• English
  • 14 يناير، 2025
  • 5:06 ص

ما هي السينما الحديثة

ما هي السينما الحديثة

كتابة : أدريان مارتن - ترجمة: أمين صالح

4 December، 2023

كتابة : أدريان مارتن
ترجمة: أمين صالح

من بين أجمل المقالات النقدية في القرن العشرين، تلك المقالة التي كتبها المنظّر الأدبي رولان بارت، كتحية تقدير وثناء للمخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنتونيوني (1912- 2007) وجهها بارت في 1979 بمناسبة منح مدينة بولونيا جائزة تكريمية خاصة لأنتونيوني.
في العام 1964 قدّم أنتونيوني فيلمه “الصحراء الحمراء”، وهو العمل الحاسم في السينما المعاصرة، من عدة نواحٍ. بعد عامين، سوف يستخدم بازوليني هذا الفيلم كبرهان على اتجاه متنامٍ في السينما الشعرية، حيث الحالة الذهنية المضطربة، للشخصية الرئيسة، وفّرت الذريعة للأسلوب المتحرّر في السينما.
ما الذي يهم هنا، هل المحتوى (القصة والشخصيات) أم الشكل، التلاعب بالتكوين والمظهر واللون والإيقاع والصوت؟


فيلم “الصحراء الحمراء” طرح هذا السؤال بطريقة مباشرة، بما أن بطلته جوليانا (مونيكا فيتي) تائهة في عالم يصوّره أنتونيوني بطرق غير واقعية، واصطناعية على نحو صريح ومحسوس: الأشجار والأعشاب، على سبيل المثال، مصبوغة بألوان أخّاذة، وغير طبيعية. والعالم الجديد، الغريب، الذي يحيط بها، رغم أنه يعكس حالتها الذهنية، يبدو أيضًا مستقلًا، منفصلًا عن ذاتيتها الشخصية. وقد علّق غودار على الفيلم قائلًا: “إذن الدراما هنا لا تعود سيكولوجية، إنما تشكيلية”. فرد أنتونيوني قائلًا: “هما الشيء ذاته”.
بالنسبة لبارت، هذا الاقتران أو الالتحام بين السيكولوجي والتشكيلي يتوافق مع شعور أنتونيوني الحساس والمحب للاستطلاع تجاه العالم الجديد في منتصف الستينيات، والذي وجد نفسه فيه كراصد حليم وصبور: “الإدراك الذي تشعره لهذه المرحلة ليس هو إدراك المؤرخ أو السياسي أو الأخلاقي، إنما إدراك الشخص المثالي (اليوطوبيّ) الذي يسعى لفهم العالم الجديد بتفصيل دقيق؛ لأنه يريد أن يكون جزءًا منه. يقظتك كفنان هي يقظة متّقدة، يقظةُ رغبة”. ويواصل بارت خطابه، في هذا النص الوجيز لكن الرائع: “لأنك فنان؛ فإن عملك منفتح على الحداثة. الكثيرون ينظرون إلى الحداثة بوصفها راية معركة مرفوعة ضد العالم القديم وقيمه التوفيقية، التي هي عرضة للشبهة. لكن في حالتك، هي ليست العبارة الجامدة لمعارضة سطحية: بالفعل هي النقيض. الحداثة هي الصعوبة الفعالة في متابعة ما يفعله الزمن من تلف وخراب، ليس في مستوى التاريخ الكلي فحسب، لكن أيضًا ضمن التاريخ الصغير الذي به يُقاس وجود كل واحد منا. عملك، الذي بدأ بعد فترة قصيرة من اندلاع الحرب، تطوّر خطوةً فخطوة طوال المسار المزدوج لليقظة، في اتجاه العالم المعاصر، وفي اتجاه نفسك”.
إذن، هكذا يمكن لنا الشروع في كتابة تاريخ السينما الحديثة، وتحديد مجرياتها الرئيسية من البحث الجمالي والفكري. التلف والخراب الذي يسببه الزمن ملحوظ على العالم ككل بواسطة حربين عالميتين، وملحوظ على أولئك الأفراد الذين، بطريقة أو بأخرى، يكافحون من أجل تحديد هُوياتهم، في ما يتعلّق بالأزمنة والحساسيات المتغيّرة. نعود ثانيةً إلى بارت الذي يقول عن أنتونيوني:
“كل فيلم من أفلامك كان، على المستوى الشخصي، تجربةً تاريخية: هجْر مشكلةٍ قديمة، وصياغة سؤالٍ جديد”.

