور بالتصفيق. في كندا وأمريكا والهند ودهوك.. في كل مكان عرض فيه الفيلم، كانت الرسالة الإنسانية تصل الجمهور. أعتقد أن هذا هو سر نجاح أي عمل فني.

الجمهور الكردي في دهوك صفَّق للفيلم عدة مرات خلال العرض. وكان بعضهم يصرخون: تعيش كردستان، تحيا السينما الكردية، يعيش مانو خليل…

إنه شعب يرغب في أن يرى معاناته تصل العالم من خلال شاشة السينما. ومن خلال أفلام مهنية وفنية.

في مسيرتك المهنية الكثير من الريبورتاجات والأفلام الوثائقية، هل نستطيع القول إن مانو خليل كرس نفسه الآن لصناعة الأفلام الروائية الطويلة فقط؟

في بداية وصولي إلى سويسرا عملت في التلفزيون السويسري، كي أستقل ماديًا وأتمكن من تأسيس شركة سينمائية لإنتاج أفلامي بنفسي. أنا شخص ترك عائلته ووطنه وأصبح لاجئًا، كان يجب أن أثبت نفسي في وطني الجديد. وللرد على سؤالك بدقة: لن أتوقَّف عن عمل الأفلام الوثائقية، أحضر حاليًا لفيلم وثائقي حول الوضع في الشرق الأوسط.

كمخرج؛ لا أفرق بين الفيلم الوثائقي والفيلم الروائي. كدراسة؛ تخصصت في مجال الفيلم الروائي، لكنني أعشق الأفلام الوثائقية أيضًا. عملت فيلمًا وثائقيًّا في سويسرا يحمل اسم “جنان عدن”، وهو يعدُّ واحدًا من أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما السويسرية، إنه يحتل رقم 37 على هذه القائمة. بالإضافة إلى أفلام وثائقية أخرى حاصلة على جوائز مهمة أعتز بها. لقد ساعدني العمل في التلفزيون على إنتاج الأفلام التي أريدها.

حققت المملكة العربية السعودية مؤخرًا انفتاحًا كبيرًا في مجال السينما، من ناحية الإنتاج، وافتتاح الصالات، وإقامة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الذي حصلت فيه على جائزة أفضل سيناريو في دورته الأولى. حدثنا عن هذه الجائزة، ومشاركتك في مهرجان البحر الأحمر؟

من الجميل جدًّا أن يحصل هذا الانفتاح الكبير اليوم في السعودية. عندما سمعت أنه سيكون هناك مهرجان سينمائي دولي في المملكة، قدمت فورًا فيلم “جيران” الذي اختير ضمن المسابقة الرسمية. وقد كان هنالك مهرجان آخر يرغب بعرض الفيلم، لكن مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي كان يطلب العرض الأول للفيلم في العالم العربي؛ لذلك اعتذرت من المهرجان الآخر، وفضلت الذهاب بفيلمي إلى المملكة العربية السعودية. حتى أنني أجلت مشاركتي في مهرجان دهوك للسينما الكردية؛ لأنني كنت أرغب في عرض فيلمي في السعودية. عرض الفيلم مرتين في المملكة، بحضور الممثلين ونجوم الفيلم، وقد كان هنالك رد فعل رائع من قبل الجمهور، وحصل الفيلم على جائزة أفضل سيناريو من يدي جيوزيبيه تورناتوري، صاحب الأوسكار عن فيلمه “سينما باراديسو”. سلمني تورناتوري الجائزة، وهو يقول لي بالإيطالية: “ون بيليسيمو فيلم”. أي: “إنه فيلم رائع”.

في بداية وصولي إلى سويسرا عملت في التلفزيون كي أستقل ماديًّا وأتمكن من تأسيس شركة سينمائية لإنتاج أفلامي بنفسي.

دعم لا محدود

ماذا يقول المخرج الكردي العالمي مانو خليل للسينمائيين السعوديين بعد تطور الحراك السينمائي في المملكة؟

السعودية اليوم تقدم دعمًا كبيرًا للشابات والشباب في مجال صناعة السينما، وتقدم دعمًا عالميًّا أيضًا في هذا المجال. أريد أن أقول للسينمائيين السعوديين، إنها الفرصة المناسبة لتطوير أنفسكم وإثبات وجودكم عالميًّا. أنا واثق أنه بوجود هذا الدعم اللامحدود لكم في بلدكم، ستنتشر السينما السعودية عالميًّا بعد سنوات قليلة. أنتم من بلد يشجع اليوم الفنانين وصناع السينما ويدعمهم، وأنا، مع الأسف، من بلد يحارب السينمائيين، ويمنعهم من العمل.

بدأت عمليات التحضير لفيلمك الروائي الجديد. هل تستطيع أن تحدثنا قليلًا عن هذا المشروع؟

الفيلم الجديد بعنوان “لحظات”، وهو قائم على مبادئ فلسفية حول العلاقات بين البشر. الفيلم مبني على ثلاث قصص لبشر تلتقي مصائرهم بدون أي تخطيط. سيكون الفيلم بلغات عدة: العربية، الكردية، الألمانية، والتركية. هو فيلم عن تلاقي البشر عاطفيًّا، أخلاقيًّا، وإنسانيًّا.

فاصل اعلاني