موطئ قدم ووريث
لكن دعونا الآن نخطو إلى الوراء بضع خطوات. من بعض النواحي، السينما كانت دائمًا حديثة.. “راية معركة مرفوعة ضد العالم القديم”. السينما هي طفلة القرن العشرين. هي موطئ قدم تكنولوجيا الاتصالات الصناعية، ووريثة نوع أو سلالة معيّنة من الرومانتيكية في الفن والفكر. في النهاية، تحوّل هذا ليكون تركيبًا فعالًا: كوسط ممتد على نطاق واسع، السينما مثّلت عصر الآلة الجديد، مع كل إيمانها بالتقدّم والفعالية في الصناعة. وبوصفها ثقافة شعبية، فقد مشت بخطى خفيفة نحو الدعابة، الطاقة، الإيقاع، وحيوية أشكال الترفيه عند الطبقات الأدنى، من السيرك إلى الرسوم الهزلية، مرورًا بكل أشكال مسرح البوليفار (الاستعراضي الهزلي). علاوة على ذلك، جاءت السينما لتحقِّق حلم فاغنر (في ما يتصل بالأوبرا): خلق عمل فني شامل: لقد خطفت كل شكل فني سابق، ومزجتها في وعاء تعبيري ضخم، سيكولوجي وتشكيلي بصورة متساوية.
ما يعنيه هذا هو أنه، منذ البداية، السينما هي عن العاطفة. ليست فقط العواطف والأحاسيس المألوفة، التي تحفل بها القصص والروايات، بل أيضًا العواطف الفريدة والاستثنائية التي يولّدها الوسط السينمائي: السرعة، الاهتياج، أحاسيس من كل نوع تنشأ من تفاعل الحركة والسكون، أو الصمت والصوت.
سواء اعتبرت نفسها تعبيرية (كما في ألمانيا)، أو انطباعية (كما في فرنسا)، السينما كانت دائمًا عن انتزاع العاطفة من وعاء القصة التقليدي، وتسليطها على نطاق واسع، ورشّها على كل حواف الشاشة الأربع: مناظر طبيعية فسيحة، وقطرات مطر بالغة الصغر ترتجف بالطريقة نفسها. وجوه وأجساد تتداخل في عوالم تقطنها، والتي من خلالها هي تتحرك. قطارات أو حيوانات، تندفع هنا وهناك، تحوّل انتباهنا عن مجرى الحبكة الخطي.
فعليًّا، كل منظّري السينما الأوائل – فاشيل ليندسي، بيلا بالاش، جان إبشتاين – أصبحوا رائين حقيقيين في لهفتهم على الإدلاء بشهادتهم في تحولات الواقع بواسطة الآلة السينمائية. هذا النزوع – إلى المفرط، إلى التجريدي، إلى العاطفي على نحو صرف ولا عقلاني- يفسّر لماذا السينما، حتى عندما تتجه نحو ما يبدو واقعيًّا، تبدو سوريالية جوهريًّا.
كل ما يُرى على الشاشة، أو يُسمع عبر الشاشة، هو أكبر وأكثر ضخامة مما هو في الأصل، وأكثر كثافة، وأكثر تأنيًا، حاملًا نوعًا مختلفًا من الثقل النوعي.

بخطى خفيفة سارت السينما، بوصفها ثقافة شعبية، نحو الدعابة، الطاقة، الإيقاع، وحيوية أشكال الترفيه لدى الطبقات الأدنى.

قيود الكلاسيكية
الفيلم، أي فيلم، هو شاهد أو صورة إيضاحية للحداثة: ذلك الشكل الجديد من الإنتاج الثقافي الذي يجلب نوعًا جديدًا من الهدف الفني داخل العالم، ونموذجًا جديدًا من الإدراك الحسّي للمتفرج الذي تغمره ظلمة مشاعة، مشحونة على نحو غريب. لكن هل كل فيلم، بالتالي، مثال مدروس للحداثة الفنية؟ بالطبع لا. الحركات الطليعية الصريحة، مهما كانت متألقة (كما في تجارب إيزنشتاين السوفيتية أو سوريالية بونويل وسلفادور دالي)، هي دائمًا هامشية في السينما العالمية. أغلب الأفلام المنتَجة لغايات تجارية تميل إلى شكلٍ معيّن من الكبح المنظّم، وضربٍ من الانضباط، والذي يسحبه نحو الكلاسيكية: الفيلم المتوازن جيدًا، المنظّم جيدًا، والقصة المرويّة جيدًا، والقوانين المتكرسة الخاصة بصنع الفن المحترف.


السينما ولدت حقًّا بعد تأسيس أغلب الفنون الكلاسيكية: الرسم الأكاديمي، رواية القرن 19، السونيتة (القصيدة المؤلفة من 14 بيتًا) الشعرية، المسرحية ذات الفصول الثلاثة، الأبيات والكورس في الأغنية. الكلاسيكية هي عن الأسلوب اللامرئي، الشكل الذي هو أنيق وناتئ على نحو مثالي، إلى حد أنه يمكن أن يمضي دون أن يكون ملحوظًا، إذا تورطنا تمامًا، كمتفرجين، في وهْم العالم الخيالي الكلي وقاطنيه، في المحتوى السردي. السينما تكون حديثة، على نحو لا مفر منه، في الانتباه الذي تفرضه علينا السينما، على نحو محتوم، تجاه الشكل بذاته في الفيلم. التحام السيكولوجي والتشكيلي. كيف يمكننا مشاهدة فيلم من إخراج لوي فوياد، فريتز لانغ، إرنست لوبيتش، كينج فيدور، أو إدغار نيفل، من دون أن نصبح واعين (ومستمتعين) لديناميكية التكوين التصويري، نمط الموضوعات المتكررة، الاقتحام المعبّر للمؤثرات الصوتية، التموجات الإيقاعية المتعاقبة التي يفرضها المونتاج؟مع ذلك، القوى الاجتماعية والثقافية الفعالة نقلوا أكثرية الإنتاج السينمائي، في غضون العقود الأربعة الأولى، إلى قيود الكلاسيكية: بعض المخرجين (مثل هوارد هوكس سابقًا، أو كلينت إيستوود حاليًا) نجحوا وازدهروا هناك، ووجدوا في الخفاء الفني تجانسًا بالغًا مع مزاجهم الخاص، وحساسيتهم العالية. آخرون، ببساطة، اختفوا داخل حالة من المجهولية. أصبحت الكلاسيكية نموذجَ عمل لأغلب الصناعات السينمائية حول العالم.

أي فيلم، هو صورة إيضاحية للحداثة، ذلك الشكل الجديد من الإنتاج الثقافي الذي يجلب نوعًا جديدًا من الهدف الفني إلى داخل العالم.

انقسام حقيقي
لأسباب عديدة، نهاية الحرب العالمية الثانية سجلت النشوء الذي لا يُنكر للانقسام الحقيقي بين الكلاسيكي والحديث في السينما. الحرب، واقعيًّا، تركت الكثير من أقطار العالم في حالة خراب ودمار. إعادة البناء، بعد الحرب، أشارت إلى ما هو أكثر من مجرد التنظيف والترتيب: الإحساس بالبدء من الصفر على كل مستويات: الأخلاق والآداب والبنية الاجتماعية وعلم الجمال. في هذا السياق، السينما أيضًا ناضلت للنهوض من الرماد. والهويات الحديثة وُلدت حرفيًّا في هذه اللحظة. أكثر صيغ أو طرائق الإنتاج السينمائي تنظيمًا وامتثالًا للأعراف والتقاليد بدأت في التفكير مليًّا، غالبًا ضد رغبتهم، في أشكال جديدة من التعبير الفني. ثم أخيرًا، مع حلول الستينيات، انتقلت الحداثة، دفعةً واحدةً، من الهامش الطليعي إلى حقل الضوء الكشّاف في محيط السينما العالمية، بريادة كل حركات الموجة الجديدة المتفجرة في فرنسا، إيطاليا، البرازيل، اليابان.
روبرتو روسيليني، في تلك الفترة، كان واحدًا من أوائل وأهم المخرجين الذين بشَّروا بحقيقة أن شيئًا غريبًا وجديدًا جذريًّا، شيئًا غير مألوف نضاليًّا، قد دخل عالم السينما العالمية. لكن ما هو حديث بشأن روسيليني لم يكن مدرَكًا بيسر في ذلك الحين؛ نظرًا للضباب المربك، المحيط بتلك الحركة الناشئة في السينما الإيطالية، في فترة ما بعد الحرب، والتي عُرفت باسم الواقعية الجديدة.. الحركة التي أكّدت على الطبيعية (مواقع حقيقية، ممثلون غير محترفين، استلهام القصص من التحقيقات الصحفية) وتفضيل ذلك على أي نوع من الاصطناعية.

روما مدينة مفتوحة
عندما نقرأ اليوم مقالات بازان و كراكاور عن أفلام روسيليني، الثلاثية التاريخية: “روما مدينة مفتوحة” 1945، “Paisà” 1946، “ألمانيا سنة صفر” 1948. ولو وضعنا جانبًا كليشيهات الواقعية الجديدة التاريخي، سنرى أن هؤلاء النقاد أدركوا تمامًا ما صرنا نستجيب إليه في زمننا: طريقة جديدة في تصوير الناس والعالم الذي يعيشون فيه، وطريقة جديدة في سرد (أو رفض سرد) قصة.
روسيليني في أفلامه، بوعي، بدأ من العام صفر. حيث الخرائب من كل صنف وفي كل مكان، والصلات المقطوعة بين الأفراد والعائلات والمؤسسات الاجتماعية (المدرسة، المستشفى، الجيش، السجن). وهناك أيضًا شيء غير كلاسيكي على نحو مربك، أو مضاد للكلاسيكية على نحو متعمّد، في الطريقة التي بها مارس روسيليني عمله كمخرج: حيث سينما الأجزاء والإسكتشات، التغيّرات المفاجئة في الإيقاع، التجاور أو المزيج الغريب للطابع الدرامي والهزلي. إنها سينما التلقائية والارتجال (حتى عندما يكون ذلك المؤثر التلقائي مرسومًا بعناية). سينما المجازفة وليس سينما السيادة أو السيطرة التي تميّز عرف الإخراج الكلاسيكي.

سجلت نهاية الحرب العالمية الثانية النشوء الذي لا يُنكر للانقسام الحقيقي بين الكلاسيكي والحديث في السينما.

الأفلام البيضاء
لكن ما كان روسيليني يفعله، بطريقة مكثّفة وقوية في السينما، كان- في الواقع- مترشحًا في أماكن عديدة خلال النصف الثاني من الأربعينيات. في أفلام جان رينوار، في المرحلة الأميركية، وفي أفلام أوتو بريمِنْجر من النوع الإثاري، ذات الميزانية المنخفضة، والتي سُميّت “الأفلام البيضاء” مقابل “الأفلام السوداء”. تلك النوعية (البيضاء) تتميّز بالاهتمام بسيكولوجية الشخصية، حيث لم تعد الشخصيات مركّبة، وثلاثية الأبعاد، أو تمثّل أفرادًا متماسكين داخليًّا. بالأحرى، هي شخصيات توجد وتحيا في اللحظة الحاضرة، مجسّدة حالات أو مشاعر معيّنة، وهي بسلاسة ورشاقة تتغيّر من لحظة إلى أخرى.
وقد وصف تروفو ذلك بشكل جيد في 1962، حين قال: “لم تعد سيكولوجية الشخصيات تثير اهتمامه.. إنه الشعري عوضًا عن السيكولوجي”.

ضرب جديد من الأداء
في غضون ذلك، ظهر أولئك المخرجون الأميركان الذين انبثقوا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية – مثل إليا كازان ونيكولاس راي اللذيْن اعتمدا على منهج ستانيسلافسكي في الأداء المنهجي method acting – كانوا منهمكين في تحرّي واستكشاف أسلوب جديد في الأداء لتوصيل تلك الأفكار والتصورات المعاصرة بشأن سيكولوجية الشخصية: الناشطة، القلقة، العصبية، صعبة الإرضاء، العصابية، المستغرقة في التفاصيل السطحية بشأن الطرائق المميّزة في تحريك الجسد والتعبير بالوجه. ربما ارتبط “المنهج”، في حينه، بقانون الواقعية، لكنه ناقض قانون الخفاء وقانون التناسب والأناقة الكلاسيكية. هنا الأداء صار معروضًا مرئيًّا. ولم يعد المؤدي يختفي داخل أو أسفل الشخصية. وقد رأينا تأثير هذه التغيّرات أو التحولات في أعمال مخرجين برزوا في المرحلة الكلاسيكية، مثل جورج كيوكور. ذلك الأداء المنهجي مارس تأثيره بالضرورة على التطبيقات القياسية في الميزانسين أو تحريك الكاميرا، إذ لم يعد ممكنًا الوثوق في امتثال الممثل لمتطلبات التصوير، من المكوث في سكون من أجل التهيئة للقطةٍ محْكمة أو متقنة، أو للقطةٍ عكسية، خصوصًا وأن حركة أجساد الممثلين أضحت تتخذ أشكالًا وأوضاعًا لا يمكن التنبؤ بها.

بعد الحرب العالمية الثانية انهمك إليا كازان ونيكولاس راي في اكتشاف أسلوب جديد لتوصيل الأفكار والتصورات المعاصرة الخاصة بسيكولوجية الشخصية.

بيرغمان وما بعده
في تلك الفترة، ظهر مخرجان سيصبحان في وقت قصير من المبدعين العظماء في السينما الفنية: أنتونيوني في إيطاليا، وإنجمار بيرجمان في السويد. كان فيلم بيرجمان “الصيف مع مونيكا” (1952) الذي استقبله النقاد الفرنسيون بحفاوة بالغة، باعتباره نموذجًا جديدًا للفيلم الحديث. وقد كتب جودار عن الفيلم، في 1958، قائلًا إن فيلم بيرجمان يصوّر “عالـمًا يقع بين طرفة جفْن وأخرى، وحزنًا بين دقّتيّ قلب، وابتهاجًا بين تصفيق وتصفيق”. مع نهاية الخمسينيات، كل التحريات والاستكشافات وأشكال التجريب، التي تحدّد وتعرّف السينما الحديثة، قد رُسمت بالتفصيل في حالة جنينية: في رفض الكلاسيكية، لا بدَّ أن تكون هناك طرائق جديدة للتعامل مع السرد، مع الأداء وخلق الشخصية، وبالتالي مع الجسد والإيماءة، مع تصوير المكان والزمن.
في تاريخ السينما الحديثة، نجد أن بعض هذه الموضوعات أحيانًا تُزال معًا، إذ لا يحتوي العمل الفني على قصة أو أجساد أو زمن خطي أو عالم حقيقي، لكن دائمًا هناك محاولة جديدة لتشكيل مجموعة فنية، وطريقة جديدة لطرح أسئلة دائمة حول معضلات السينما.. غير أن كل هذا يأتي تحت شعار التوق إلى الحرية. والتاريخ يواصل مسيرته. سنوات الستينيات كانت بلا شك عصر السينما الحديثة. من أنييس فاردا وألان رينيه (فرنسا) إلى سكوليموفسكي (بولندا) وناجيزا أوشيما (اليابان). من فلليني وماركو بيلوكيو (إيطاليا) إلى جلوبير روشا (البرازيل) وأندريه ديلفو (بلجيكا). من أرثر بِن وجيري لويس (أميركا) إلى راؤول رويث (تشيلي) وفيرا كيتيلوفا (تشيكوسلوفاكيا). من بيتر وايتهيد وكين لوش (بريطانيا) إلى ميكلوش يانشو (هنغاريا). مخرجون جدد ظهروا، على ما يبدو كل بضعة شهور، من أمم منسية أو غير معترف بها، وجرفوا بعيدًا التقاليد السينمائية، وقاموا بتجارب جريئة في الأسلوب السينمائي. أما الكلاسيكيون العظام فقد حققوا أعمالهم الأخيرة في هذه الفترة: هوارد هوكس بفيلمه “إلدورادو” (1967)، جون فورد بفيلمه “سبع نساء” (1966) وهيتشكوك. في حين بلغ بونويل ذروة مسيرته، وأعلن عن ولادته الجديدة عبر تحف فنية ضمّت: الملاك المدمر (1962)، وحسناء النهار (1967).

من التقشف إلى النوع
السبعينيات وفّرت مرحلة من تكثيف هذا الكسب، الأقل انتقائية وفتنة، الأكثر تركيزًا. من فاسبندر وفيم فيندرز في ألمانيا، إلى مونت هيلمان وإيلين ماي في أميركا، من جان أوستاش وفيليب غاريل في فرنسا، إلى سهراب شهيد سالس Saless في إيران، من شانتال أكرمان في بلجيكا وفيكتور إيريثه في إسبانيا، إلى جان ماري ستروب.. روح جديدة من الطليعية انبثقت، متوافقة خصوصًا في اتجاه التقشف: التحرك بعيدًا عن المونتاج المركّب، السريع والمتلاحق، الذي كان شائعًا في العشرينيات في الاتحاد السوفيتي.
السينما الحديثة في السبعينيات كشفت، من الآن فصاعدًا، عن ولعها الدائم باللقطات الطويلة المتواصلة، ممدّدة على نحو متقن أمد اللقطة، وأوضاع الكاميرا البعيدة، الساكنة غالبًا. جودار، بجسارة، أعاد خلق نفسه مرتين: في تكوينه لمجموعة دزيغا فيرتوف وإنتاج أعمال نضالية، ثم في تجاربه التي تختبر وتستكشف تقنية الفيديو الجديدة في التلفزيون والسينما. الثمانينيات مثّلت مرحلة صعبة وغير عادية في مغامرة السينما الحديثة. الراديكالية السياسية، الجدل المروّع، والتجارب الشكلية الجريئة في العقود السابقة، كل هذا قد تبدّد، أو ربما تعرّض للكبح من قِبل قوى السوق في أنحاء الكوكب.
في عالم النقد السينمائي والنظرية، خصوصًا في النطاق المزهر من الدراسات الثقافية، توجَّه الانتباه مرة أخرى، كما حدث في الخمسينيات، إلى الأشكال والأنواع الشعبية: أفلام الأكشن (التي تجدَّدت في هونغ كونغ) الأفلام الاستعراضية (المستمرة مع بوليوود) كوميديا المراهقين حسب الصيغ التجارية، وأفلام الرعب.
كل هذا العمل (في الفيلم والنقد) يؤلف بفعالية جزءًا من التركيب المعقّد ضمن تاريخ الحداثة، بدلًا من أن يكون انفصالًا حاسمًا ونهائيًّا عنه. ويمكننا أن نسمّي هذا “ما بعد الحداثة”. إن كان هناك فيلم واحد، في بداية الثمانينيات، والذي يُظهر كيف كانت السينما الحديثة على وشك أن تتطوّر في العقود التالية، فهو فيلم كريس ماركر “بلا شمس” Sunless (1982).. وهو فيلم تأملي مضلّل، ضرب من اللغز الأدبي- السينمائي (قصة حياة من بالضبط؟)، لكنه أيضًا بانوراما موجزة للتجربة السياسية التي عاشتها الشعوب، وشهدت عليها في العديد من الأماكن منذ الخمسينيات. فضلًا عن ذلك، هو في وضعه الملتبس المثير للفضول أو الاهتمام، بوصفه مقالةً سينمائية essay-film، أزاح ثانيةً الحواجز بين الوثائقي والدرامي، بين الريبورتاج (التحقيق) الموضوعي والتأمل المتخيّل، بين التحليل والفنتازيا. الفيلم أيضًا كان نبوئيًّا في قبوله المبكّر لتقنية الفيديو الديجيتال: ليس فقط التسجيل الصرف للواقع، بل أيضًا التحول البصري والسمعي، من خلال حساسية سوريالية جديدة، وتبيين كيف ستصبح الصور والأصوات، في القرن 21، أسلوب حياة كليّ الوجود، ومتوفرة في هواتفنا النقالة وشاشاتنا الشخصية، والتي لم تعد عالـمًا خفيًّا وملغزًا ومستقلًا، بل أضحت شيئًا قريبًا منا كما جلودنا، وضربًا من الطبيعة الثانية.
مع أن كتابي “ما هي السينما الحديثة؟” يتطرق إلى بعض رموز السينما الحديثة في فترة ما بعد الحرب، مثل كازافيتيس، ماركر، جودار، بريسون، بولانسكي، إلا أن التركيز الأساسي هو على المبدعين المعاصرين الذين برزوا في الثمانينيات أو التسعينيات، من هوْ شاو شين وتساي مينغ ليانغ في تايوان إلى كيارستمي في إيران، من أكرمان وروبرت كرامر إلى بيدرو كوستا في البرتغال ونايومي كواسي في اليابان. السينما الحديثة، أكثر من أي وقت مضى، تجد تعريفها في التوتر بين اندفاع نحو كوزموبوليتانية سريعة، والميل إلى الإقليمية، الرغبة في الإقامة في مكان واحد، ورصد قوى وآثار التاريخ وهي تغوص عميقًا هناك.

السينما الحديثة في السبعينيات كشفت عن ولعها الدائم باللقطات الطويلة المتواصلة، وأوضاع الكاميرا البعيدة، الساكنة غالبًا.

مغامرة الحديث
في آخر نتاجات السينما الحديثة، نرى تبادلات جديدة، خصوصًا بين الوثائقي والدرامي، والتي هي تزيح ثانيةً الحدود الفاصلة القديمة بين المشهدي واليومي، أو السيكولوجي والتشكيلي. التكنولوجيا الرقمية قد سرّعت هذا التحوّل الأخير، كما فعل التقدّم المستمر للعمل السمعي- البصري في المعارض الفنية والمتاحف (فاردا، كوستا، أكرمان، إيريثه، كيارستمي، ماركر، رويث.. كلهم قاموا بهذه الخطوة)، أيضًا في عالم ثقافة الإنترنت (حيث يحقّق ديفيد لينش وآخرون النجاح والازدهار).
من السهل، عند التطرق إلى السينما الحديثة، أن تنتابنا حالة من الحنين والندب؛ لكوننا افتقدنا راديكالية الستينيات والسبعينيات، لكن لنتذكّر ما قاله رولان بارت، في حديثه عن أنتونيوني:
“السينما الحديثة لا تنتهي عندما يبدو أن مرحلة مشرقة من الحداثة الاجتماعية تبدأ في الأفول. بالأحرى، مثل آلة حساسة جدًّا، يتبع الفنان سلسلة متوالية من الجديد التي يقدّمها إليه تاريخه. عمله ليس انعكاسًا ثابتًا”.
وهذا ينطبق على السينما كشكل فني.

(فصل من كتاب: ما هي السينما الحديثة، الصادر في 2008)

فاصل اعلاني